أحمد بيضي
الإثنين 22 فبراير 2021 - 23:38 l عدد الزيارات : 21183
محمد باجي (°)
حبيس الجبال
إنتبه أخيرا إلى أن ظله قد تمدد كثيرا، وأصبح يرى رأسه في الجهة المقابلة للسفح الذي كان معتصما به منذ الصباح… – رباه ما هذا الذي يجري معي.. لماذا لم أسأل منذ الصباح في أولئك الصغار ولا في زملائي في العمل… سيكونون أكثر تشويشا علي؟..
إنحنى والتقط حجرة بازلتية بيضاء أشبه بالبيضة فأرسلها رميا بقوة إلى صخرة تبعد عنه بقليل.. يبدو أن الرجل قد استعاد قليلا من وعيه، وما عليه إلا أن يسابق أشعة الشمس قبل أن تأفل وترمي به في الحفر، وهو يقصد السكنية البعيدة عن منطلقه بكيلومترات، والرجل يعاني من نقص حاد في البصر ولن تنفعه النظارات في التقاط خيط الطريق السالكة..
وصل إلى التلة المطلة على المدرسة والسكنية فدخل في دوامة من الأسئلة التي تطرق رأسه..
– ماذا سأقول لزملائي؟ هل أنا رجل عاد وأنا أبرح القسم تاركا ورائي تلاميذ هم في حاجة ماسة إلى توجيهاتي.. أنا لم أعد كما كنت وكيف لي أن أبقى كذلك؟ رباه ماذا سأفعل!
لم يكد يستفق من حيرته حتى تناهى إلى سمعه صوت فقيه الدوار ينادي أهله:
– واعباد الله واعباد الله واش ماكاينش اللي شاف المعلم سي احمد … واعباد الله واعباد الله ديرو معانا مجهودكم يجازيكوم الله نقلبو عليه نشوفو أش واقع ليه…
تدحرج سي احمد من التلة بين وقوف وسقوط غير مبال بالأشواك ولا الأحجار إلى أن التقطه الخط الطرقي الذي يلف التلة من أسفل منسابا بين الدور الآيلة للسقوط نحو المسجد… التقط أنفاسه وهو يزيل الأشواك من يديه وركبتيه ويغالب العياء ليحكي قصة غيابه، لكنه لم ينبس ببنت شفة، ولم يكن أمام الأفراد الذين تحلقوا حوله وهم ينتظرون آذان صلاة العشاء إلا أن يحوقلوا… أما هو فقد انسل إلى حجرته الصغيرة بالسكنية ولحق به رفاقه في الحال..
وبعد نصف ساعة التحف الفقيه سلهامه وانضاف إليهم حاملا معه بعض الأكل الساخن ليشاركه معهم… أكلوا جماعة على ضوء الشموع وما كادوا ينفكوا من أكلهم حتى استسلم سي احمد لنوبة بكاء تبكي الحجر.. لم يُسمع من أنينه إلا ما كشف عن سبب همه وانهيار نفسيته:
– واش أنا ماشي بنادم .. ثلاتين عام د لخدما فجبال.. لا ترقية لا انتقال.. الله ياخذ لحق .
بطن مجهول
يا للهول…. هذه هي المرة الثالثة في ظرف خمس سنوات ينتفخ فيه بطن هذه المسكينة المريضة نفسيا التي تفترش الأرض وتتغطى بالسماء… أما صغيراها الأول والثاني فلا يعرف مصيرهما.. هل تكفل بهما أحد أم أخذا منها عنوة أم أصابهما مكروه آخر… ها هي ممددة على الأرض وعيناها قد أفلتا في هيكل وجهها الشاحب… تعيش يومها بشكل روتيني وتتلقى بعض التعاطف من قبل بعض الناس، فالوحم قبل الجوع يجعلها تبحث عما تأكله فتجد بعض الأيادي البيضاء التي تمدها ببعض الطعام تارة وبعض الملابس والأفرشة تارة أخرى…
أما عن المكان الذي تفترشه فقد قالوا والله أعلم مدينة لا تمت للمدنية بصلة… مدينة غريبة جدا تحتوي على أنواع كثيرة من البشر فيها الذئب والثعلب والضبع… مدينة يتنكر فيها المسؤولون لواجبهم… فلو كانت ذات البطن الثالث في بلد تحترم فيه الإنسانية لقام المسؤولون بحمايتها من الحيوانات البشرية التي تتربص بها تحت جنح الظلام أو وقت قلة الحركة في الشارع.. لو كانت مؤسسات البلد تقوم بأدوارها لما تكرر اغتصابها يوما بعد يوم دون أدنى شفقة أو رحمة…
المسكينة لا تدري، رغم أمومتها القحة، أنها تعيش في مجتمع جاهل ينظر إليها نظرة دونية ولا يستطيع أن يحميها من هجمة الذئاب ولا مكر الثعالب ولا عفونة الضباع… تحميها العين الربانية ولكن سلوكات المنحرفين تتوالى عليها إلى أن تحبل من جديد في جنح الظلام وتخصص جزءا من طاقتها التي تحتاجها أيام البرد والقهر لرعاية وليد لا تعرف أباه ولا عنوانه ولا حتى اسم المدينة التي تتعرض فيها لمجازر الاغتصاب…
يمر من قربها من راودته نفسه عليها ويتذكر أنه لم يكن بالمرة إنسانا، ويحدث نفسه عن سلوكه الأرعن… يديم النظر فيها ثم سرعان ما يقلب وجهه وهو يرى الصغير الذي تحضنه في وضع مزر.. تؤلبه نفسه ثم يغير الطريق إلى وجهة أخرى ويا ليته لم يتربص بضحية جديدة من مثيلاتها… يمر المسؤول على مشهد المأساة التي تعيشها ولا يكلف نفسه أن يشير في تقريره إلى الدوائر المسؤولة إلى وضعيتها ووضعية مثيلاتها بل الأدهى أنه ينبس بشفته:
– كْتَارِيتو ما نْعرف مْنين تَتْخرجو…
يتم نقلها إلى المستشفى ذات مخاض لا تعرف أب قسوته، ولا يكلف الممرضون أنفسهم إلا أن يساعدوها في الولادة ثم يطلقون سراحها من جديد لتعود حابلة مرة أخرى بعد سنة أو سنة ونيف… تدير المسكينة عينيها في أجفانها المغرقة وكأنها تنادي: أوقفوا هذا البطش الذي أتعرض له… احملوا هذا الجثمان إلى مرقد في مؤسسة اجتماعية ليعيش بقية حياته في دفء مفقود منذ أمد…. وفروا له طبيبا عله يستعيد عقله الذي طار في ظروف غامضة… خافوا أيها المتربصون، على الأقل، على آدميتكم!
تعليقات
0