-
لطيفة زهرة المخلوفي
تميزت نافذة “مساواة” بحلقات لطيفة زهرة المخلوفي حول “الأدب النسوي، تجارب ورهانات”، وهي عبارة عن قراءات في أكثر الأعمال النسائية المثيرة للاهتمام والجدل عبر تناولها السوسيولوجي لقضايا المرأة والجنس والجسد والمجتمع والقيم الموروثة، وذلك بمواقف جريئة حاولت تخطي حواجز الطابوهات والمحظورات بغاية تعميق النقاش حول المفارقات والعوالم المظلمة التي تخفي حقيقة المجتمع وراء الطقوس والتقاليد والأعراف والتصورات والسلوكات السائدة، ومن بين حلقات “الأدب النسوي” اخترنا حلقتين تناولت فيهما المخلوفي عملين مغربيين، هما كتاب “البغاء أو الجسد المستباح“ لمؤلفته الباحثة السوسيولوجية فاطمة الزهراء أزرويل، وكتاب “بلا حشومة، الجنسانية النسائية في المغرب” لمؤلفته الباحثة سمية نعمان جسوس.
° أحمد بيضي
“البغاء أو الجسد المستباح” لفاطمة الزهراء أزرويل
شكل موضوع جنسانية السوق، أرضا خصبة للبحث السوسيولوحي، وبالرغم من أن مقاربة هذا الحقل المعرفي بعيدا عن المواعظ أو التوسيمات الأخلاقية، لايزال أمامه مسار طويل للانصات الهادىء لأنين أسئلة تبوح بكم هائل من الأوجاع الانسانية تكثم حينا بالاكراه وحينا اخر بالتطبيع والتسليع، رغم كل هذا يظل التعريف بالاسهامات المقدمة في هذا الصدد ذو نجاعة وأهمية بالغة.
وفي سياق تفكيك هذا النمط من الاستباحة للكينونة عبر الجسد “السلعة”، تطالعنا الباحثة السوسيولوجية فاطمة الزهراء أزرويل، المغربية المنشأ بإسهامها “البغاء أو الجسد المستباح“، سنقف على بعض نقاط هذا العمل الذي ركز على استجوابات تراوحت بين سنوات 1985 و 1998، وشملت عينة البحث 60 أمرأة من الدار البيضاء، تراوحت اعمارهن بين 18 و 38 سنة، غير أن أغلبهن بين 20 و 27 سنة. وتنطلق الباحثة من رفض الأحكام المجتمعية الجاهزة، فالجسد هنا يصبح وسيلة البقاء، وفرصة للعيش، يغدو الأمر ترجمة لأحد أعمق وأقسى أبعاد المعاناة الإنسانية.
العمل الجنسي، أو البغاء بتعبير الكاتبة هو ظاهرة سوسيو اقتصادية، وشيوعه ليس أزمة أخلاق او انحلال قيم دينية بقدر ما هو ابن شرعي للواقع، هذا الواقع الذي ينتجه ويسهر على استمراره، وقد اشرنا في مقالات سالفة الى كون جنسانية السوق عرفت تطورا كبيرا؛ حيث لم تعد بالبساطة لنخضعها لأحكام معدة سلفا أو توصيفات جاهزة، انها معقدة ومركبة وتنتج نفسها باستمرار وفي لبوس دائم التغير مع الحفاظ على ماهية التسليع والاستباحة.
ولمقاربة الموضوع انتقلت الباحثة من العوامل المنتجة، وفي هذا السياق استحضرت التفكك العائلي، وما يخلفه من شتات في الارتباط بالمحيط الأسري، وذكرت أيضا العنف ضد النساء، وهنا يمكننا استحضار مختلف انماط العنف الجندري بما فيها الاقتصادي الذي يقود النساء الى عرض (بضاعتهن) في السوق؛ تلك البضاعة التي اختصرت التربية الاجتماعية ماهيتهن فيها، وكذا العنف الجنسي وتبعات ما يخلفه من دمار على المفعول بهن، ويمكننا هنا أيضا أن نستحضر الزواج المبكر كأحد أنماط الحيف الذي يزج بالنساء في عالم الكبار قبل الأوان، فضلا عن عوامل الانتماء الاجتماعي.
فالمغضوب عليهن طبقيا يلحقن بالسلع التي يديرها مجتمع السوق، فيصبح الزبون امام بضائع متنوعة لتلبية مختلف الرغبات باختلاق القدرات الاقتصادية، وهذا ما يلخص قولنا السالف بأنه سوق مركب؛ فالزبون الفقير يجد البضاعة التي تناسب جيبه والأعلى منه أجرا تفتح له سوق أرقى وهكذا الى أن نصل الى ما أصبح يطلق عليه “الدعارة الراقية”_ رغم اختلافنا الجذري مع مصطلح “دعارة” لأنه حكم اخلاقي وليس تحديد سيوسيولوجي_ تنتقل بنا الباحثة لتقارب عامل تواطؤ الأسر والتواطؤ العام للمجتمع الذي يحافظ على ديمومة الاستباحة، دون أن تغفل فاطمة الزهراء ازرويل ذكر أطراف هذا السوق.
وهنا استحضرت الكاتبة: عاملات الجنس كمفعول بهن أي سلع، والزبناء كفاعلين ومفعول بهم (نتاج ثقافة الكبث الجنسي وتسليع الرأسمالية لمختلف مناحي حياتنا وحميمياتنا) في الان نفسه؛ ومن الصحي هنا أن اشير الى أن اعتباري الزبناء فاعلين نظرا لأنهم يبحثون عن السلع ويدفعون الثمن، ومفعول بهم لأنهم تمظهر واضح لثقافة جوع جنسي واذلال اجتماعي ينخر مجتمع التسليع، وهو ما تكرسه مختلف البنى من الأسرة كأول مؤسسة لانتاج الاستلاب مرورا بباقي المؤسسات. دون ان نغفل هنا دور الوسطاء كطرف في تيسير تواصل العاملة بالزبون، هذا الوساطة القابعة خلف الكواليس تعود عليهم بالأرباح.
في ختام هذا البحث الذي نعتبره اسهاما صادقا وموفقا في صرح تفكيك جنسانية السوق، تواجهنا ذة. ازرويل بشهادات حية لنساء يبحن بحجم القهر والاقصاء الاجتماعي الذي يقودهن الى امتهان بيع الجسد.
إن اهمية هذا البحث الذي مر على انجازه 20 سنة، لا يعني الاكتفاء به وكأنه أجاب عن مختلف أسئلة سوق الجنس، في اخر المطاف هو محكوم بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي أفرزه، فالواقع خلية حية محكومة بالتغير المستمر ، لكن كل هذا لا ينفي عنه أهميته للمهتمات/ين والباحثات/ين على حد السواء، وهو في الآن نفسه يلزم بوجوب مواصلة النبش السوسيولوجي الجاد وتفكيك مختلف انماط الاستباحة، لمواكبة مختلف التغييرات والتطورات الطارئة عليها بما يعود بالنفع على مستقبل البحث السوسيولوجي كأحد الروافد الهامة والمفصلية في مقاربة قضايا نسوية بلدان الجنوب بشكل خاص.
تعليقات
0