إطلالة على كتابي “البغاء أو الجسد المستباح” لفاطمة الزهراء أزرويل و”بلا حشومة” لسمية نعمان جسوس

أحمد بيضي الخميس 29 يوليو 2021 - 02:10 l عدد الزيارات : 32998
  • لطيفة زهرة المخلوفي

تميزت نافذة “مساواة” بحلقات لطيفة زهرة المخلوفي حول “الأدب النسوي، تجارب ورهانات”، وهي عبارة عن قراءات في أكثر الأعمال النسائية المثيرة للاهتمام والجدل عبر تناولها السوسيولوجي لقضايا المرأة والجنس والجسد والمجتمع والقيم الموروثة، وذلك بمواقف جريئة حاولت تخطي حواجز الطابوهات والمحظورات بغاية تعميق النقاش حول المفارقات والعوالم المظلمة التي تخفي حقيقة المجتمع وراء الطقوس والتقاليد والأعراف والتصورات والسلوكات السائدة، ومن بين حلقات “الأدب النسوي” اخترنا حلقتين تناولت فيهما المخلوفي عملين مغربيين، هما كتاب “البغاء أو الجسد المستباح لمؤلفته الباحثة السوسيولوجية فاطمة الزهراء أزرويل، وكتاب “بلا حشومة، الجنسانية النسائية في المغرب” لمؤلفته الباحثة سمية نعمان جسوس.

° أحمد بيضي

“البغاء أو الجسد المستباح” لفاطمة الزهراء أزرويل

شكل موضوع جنسانية السوق، أرضا خصبة للبحث السوسيولوحي، وبالرغم من أن مقاربة هذا الحقل المعرفي بعيدا عن المواعظ أو التوسيمات الأخلاقية، لايزال أمامه مسار طويل للانصات الهادىء لأنين أسئلة تبوح بكم هائل من الأوجاع الانسانية تكثم حينا بالاكراه وحينا اخر بالتطبيع والتسليع، رغم كل هذا يظل التعريف بالاسهامات المقدمة في هذا الصدد ذو نجاعة وأهمية بالغة.

وفي سياق تفكيك هذا النمط من الاستباحة للكينونة عبر الجسد “السلعة”، تطالعنا الباحثة السوسيولوجية فاطمة الزهراء أزرويل، المغربية المنشأ بإسهامها “البغاء أو الجسد المستباح، سنقف على بعض نقاط هذا العمل الذي ركز على استجوابات تراوحت بين سنوات 1985 و 1998، وشملت عينة البحث 60 أمرأة من الدار البيضاء، تراوحت اعمارهن بين 18 و 38 سنة، غير أن أغلبهن بين 20 و 27 سنة.  وتنطلق الباحثة من رفض الأحكام المجتمعية الجاهزة، فالجسد هنا يصبح وسيلة البقاء، وفرصة للعيش، يغدو الأمر ترجمة لأحد أعمق وأقسى أبعاد المعاناة الإنسانية.

العمل الجنسي، أو البغاء بتعبير الكاتبة هو ظاهرة سوسيو اقتصادية، وشيوعه ليس أزمة أخلاق او انحلال قيم دينية بقدر ما هو ابن شرعي للواقع، هذا الواقع الذي ينتجه ويسهر على استمراره، وقد اشرنا في مقالات سالفة الى كون جنسانية السوق عرفت تطورا كبيرا؛ حيث لم تعد بالبساطة لنخضعها لأحكام معدة سلفا أو توصيفات جاهزة، انها معقدة ومركبة وتنتج نفسها باستمرار وفي لبوس دائم التغير مع الحفاظ على ماهية التسليع والاستباحة.

ولمقاربة الموضوع انتقلت الباحثة من العوامل المنتجة، وفي هذا السياق استحضرت التفكك العائلي، وما يخلفه من شتات في الارتباط بالمحيط الأسري، وذكرت أيضا العنف ضد النساء، وهنا يمكننا استحضار مختلف انماط العنف الجندري بما فيها الاقتصادي الذي يقود النساء الى عرض (بضاعتهن) في السوق؛ تلك البضاعة التي اختصرت التربية الاجتماعية ماهيتهن فيها، وكذا العنف الجنسي وتبعات ما يخلفه من دمار على المفعول بهن، ويمكننا هنا أيضا أن نستحضر الزواج المبكر كأحد أنماط الحيف الذي يزج بالنساء في عالم الكبار قبل الأوان، فضلا عن عوامل الانتماء الاجتماعي.

فالمغضوب عليهن طبقيا يلحقن بالسلع التي يديرها مجتمع السوق، فيصبح الزبون امام بضائع متنوعة لتلبية مختلف الرغبات باختلاق القدرات الاقتصادية، وهذا ما يلخص قولنا السالف بأنه سوق مركب؛ فالزبون الفقير يجد البضاعة التي تناسب جيبه والأعلى منه أجرا تفتح له سوق أرقى وهكذا الى أن نصل الى ما أصبح يطلق عليه “الدعارة الراقية”_ رغم اختلافنا الجذري مع مصطلح “دعارة” لأنه حكم اخلاقي وليس تحديد سيوسيولوجي_ تنتقل بنا الباحثة لتقارب عامل تواطؤ الأسر والتواطؤ العام للمجتمع الذي يحافظ على ديمومة الاستباحة، دون أن تغفل فاطمة الزهراء ازرويل ذكر أطراف هذا السوق.

وهنا استحضرت الكاتبة: عاملات الجنس كمفعول بهن أي سلع، والزبناء كفاعلين ومفعول بهم (نتاج ثقافة الكبث الجنسي وتسليع الرأسمالية لمختلف مناحي حياتنا وحميمياتنا) في الان نفسه؛ ومن الصحي هنا أن اشير الى أن اعتباري الزبناء فاعلين نظرا لأنهم يبحثون عن السلع ويدفعون الثمن، ومفعول بهم لأنهم تمظهر واضح لثقافة جوع جنسي واذلال اجتماعي ينخر مجتمع التسليع، وهو ما تكرسه مختلف البنى من الأسرة كأول مؤسسة لانتاج الاستلاب مرورا بباقي المؤسسات. دون ان نغفل هنا دور الوسطاء كطرف في تيسير تواصل العاملة بالزبون، هذا الوساطة القابعة خلف الكواليس تعود عليهم بالأرباح.

في ختام هذا البحث الذي نعتبره اسهاما صادقا وموفقا في صرح تفكيك جنسانية السوق، تواجهنا ذة. ازرويل بشهادات حية لنساء يبحن بحجم القهر والاقصاء الاجتماعي الذي يقودهن الى امتهان بيع الجسد.

إن اهمية هذا البحث الذي مر على انجازه 20 سنة، لا يعني الاكتفاء به وكأنه أجاب عن مختلف أسئلة سوق الجنس، في اخر المطاف هو محكوم بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي أفرزه، فالواقع خلية حية محكومة بالتغير المستمر ، لكن كل هذا لا ينفي عنه أهميته للمهتمات/ين والباحثات/ين على حد السواء، وهو في الآن نفسه يلزم بوجوب مواصلة النبش السوسيولوجي الجاد وتفكيك مختلف انماط الاستباحة، لمواكبة مختلف التغييرات والتطورات الطارئة عليها بما يعود بالنفع على مستقبل البحث السوسيولوجي كأحد الروافد الهامة والمفصلية في مقاربة قضايا نسوية بلدان الجنوب بشكل خاص.

 

“بلا حشومة، الجنسانية النسائية في المغرب” لسمية نعمان جسوس

دراسة بلا حشومة هي فالأصل أطروحة دكتوراه قدمت في جامعة باريس VIII عام 1985 تحت عنوان “Au-delà de la pudeur”، لصاحبتها سمية نعمان جسوس، ليتم نشرها بالعربية بعنوان “بلا حشومة؛ الجنسانية النسائية في المغرب” من طرف المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2003 ، في حيز ورقي تصل 288 صفحة.

اعتمدت الكاتبة من خلاله دراسة إحصائية همت 200 شخص (75 امرأة، 75 فتاة، 25 أرملة، 25 مطلقة) كعينة للبحث بمجال مدينة الدار البيضاء، لم تقتصر الكاتبة على طيف اجتماعي بعينه بل استهدفت كافة الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية من نساء : أميات/متعلمات، قرويات/حضريات، نساء/فتيات، مطلقات/أرامل/متزوجات…، وذلك منخلال استمارة احتوت مجموعة من الأسئلة تدور في فلك الجنس.

يحملنا العنوان ” بلا حشومة” الى السفر رفقة الكاتبة على متن أسئلة تتجاوز حواجز الطابوهات المجتمعية التي صنفت موضوع الجنس ضمن خانة العيب والعار، الى الحفر والتنقيب في العينة البحثية المدروسة.

تقارب الباحثة بجرأة خطوط جنسانية مؤنثة رافضة بذلك الانضباط لتعليمات النسق.

وعلى مدار الفصول الثلاثة المشكلة للكتاب ترصد الكاتبة “الأنثى” منذ ولادتها إلى طفولتها ثم المراهقة فالخطوبة والزواج الى أن تصبح أما.

خصص الفصل الأول لتجربة ما قبل الزواج بفضاء البيت المغلق، حيث سلط الضوء من خلاله على دونية الفتاة داخل العائلة، والتي تخضعها الى عدة سلط مقيدة ( سلطة الأب، الجد، الأم، الأخ ….)، تتزايد حدة سلطة الرقابة مع بلوغ الفتاة مرحلة المراهقة، فيصبح جسدها احدى ممتلكات العائلة تحفظ بمنطق الشرف في تكريس واضح للتبعية.

وهو ما يفرض على الفتاة في أولى العلاقات الجنسية التوفيق بين الشرف والرغبة نظرا لأنها مرحلة جنسانية قبل الزواج في مجتمع تقليدي.

تعبر بنا بعدها الباحثة سمية نعمان جسوس الى سبر أغوار الزواج كفعل اجتماعي وحياة يومية، فتنبش في كومة التقاليد الملازمة للزواج، ومسار تحول المرأة من زوجة إلى أم، وكل ما يرافق هذا العبور الاجتماعي من أدوار جديدة للمرأة، وفي ذات السياق عبرت إحدى المستجوبات عن الحياة الزوجية بأنها (الصفحة 134) :” ضربا من ضروب الشركة التعاقدية، فالمرأة تمنح الرجل قوة عملها ودرايتها وقدرتها على الإنجاب، كما تمنحه جسدها، وتحصل في مقابل ذلك كله على المأوى والطعام وعلى وضع اجتماعي هو وضع الزوجة“.

أما الفصل الأخير فاحتل الحيز الأكبر ، ليقارب موضوع الدم والليلة، اللذة والألم، فكشفت الباحثة عورة حقائق حرم الحديث عنها بقوة الحشومة، العيب، الحرام،..، لتغوص في تمثلات العذرية وتصورات النساء للجنس والحياة الجنسية بين العناء والمتعة ونظرة الإسلام للذة.

إن أهمية الكتاب ككل تكمن في كونه يقارب احدى الطابوهات بحنكة وتفوق وعلمية رصينة، غير أن الفصل الأخير بالذات تكمن أهميته في الكشف عن المفارقات التي تظهر تعامل المجتمع مع الجنس ونظرته إليه، ومثال ذلك نموذج ليلة الزفاف (ليلة الدخلة)، التي استفهمت عنها الكاتبة قائلة (ص 199) : ” تبدو الظاهرة مثيرة للاستغراب، ولاسيما أن التربية تجعل النساء تقوم منذ نعومة أظافرهن على حشو أذهانهن بالممنوعات المتصلة بالوظيفة الجنسية … التي تتعرض فجأة لانتهاك عنيف”، وذلك عبر طقس العبور الذي يرافق انتقال العروس تلك الليلة من مرحلة إلى أخرى، من حياة جنسية غير نشيطة الى أخرى نشيطة (من عذراء الى غير عذراء)،

حدث الافتضاض هنا ينتصر من خلاله المجتمع لمفاهيم الشرف ويتخلص من الإثم والعار وكل ما يلازم الجنس من محرمات تراكمت عبر سنين طويلة. إنها المفاهيم والرؤى حول العذرية والشرف تدافع عنها النساء بضراوة بحكم التربية، فهي فرصتهن بقوة العرف الذكوري لاتباث الذات ونيل الاعتراف الاجتماعي من القريب كما البعيد، وهو ما عبرت عنه احدى المستوجبات بقولها (الصفحة 179) :”سوف أغلق أفواه جميع أولئك الذين اغتابوني وأشاعوا عني أني لست عذراء“.

انها مساحة لإشهار دليل براءة وحجة دامغة على الاستقامة والصلاح. وهذا في حد ذاته تكريس ضمني للتهميش الاجتماعي البكارة الدينية في مقابل الانتصار للبكارة التوفيقية، التي تستجيب أحيانا لنزيف الرغبة دون أن يحدث الافتضاض عبر ممارسات جنسية متعارف عليها، وتؤكد الباحثة أن الافتضاض يتحول في حالات عديدة الى تعبير رمزي ومكافأة تقدمها الفتاة لأهلها فتزهو وتفتخر به العائلة (الصفحة 178) : “لقد عانى أبواي الكثير لأجلي، فمن العدل أن أكافئهما في يوم زفافي بأن يحمل إليهم قماش مبقعا بدمي“.

لطيفة زهرة المخلوفي

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

السبت 10 مايو 2025 - 12:09

توقيع اتفاقية إطار للشراكة بين أكاديمية المملكة ومؤسسة محمد السادس للعلوم والصحة

السبت 10 مايو 2025 - 10:03

مراكش تحتفي بالمديح والسماع في دورة البشير عبدو…

السبت 10 مايو 2025 - 06:39

أطباء وخبراء مغاربة وأجانب يناقشون بمراكش مستجدات طب الكلى

الجمعة 9 مايو 2025 - 20:31

أمير المؤمنين يهنئ البابا ليو الرابع عشر بمناسبة انتخابه لاعتلاء الكرسي البابوي

error: