-
إسماعيل غزالي (°)
هو ثلاثاء الحزن الدّامغ في عاصمةِ المحارب (موحى اوحمّو الزياني) : “خنيفرة “، وقّعتهُ يدُ الغيابِ الفظّ، التي امتدّتْ إلى سلطانِ الشجن، أبْدع مَنْ عزف على آلة “لْوطَارْ” على الإطلاق، وخرج بها من غَسقِ الضواحي إلى شمسِ العالمِ: صفيُّ مجالسِ الأنسِ البدويّ، قدّيسُ المحبّة عارمةِ القبول، فتى الأطلس الذهبيُّ : “محمد رويشة”.
نبغ “محمد رويشة” في تطوير وتثوير شكل الأغنيّة الأمازيغيّة مثلما لم يفعلْ أحدٌ قبله، وذهب بإيقاع الدّهشة الأطلسية إلى التخوم القصوى.
موسيقى “محمد رويشة” حفرٌ عموديّ في طبقاتِ وجدانِ الهامش. استقصاءٌ فاتنٌ لبداوة الحبّ ودليل أحزانه السّوداء. احتفاءٌ بمعجم أمومةِ الطبيعة واستغوارٌ صوفيّ لمقامات الغُربة.
بعصاميّتهِ المتوقدّة، ودفء زخمه الإنساني، وموهبته الضّارية، صنع “محمد رويشة” لحظته الفنّية السّامقة، في مُعترك الصّمت، وقتامةِ النّسيان .
“محمد رويشة” المولود ببلدةِ “مريرت”، الشبيهة بكمينٍ جغرافي (بلدةٌ منسيّة لاتَنْسَى أبدًا، تستأثر بهباء التّاريخ السرّي للأطلس، وتنفردُ بكيمياء الغضب الأزليّ)، انتبه مبكّرا إلى فخّ البلدة الصّغيرة التي يضمر صمتُها بركان الجنون، إذ انفصل مُرغما عن فتنة عرائها وأعراس وحشتها، ليجعل من مدينة “خنيفرة” بُرْجا لعاصمته الموسيقيّة الخاصة.
ومع ذلك ظلّتْ غوايةُ “مريرتْ” راسخةً، تسحر الفنان “محمد رويشة” في أوّل عنفوانه الفني، ليتردّد على أعراسها الذّائعة الصّخب، إلى أنْ تعرّض للتعنيف ذات ليلة موشومة، نجَم عنها كسْرٌ في فكّه السّفلي، جعله يقاطع مدينته الأولى طويلا، أو إلى الأبد. لم يرجع إليها إلا بعد حنين معتّقٍ، وعاد إليها كما لو ليشيّعها بعد خصومةٍ دامتْ عقودا. لقد وسم لي ذات مكالمة هاتفية هذه العودة، بعبارة: (الرّجوع إلى الوطن الأم).
في المحفل الموعود بالهواء الطلق إبّانَ صائفة 2010 بمريرت، أدّى أغنية بالأمازيغية، بمناسبة عودته التّاريخيّة تلك، وبدتْ على وجهه انتشاءةٌ طفوليّة، تحت طائلِ ابتهاجٍ وفائض غبطة، لم يدْرِكْها إلا الرّاسخون في مسّ الحال. وهذا ما صدح به بيان الأغنية الافتتاحيّة الخاصّة بالعودة إيّاها، يقول فيها بلسان “مريرتْ” :
( – هي:
عُدْ ْكي أخبرك
عُدْ اليوم كي أحدّثك
عُدْ كي تَصلَ رحمي
– هو:
عن أمّي أتجشّم عناءَ الهمّ–
…
– هي: عُدْ إلى بلدتكَ
–هو: انظري كيف انتقلتُ بين أكثر من مكانٍ دون أن أتوقّعَ ذلك
انظرْ ما ذا فعلتَ بنا يا فراقَ “آيت حجو.. )”.
و “آيت حجو” هو الحيّ الذي ولد فيه سي “محمد رويشه” بمريرت .
لقد ظلّت آلة “لْوطَارْ” تُرْجمانا عتيدا و معشوقا حدّ الوله في أغاني العيطة، وسافرتْ عبر شكلها الأوّلي بين تجارب العزف التلقائي والبدوي إلى أن وجدتْ طريقها المتفرّد إلى أنامل العازف الرّصين: عمران بوسكري و قبله المعلم الأول : حمو أو اليزيد . ثم غادرتْ حجمها الأولي حين اهتدتْ إلى أصابع الأورفيوسي “محمد رويشة” الذي صوّغها بشكل أطلسيٍّ ومهرها بختمٍ أمازيغيٍّ، محدثا عليها تغييرا جديدا لائقا بغرابتها ووحشيتها. غرابتها كآلة بهيئة مستفزة ومثيرة بالنظر إلى طريقة صنعها التي لا تخلو من قسوة، ووحشيتها كمصدرٍ عنيف للشجن.
إنها الصّورة المُثلى لمستودع الحزن البدائي. فاختلط علينا الأمر ما أنْ شرعَ عرّابُ فتنتها “محمد رويشة” في ترويضِ مستحيلها، مبحرا كملّاحٍ في سديم مجهولها، فقلنا : عجبا ! ما أشبه سرْد ” وْطَارْ ” محمد رويشة بما يسردُه نهر “أم الربيع ” المندلع من جبل “اخدود” العملاق. الجبل المطل على المشهد كحارس أزلي.
تأنّقتْ آلة “لْوْطار” مع “محمد رويشة” وتحرّر عزفُها الذي فتح جلبابه على الجهات السّبع للموسيقى، إذ أضافَ الوتر الرّابع لهذه الآلة الجلفاء، فصارتْ مقدراتها تستوعب الجديد المنفلت من أطياف الألحان، وتلتقط الشّارد من النغم الفوّاح وِفق تردُّد يقظتها الشرسة، لتُعتّق أسلوب الطّرب وتُجدّد أثرهُ الغائر.
لم تقتصرْ إبداعيّة “رويشة” على استكمالِ الأنماط التأسيسية للأغنية الأمازيغية، وإحداث منعطف تاريخي وفني داخل بنيتها وشكلها، بل التفت منذ البداية إلى التراث الشعبي المغربي مُزاوجا بين الأغنية المنطوقة بالدارج المغربي والأغنية المنطوقة بالأمازيغي، واستطاع أن يخترع شكلا غريبا لم ينتبه إليه المهتمون ونُقاد هذا الفن الغنائي الشعبي، فالشكل الذي يغنيه “محمد رويشه” بالدارج المغربي له خصوصية فنية من ابتكاره، و إن كان له امتدادٌ لفن العيطة، غير أنه نموذج ساطع للقطيعة معها في آن، بالنّظر إلى صوغ القصيدة الحرّة، وبالنظر إلى أسلوب اللحن وطريقة الأداء. وقليلون جدًّا يعرفون أن “محمد رويشة” أبدَعَ ولحّن قصائد عربية فصيحة ظلّت أصداؤها تتردّد في طقوس جلساته الخاصة لا غير.
“محمد رويشه” خَبِر حياة الهامش عبر تجربة وجودية، كانت الأم فيها تحظى بمكانة مركزية. “للاعيشه” ليست أمّا عادية، فكفاحها النبيل مع وليدها الوحيد، عبر شروط عيش مأساوية جعل منها رمزا في وعي “رويشة” أشبه ما يكون بأم “مكسيم غورغي” ، فخصّها باهتمام جليل ومحتشد وفق نظرة أقرب ما تكون صوفية. وقد ظل وفيا لمدرسة أمه ملتزما بوصيتها الأثيرة، فترك باب بيته مفتوحا للمعجبين والمهتمين والموسيقيين والأصدقاء و الغرباء في آن .
هذا الباب الذي لا يوصد إلا في الحالات الأنطولوجية، حينما ينفرد بآلته التي كانت ضلعا من جسده. وهي حالات عزلته الشاقّة والمنتشية لحظة اختلائه بذاته في طقوس إبداعه. حتّى أنّه اشترى بسعر أوائل أمسياته الموسيقية مساحة الأرض المجاورة لقبر أمه، كي يدفن لصيقا بها، وفق وصيته، وهذا ما أوفتْ به خنيفرة ولم تخذله لحظة مدفنه الحاشد، بالرغم من أنّ المقبرة مغلقة، بسبب اكتمال حلقة الاكتظاظ.
في غرفته العلّوية الخاصّة، الشبيهة بصومعة، أشرقت أجمل الأغاني وأبدع الألحان وأمهر المعزوفات. إنها غرفة تكاد تختزل شخصيته، وأملي أن يتمّ الحفاظ عليها كمتحف خاص، حيث الصدى الخالد والمستودع الأسراري لخلوات الفنان الأثيرة جدا، وما من غرابة أن تشهد الغرفة ذاتها حدث موته المفاجئ.
محمد رويشة، انسلخ في وقت مناسب عن الصعلكة الفوضوية محصّنا ذاته ضمن شروط ذكية ومحترمة، فاتحا جُبّة إنصاته الممعن على الموسيقى العالمية وإن بقي تأثير فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وناس الغيوان المجرّة الملازمة لاقتباساته اللحنية إذ تبدو أغنية محمد رويشة شجرة أطلسية وارفة لقحتها رياح الاقتباسات الموسيقية المشرقية والإفريقية من جهة أولى، ومن جهة ثانية تبدو ذات صنعة مغربية تراثية شبه خالصة، وهكذا شيّد مملكته الخضراء مراكما رأسمالا رمزيا باذخا من المحبة والنبل، وكان شبيها بوليٍّ من أولياء الله الصالحين في بلدة “خنيفرة“.
تجربة “محمد رويشه” في الموسيقى والوجود، كانت قمينة بأن تُترجم على الأقل في فيلم وثائقي يليق بعلامته الخضراء، وقد جمعني معه مشروع كتابة سيرته الذاتية سنة 2007، وأجّلنا ذلك إلى ما بعد، ولم يقدّر لذلك أن يتحقّق لاحقا.
من المشاريع التي بدأها محمد رويشة ولم تستوف شروط الاكتمال، اشتغاله الفني على ديوان “حوض النعناع ” لعمود مجموعة ناس الغيوان، أيقونة الرحيل المغربي : العربي باطما . هذا الأخير كان توأما روحيا لرويشة ولايفترق اثنان على التقاطع الجمالي بين الشخصيتين.
رويشة الذي أَطْلَسَ الأغنية المغربية و أمْزغها، استطاع بمفرده أن يؤسس لظاهرة غنائية لافتة ضمن فن “الكونتري أو البلوز المغربي”، إذ لم يكن من السهل اجتراحها أمام سطوة شيوع الأغنية الشرقية والعصرية، ويمكن القول أن ظاهرة محمد رويشة لها مواصفات النجاح ذاته للظاهرة الغيوانية مع اختلاف جوهري بينهما طبعا.
لعرّاب الشجن الأطلسي، ملك آلة “لوطار”، يقولُ رجْعُ صدَى الغياب:
هي ذي القُبّرات التي تطايرتْ من شهقة آلتك
تضرّج سماء العزلة
هي ذي نجمةُ القطب التي لمعتْ في دلْوكَ
تضيءُ غسق الظهيرة
هي ذي الأرزةُ السّامقة التي زاوجَ ظلُّها ظلك
تشرئبّ حذو المزنة الهاربة بطفولتنا المهدورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(°) روائي وقاص مغربي، من أهم إصداراته (ما بين 2011 و2020): “عسل اللقالق”، “لعبة مفترق الطرق”، “بستان الغزال المرقط”، “موسم صيد الزنجور”، “النهر يعض على ذيله”، “غراب، غربان، غرابيب”، “سديم زهرة الهندباء”، “عزلة الثلج”، “ثلاثة أيام في كازابلانكا”، “قطط مدينة الأرخبيل”، فائز بجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع عن مجموعته “عسل اللقالق”، فيما رشحت روايته “موسم صيد الزنجور” ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية 2014.
تعليقات
0