رسالة الاتحاد في أربعينية المجاهد عبد الرحمان اليوسفي
محمد اليزناسني
الأربعاء 8 يوليو 2020 - 06:00 l عدد الزيارات : 25412
ذ. إدريس لشكر
الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
يخلد الاتحاديون والاتحاديات ومعهم كل المغاربة الذكرى الأربعينية لفقدان زعيمنا وأحد الأبناء البررة لهذا الوطن المجاهد عبد الرحمان اليوسفي. إنه تخليد رمزي لذكرى الرجل الرمز.
الرمز الذي صنعه المغاربة وهم يتعاملون مع مسار السي عبد الرحمان على امتداد ثلاثة أجيال. مسار لامسه كل واحد من زاوية تفاعله مع هذا الموضوع أو ذاك. فمنهم من يرى فيه امتدادا للرعيل الأول من الحركة الوطنية ومنهم من يتخذ منه منارا للحركة النقابية الناشئة في الأحياء الصناعية البيضاوية ومنهم من يلامس فيه مبدع ذكرى ثورة الملك والشعب ومنهم من عاشره كمؤسس لفريق رياضي ومنهم من يتذكر الصحفي المبكر في زمن القيود والمضايقات على حرية التعبير والرأي ومنهم من يرى فيه الرجل الشجاع الذي صيغت خلال ولايته كوزير أول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية والتي سترتب قفزة نوعية مهمة في تغيير وضعية النساء المغربيات عبر مدونة الأسرة الجديدة ومنهم من يتأمل في حدث عيادة ملكين له و هو قيد الاستشفاء : المغفور له الملك الحسن الثاني ووارث سره جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
يمكن القول بأن السي عبد الرحمان قد ترك لكل واحد من مغاربة الأجيال الثلاث التي عايشت مساره الحافل حدثا أو لقطةَ حياة أو صورةً أو توجيها أو درسا من دروس الحياة.
إنه حال الشخصيات التي تترك بصمات لا تنمحي بغيابها بل تظل عالقة بالأذهان،
إنه حال الأيقونات التي تتمتع بالقدرة على خلق الصور المعبرة والتي تتجاوز كل الحواجز،
إنه حال الوجوه المشرقة التي تؤسس لكيان الأمة فيما يجسد أفضل إفرازاتها الفكرية وخصالها الإنسية،
إنه حال الفاعل التاريخي الذي يشكل مساره تاريخا ومنطلقا للسمو بالمجتمع،
إنه حال السي عبد الرحمان الذي تتعدد أوجه شخصيته والتي سأعرض هنا أربعةً منها:
1. عبد الرحمان اليوسفي في بعده الوطني والشعبي:
طفولة السي عبد الرحمان تخبرنا عن الصحوة الوطنية التي بدأت مبكرا عنده هو الذي رأى النور في طنجة المدينة ذات المواصفات الخاصة، طنجة مدينة العبور ما بين الحضارات ومسقط رأس الرحالة ابن بطوطة، التي شهدت أولى التجارب الصحفية وأولى الحركات الدستورية المغربية، المدينة الأطلسية المتوسطية الفريدة من نوعنها، هي المدينة التي شهدت نشأة التعاقد الجديد بين الملكية والشعب من خلال خطاب قوي ومؤسس للمغفور له محمد الخامس في 9 أبريل 1947 والذي أكد فيه على الوحدة الترابية والوطنية لبلدنا.
عبد الرحمان اليوسفي المنحدر من الوسط الشعبي شكل نموذجا للشباب المتعطش للعلم حيث أدرك مبكرا أن التمكن من المعرفة ليس رافعة اجتماعية بل سلاحا للصراع مع المستعمر ندا لند شأنه في ذلك شأن المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد اللطيف بن جلون وغيرهم من الشباب الوطني، هؤلاء الذين كانوا يواجهون المستعمر بمرجعتيه، مرجعية عصر التنوير والتصريح العالمي لحقوق الانسان والتي تنص على أن الناس يزدادون ويظلون أحرارا وسواسية في الحقوق وأن مبدأ كل سيادة يكمن أساسا في الأمة ولا أحد، فردا كان أو هيئة، يمكنه ممارسة أية سلطة لا تنبثق عنها صراحة.
منطق الحداثة الذي دشن له عصر التنوير لم يكن فقط برهانا خارجيا لدى السي عبد الرحمان أو مجرد وسيلة للمحاججة والدفاع عن سيادة المغرب وحقه في الحرية، بل سيشكل لديه ولدى رفاقه منطلقا فكريا وسياسيا لبناء الدولة المغربية الحديثة: دولة المؤسسات والحق والقانون، دولة الإدارة العقلانية.
من باب التحديث السياسي ساهم السي عبد الرحمان في تأسيس الاتحاد ودعم الجناح اليساري داخله والذي قاده الشهيد المهدي بن بركة.
الحداثة عند السي عبد الرحمان، من حيث الشكل تنتظم من خلال القوانين والمساطر وهو ما يعني أنه ليس رجل التوافقات بقدر ما هو حريص على احترام القوانين المعمول بها في الأنظمة الحديثة. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى حدثين بارزين: رفضه لعرض المغفور له الحسن الثاني بتكوين حكومة أقلية يكون الملك هو الضامن لأغلبيتها في البرلمان، وموقفه المؤكد على ضرورة احترام المنهجية الدمقراطية في اختيار الوزير الأول.
أما من حيث المضمون، فالحداثة عند السي عبد الرحمان تبدأ بإقرار الحرية والمساواة بين النساء والرجال واحترام الرأي وضمان الحق في الاختلاف والتعددية السياسية والثقافية والفكرية. فلم يكن يوما من دعاة الفكر الواحد ولا الدولة الشمولية. تعلقه بالحريات الفردية والمساواة لا يعادله سوى رفضه التام للفردانية الليبرالية.
2. عبد الرحمان رجل دولة وليس رجل الدولة
لقد أعطى اليوسفي لمصطلح رجل دولة، وليس رجل الدولة، مدلولا أغنى التعريف من خلال تعاطيه مع الفترات الحرجة، فترات يكون فيها للموقف وللقرار أبعادا غير بارزة للعيان على الفور لأن مغزاها يُرجأ إلى المستقبل حين تُرفع الحيثيات وأسباب النزول الظرفية ويسمو المعنى المتميز لذلك الموقف أو القرار. في هذه الحالات غالبا ما تَحجُب الاعتبارات التكتيكة الفوائد الاستراتيجية. وهذا هو ما كان يعبر عنه بجملة واحدة: لنترك للتاريخ دوره في الاستنتاج ولأن ذاكرة الأمم حية لا تموت، فالتاريخ لا يُقرأ بنظارات القرب. إن صفة رجل دولة ليست وظيفة بل إنها نتاج لسلوك لا يتغير بتغير السياقات بل سلوك تحكمه مبادئ واضحة للعيان يتقدمها احترام الأمة والابتعاد عن أي تعالي بحكم الوظيفة أو الموقع.
لقد شاءت الأقدار أن يبرز بعد السي عبد الرحمان كرجل دولة حين حشد العزائم وشكل حكومة التناوب التوافقي وهزم الأنانيات بمشاركته في الانتقال السلس للعرش من المغفور له جلالة الحسن الثاني لوريث سره جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
3. عبد الرحمان في بعده المغاربي
في الإعداد للمؤتمر المغاربي بطنجة سنة 1958، أبان الراحل عن قناعته الراسخة أن الإطار المغاربي ليس سرابا بل ضرورةً تاريخية تنبني على وحدة التاريخ التي كانت دوما نسيجا اجتماعيا وثقافيا متصلا. ففي 1958 لم يكن الاعتبار الاقتصادي هاجسا للسعي وراء بناء الإطار المغاربي الموحد والحال أن التجمعات الاقتصادية كانت في المهد.
ولذلك حرص السي عبد الرحمان أن يتضمن بيان المؤتمر مبدأ تأسيس “اتحاد فدرالي بين الدول المشاركة في المؤتمر”. وظلت مواقفه ومبادراته مشدودة لهذا الأفق لدرجة يظهر فيها أن الإطار المغاربي هو كيانه السياسي الطبيعي وأن الحدود وهمية. فقد دافع بضعة أشهر بعد مؤتمر طنجة عن فكرة أساسية وهي أن خيرات المنطقة المغاربية هي خيرات مشتركة، وهو الموقف الذي ستتبناه جريدة المجاهد الجزائرية حين كتبت في ردها على المفاوضات القائمة بين تونس وشركات النفط الفرنسية، افتتاحية بعنوان : ” إن بترول المغرب العربي ملك لهذا المغرب قبل كل شيء ويجب أن يخدم صالحه داخل استقلال متحرر من التأثيرات الأجنبية “، وأضافت الجريدة نفسها“إن تحديد سياسة بترولية مشتركة يجب أن يتم بأسرع ما يمكن… يجب على السكرتارية الدائمة للمغرب العربي أن تنظر سريعا في قضية البترول و تعين لجنة مختصة لإقامة تصميم وتحظير الوثائق اللازمة والنظر في الاتفاقات المختلفة الممكنة التي تتعلق بالتفتيش عن النفط واستثماره ورؤوس الأموال واليد العاملة”.
وقد ظل الراحل وفيا لهذا التوجه ومؤمنا به الى آخر أيام حياته حين وجه نداء وجدة للوحدة المغاربية والتوافق المغربي الجزائري في 7 دجنبر 2018 بمناسبة المهرجان الذي نظمه الاتحاد الاشتراكي فيما أسماها المجاهد الراحل وجدة قلعة الوحدة المغربية الجزائرية، تحت شعار “المغرب والجزائر، قاطرة مستقبل البناء المغاربي”.
وكم كان الراحل مبتهجا ومساندا ومتحمسا لليد التي مدها جلالة الملك للجارة الجزائر في خطاب الذكرى 43 للمسيرة الخضراء 6 نوبر 2108 والذي قال فيه “أقترح على أشقائنا في الجزائر إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها”، مؤكدا انفتاح المغرب على الاقتراحات والمبادرات التي قد تتقدم بها الجزائر، بهدف تجاوز حالة الجمود التي تعرفها العلاقات بين البلدين الجارين الشقيقين.
وكم كان ألمه عظيما وهو يرى الحكام في الجزائر متعنتين وممتنعين عن التجاوب الإيجابي مع مبادرة الوفاق التي لا تكتنفها أية شروط مسبقة، وكم أكثر من المساعي لدى رجالات الجزائر الحكماء من أجل تجاوز الخلافات الثنائية، لكن بدون جدوى.
عبد الرحمان والمهدي وعبد الرحيم، كونوا قناعة أن مستقبلنا سيكون مغاربيا أو لا يكون، وظلوا مدافعين عن فكرة بناء الوحدة من منطلق واقعي يقوم على تحويل مجالات النزاع إلى إطارات للتعاون والاستغلال المشترك للخيرات. ستظل جهودهم المغاربية نبراسا لنا نحن أبناء الاتحاد الاشتراكي عملا بإرثهم ووفاءً له وإيمانا منا بوحدة الإطار المغاربي التي ستدافع عنها كل القيادات الاتحادية المتعاقبة.
4. عبد الرحمان اليوسفي والبعد العربي والأممي
في نفس السياق الذي ترعرعت فيه الحركة الوطنية المغربية كان عبد الرحمان اليوسفي متشبعا بالبعد القومي الذي كان كأبناء جيله يتمثل في بعده الديني في السلفية التقدمية بوصفها حركة تجديدية والتي حملها من المغاربة الفقيه محمد غازي وعلال الفاسي وشيخ الإسلام الفقيه بلعربي العلوي والشيخ شعيب الدكالي وخارج المغرب عدد هائل يطول ذكرهم هنا وذلك في سياق متميز للحركة السلفية التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
لكن البعد القومي للمجاهد الراحل يتمثل بالخصوص، وهو إبن مدينة البوغاز، في تأثره بالفكر التحديثي الذي أسسه شكيب أرسلان والذي وجد صداه في شمال المغرب بشكل قوي عبر الجمع بالمطالبة بالاستقلال وتشييد الدولة الحديثة الدمقراطية.
كرفيق للمهدي بنبركة كان ميوله للحركة القومية التقدمية مبني بالأساس على جعل القومية العربية امتدادا للحركة الأممية العمالية والتقدمية. من خلال هذا التموقع الأممي يتبين أن مؤسسي الاتحاد لم يكونوا مستلبين للثقافة الغربية بل كانوا مؤمنين بالإنسية العالمية التي لا تلغي الخصوصية بل تخصبها بالفكر التنويري والعقلاني. مما جعله مدافعا قويا في مجال القانون الدولي وحقوق الإنسان وحرية الصحافة وتحرير الشعوب من الاستعمار والاستغلال. فمن خلال مسؤوليته في اتحاد المحامين العرب رافع في المحافل الدولية خاصة في الهيئات المختصة التابعة للأمم المتحدة. كما كان رحمه الله في كل المناسبات يتقمص بدلة المجاهد الفلسطيني والصوت المعبر عن عدالة القضية الفلسطينية وكم تعددت مساعيه لتوحيد الصف الفلسطيني وعمل على إدخال حركة فتح الى الأمية الاشتراكية.
إننا ونحن نستحضر بعض جوانب شخصية ومسار الفقيد لن يفوتنا أن نذكر بحنكته في تدبير الاتحاد الاشتراكي وقيادته الى تحقيق الانتصارات الانتخابية والإنجازات الحكومية والتشريعية والبناء النقابي والثقافي. كما سيحتفظ له التاريخ بعنايته بالمقاومة وجيش التحرير والإصلاح والمصالحة وتجديد الترسانة القانونية للبلاد من خلال وضع مدونات حقوقية جديدة في الأسرة والشغل والصحافة والمسطرة الجنائية والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية وكذلك في تطوير اشعاع المغرب وتوسيع شبكة حلفائه وتحويل معارضيه الى مؤيدين في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
لا يتسع المجال ونحن نخلد أربعينية الفقيد في هذه الظروف الاستثنائية، والتي حرمتنا من أن نحييها مع محبيه ورفاقه وأصدقائه عبر العالم وداخل الوطن، إلا أن نؤكد أننا سنحرص على عقد ندوة دولية في غضون السنة نستدعي لها كل من سبق الإشارة إليهم لاستحضار الأبعاد المتعددة لهذه الشخصية الفريدة والتعبير عن وفائنا لذكراه وإغناء معرفة الأجيال المقبلة بتاريخ وطنهم الحديث.
تعليقات
0