
البحر، والرواية الحضارية: قراءة في رواية “رياح المتوسط” لعبد الكريم عباسي
-
حسام الدين نوالي (°)
1- مدخل
تتأسس هذه الورقة على تساؤل مفاده: هل حضور البحر (لفظاً وفضاءً) داخل العمل السردي يمنح هذا العمل بطاقة العبور للانتماء إلى أدب البحر؟
تماما مثلما نتساءل هل حضور القمر والنجوم يجيز الحديث عن “أدب الفَلَك” و عن الفَلك داخل العمل السردي؟ أو هل ذِكر السيارات والمِقود والمكابح ومحوّل السرعة وغيرها يسمح بالحديث عن الميكانيك في القصة أو الرواية؟ أو تصنيفها ضمن “أدب الميكانيكا”؟؟
ثمة عبارة بالغة الأهمية يوردها أحمد محمد عطية في “أدب البحر”، يشترط فيها أن يكون البحر “مؤثرا في الأحداث والشخصيات وفي الرؤية الكلية للعمل الأدبي”، ما يعني أننا لسنا –فحسب- إزاء عمل إحصائي يعدد ورود البحر وأشكاله وألفاظه داخل النص الأدبي السردي، ولكن –تحديدا- نسعى من خلال هذه الدراسة إلى كشف تأثير البحر في الرؤية الكلية للعمل السردي، وفي تأثيره على تحولات الشخصيات والأحداث والمواقف، بما يجعل من البحر فاعلا داخل النص يتجاوز التأثيث الشكلي، أي أنه ينتقل من الحضور المعجمي إلى التوظيف السردي (Narraticité).
وإذا كان أدب البحر في الدراسات العربية قد حظي باهتمام دارسي السرد والشعر معا، فإن اهتمام المستشرقين –خاصّة- به ظل بارزا أكثر، غير أنه ظل مجاورا لأدب الرحلة ومتفرعا عنه، وبالتالي منشغلا في العمق بأسئلة واقع الأنا وتراثها ورهاناتها مقابل توصيف حال الآخر من حيث المغايرة والاختلاف والغرابة حينا ومن حيث النموذج والضوء الدال على الحضارة حينا آخر.
ولعل مجاورة البحر والرحلة ما تزال تشكّل إغراء في عدد من السرود المغربية، ومنها رواية “رياح المتوسط” لعبد الكريم عباسي.
لكن تنبغي الإشارة إلى أن هذه الرواية لا تشتغل على البحر بشكل مباشر، فلا يتم تقديمه باعتباره فضاء، ولا مكانا، بل لا يستند إليه الروائي في تنقل الشخصيات، ويختار -بدَله- التنقل بالطائرات. وبالمقابل، سنجد كلمة “المتوسّط” التي تحيل على البحر الفاصل بين المغرب وأوربا لم يتم ذكرها إلا مرتين داخل العمل، لكن سيشعر القارئ أن ظِل البحر وتأثيرَه وإثارته لعدد من الأسئلة يبقى مهيمِنا ومركزيا، كما لو أن الغياب يصير حضورا.
رواية “رياح المتوسط” هي نص مكتنز بالهجرة. والهجرة في دلالتها الأولى تنطوي على الرحيل من جهة، وعلى التحوّل من جهة ثانية.
الرحيل يستضمره العنوان في مكوّنَيه: “الرياح” التي بها تجري السفن –ولو بما لا تشتهي-؛ و “المتوسط” الذي هو بحر عليه تجري السفن. وسيتوزّع (هذا الرحيل) في عدد من الأحداث التي تحفل بها الرواية؛ وهي في مجملها تلقي الكثير من الضوء على علاقتنا بالغرب، (وبفرنسا تحديدا)، وعلاقتنا بذواتنا أيضا، داخل السؤال الفلسفي والتاريخي حول (الأنا والآخر).
فيما التحوُّل سيصير نتاجا مأمولا أو مُرجأ حينا، ونتاجا متحقّقاً في أحايين كثيرة، وسنسعى لتحليله وفق وضعيات الشخصيات وتحركاتها وتطور الأحداث.
2 – “رياح المتوسط” والرواية الحضارية
تتّصل هذه الرواية بشكل شبكي مع المنجزات الإبداعية، ليس التراثية فقط والأمازيغية، ولكن أيضا مع عدد من الكتابات الروائية.
فالعنوان بدايةً، يتصادى مع (شرق المتوسط) لعبد الرحمان منيف، وهي رواية تطرح واقع المعارضة السياسية بالمشرق العربي وواقع المواطن تحت الاستبداد والعنف والقمع والتعذيب؛ كما يتصادى مع رواية (غرب المتوسط) لعبد العزيز جدير، وهي تتناول الوضع السياسي الداخلي في الغرب العربي، والروايتان معا لا علاقة لـ (رياح المتوسط) بهما على مستوى المادة الحكائية.
بالمقابل نجدها تتقاطع أكثر مع رواية (شمس المتوسط) لنور الدين محقق، فهما معا تدخلان ضمن “الرواية الحضارية” التي تتخذ الصلات الحضارية موضوعا لها، وهي تمتد في الأدب العربي منذ المويلحي في (حديث عيسى بن هشام) حيث يقابل الأنا العربي والآخر الغربي من المستوى العلمي والمستوى الأخلاقي؛ مرورا بالروايات التاريخية لجرجي زيدان وسليم البستاني في مقارنة الأنا العربي والآخر العثماني من حيث الإرث الحضاري الذي يستحق أن يكون حصنا من ظلم وإهانة النظام العثماني؛ ثم وصولا إلى (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، وهي تثير صراع الحضارات ومحيلة على روايات سابقة كـ (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، و(قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، و(الحي اللاتيني) لإدريس سهيل.
ما يثير انتباهي هنا هو أن (موسم الهجرة إلى الشمال) تختزل الغرب في أنثى مستجيبة، والشرق في ذَكر فحل، وتخلُص إلى تحوّل “مصطفى سعيد” من الصياد الذي يوقع بالنساء إلى طريدة يتم اقتناصها من طرف (جين موريس)، ثم سيفضي الأمر إلى قتلِها لأنه “لم يستطع أن (ينشئ) معها علاقة حميمة تجعله يشعر أنه يمتلكها من الداخل”، وهي تقريبا سيرة ميمون داخل رواية (رياح المتوسط)، فهو فحل، مثير للنساء، سيتم اصطياده من طرف “فرانسواز”، ثم لن تستطيع هي الزواج منه لأنها – رغم التحولات التي أحدَثتها عليها- فإنها لم تتمكن من امتلاكه من الداخل.
في (شمس المتوسط) لنور الدين محقق، نجد مغربية جميلة جدا، يتقرب منها كل الطلبة المغاربة القاطنين في الحي الجامعي، وسترفضهم واحدا واحدا، ثم تتعلّق بجنون بشاب فرنسي. وبالتالي تفضي الرواية إلى احتواء الآخر للأنا وهيمنته عليها.
فما يميّز (رياح المتوسط) داخل هذا المنجز الروائي المتواشِج على مستوى العنوان هو أن الشرق “ممثّلا بميمون” يتم تقديمه فحلا، مثيرا، وشهما، وهو مرغوب فيه من طرف الآخر “الممثّل في الأنثى” سواء الفرنسية فرانسواز، أو الإيطالية ماركاريتا فتاة الطائرة، أو العاهرة فتاة الحانة، فيما أن هذا العربي الأمازيغي تتجاذبه قوّتان:
-
فهو من جهة مكبّل مشدود للغرب (مثل شيخ السندباد)، ذلك أنه لم يختر العودة إلى بلده بعد سنته الأولى والثانية كما يفعل المهاجرون (ص300)، بل إنه بعد اختطافه ورميه في زبالة بإيطاليا (ص384) اندمج في الشغل في حظيرة الرجل المتقاعد “كارسيا” وزوجته، “حتى كاد ينسى أنه كان مختطفا، وأن له أهلا انقطعت بهم السبل ويئسوا من شدة انتظار ظهوره، وأوشكوا على إقامة مأتم وفاته” (ص389)؛
-
وهو من جهة ثانية لا ينصهر داخل المحيط الجديد، وتحولاته هناك تظل تحولات شكلية لا تتصل بأصوله، بل إنه سيظل على الدوام يفكّر في امتداده الذي يمثّله الجنين في بطن “فاظمة”.