الكاتب علي بنساعود يحكي عن “عملية إنسانية بالمغرب العميق”
أحمد بيضي
الأربعاء 21 أبريل 2021 - 00:33 l عدد الزيارات : 23640
علي بنساعود
مرة، زرت ضواحي مدينة ميدلت، وكنت رفقة السيدة مارتا سانك سبيريدوفيتش، قنصل بولونيا بالرباط، وهي سيدة على قدر كبير من الثقافة والرقي والجمال الخلقي والإنساني…
كانت المناسبة هي إشراف هذه السيدة على عملية إنسانية تمثلت في إيصال كمية من المساعدات، وتوزيعها على سكان أحد القصور بسفح جبل العياشي، بإقليم ميدلت، حيث الظروف الطبيعية والمناخية صعبة، يضاعف من حدتها الفقر والبطالة المستشريان وسط السكان، وغياب شبه تام للبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية…
لا للمساس بكرامة المستضعفين!
ما لا يمكن أن أنساه أبدا، بخصوص هذه الزيارة، هو أنه وقبل بدء مراسيم حفل توزيع المساعدات، اقتربت مني السيدة القنصل وهمست في أذني: “أرجوك لا تلتقط صورا للمستفيدين أثناء توزيع المساعدات عليهم”، ربما قرأت تساؤلات أو امتعاضا في عيني، فواصلت: “يجب أن ندرك جميعا أن في التقاط الصور لهؤلاء المستضعفين، وإظهار وجوههم، ونشرها بين الناس، ضررا نفسيا لهم، لا يقتصر على إذلالهم، وامتهان كرامتهم، وإراقة ماء وجوههم فحسب، بل فيه جرح لمشاعرهم، وتهديد لمستقبلهم بطريقة تجر عليهم حزنا يُذهب فرحتهم بما حصلوا عليه من مساعدات، كما قد يؤدي إلى شعورهم بالدونية، وما يترتب عليها من قلق وتوتر نفسي، ونحن هنا لنساعدهم ونعبر عن تضامننا معهم، لا للتشهير بهم والمساس بكرامتهم ومضاعفة معاناتهم!!!”
تربية على القيم
وحسب المسؤولة البولونية، التي كانت مرفوقة بوفد يمثل القنصلية وجالية بلادها المقيمة بالمغرب وإدارة وأساتذة وتلاميذ المدرسة البولونية بالرباط، فالتلاميذ هم من تكفل بجمع المساعدات التي تمثلت في ملابس وأغطية وأدوية وكتب وأدوات مدرسية وحلويات… فيما اقتصر تدخل القنصلية على توفير الدعم اللوجيستي. وتم كل هذا بتنسيق مع جمعية محلية هي التي قامت بتوزيع المساعدات على مستحقيها من سكان القصر ورُحَّل المنطقة.
واعتبرت قنصل بولونيا في تصريح لي، وكنتُ موفدا، آنذاك، من قبل جريدة وطنية، أن أهم فائدة يمكن استخلاصها من هذا العمل، بالنسبة إليها، هي التلاقي والتواصل الإنساني المباشر بين تلاميذ المنطقة وتلاميذ المدرسة البولونية، وهو تواصل لا يمكن أن تحققه أو تعوضه وسائل الاتصال الحديثة.
ولأن أغلب تلاميذ المدرسة البولونية ينحدرون من زواج مغربي _ بولوني، فقد اعتبرت السيدة القنصل أن هذا العمل سيتيح لهم قضاء «نهاية أسبوع مختلفة»، تسمح لهم بتقاسم الوقت مع نظرائهم بهذه المنطقة، وربط الصلة بجذورهم، والتعرف على جزء من وطنهم، المغرب العميق، وعلى حياة ونمط عيش مختلفين، وعلى جزء من ثقافتهم وهويتهم المتعددة، وعلى الرُّحَّل، هم الذين تعودوا أن يتلقوا معلومات نظرية عنهم فقط.
كل النساء جميلات…
وحين سألتها عن عدد أفراد الجالية البولونية المقيمة بالمغرب، آنذاك، قالت إنه يناهز 5000 مواطن، أغلبهم نساء… فعقبتُ، أن الأمر مفهوم، لأن النساء البولونيات معروفات بجمالهن، لذلك، فأغلب الشباب المغاربة الذين يذهبون لمتابعة دراستهم ببولونيا، يقعون صرعى ذلك الجمال، فيتزوج الواحد منهم ببولونية قبل أن يعود للاستقرار ببلاده المغرب… فعلقت قائلة: اسمح لي سيدي أن أقول لك إن كل النساء جميلات، فقط علينا أن نبحث عن مكامن هذا الجمال فيهن!!!
*في زيارة شوماخر الناجي الوحيد من المذبحة
بعد الغذاء، عدنا إلى ميدلت، وهذه المرة، لنحط الرحال بكنيسة “سيدة الأطلس” (Notre Dame de l’Atlas)، والسبب هو لقاء جون بيير شوماخر، والتعرف عليه، وهو راهب فرنسي تجاوز التسعين سنة الآن، والناجي الوحيد من إحدى أبشع المذابح التي تعرض لها الرهبان بالجزائر، خلال “العشرية السوداء” إذ قامت جهة مسلحة “ما” باختطاف سبعة رهبان كاثوليكيينمن ديرهم بمنطقة تيبحيرين، جنوب غرب العاصمة الجزائرية، ليلة 27 مارس 1996 واقتيادهم إلى مكان مجهول وتصفيتهم. وحتى اليوم، مازالت الجهة المختطفة مجهولة، وإن كانت السلطات الجزائرية تتهم “الجماعة الإسلامية” بالضلوع في هذه الجريمة.
وحسب الراهب الناجي، فبعد عدة أسابيع، تم اكتشاف جماجم الضحايا مفصولة على جثثهم التي لم يتم العثور عليها حتى اليوم.
الراهب النحيف، الذي تكشف تقاسيم وجهه عن عمر ناهز التسعين سنة، حكى لنا وللتلاميذ عن المذبحة، وعن زملائه ضحاياها، وقال إنهم كانوا جميعا يعيشون في سلام ووئام مع السكان المحليين، وأن الرهبان كانوا من أشد المدافعين عن التقارب بين الأديان، ورفضوا ترك ديرهم في أوج موجة العنف التي كانت تشهدها الجزائر على الرغم من تزايد الأحداث الإرهابية، والتهديد الذي كانوا يتلقونه…
وأشار الراهب أنه، بعد النجاة من المذبحة، حل بالمغرب، سنة 2000، ومنذئذ، وهو يعيش حياة جديدة، قوامها الدفاع عن العيش المشترك والاحترام المتبادل بين المسلمين والمسيحيين، كما أشاد بسكان إقليم ميدلت وبالمغاربة عامة، موضحا “نعيش في هذا الدير حياة دينية شبيهة بتلك التي كنا نعيشها في دير تيبحيرين بالجزائر، ومهمتي كرجل دين هي الصلاة وعبادة الله والصداقة مع الناس...
وأضاف أنهم في الدير يستقبلون كثيرا من المغاربة والأجانب الذين يأتون لتفقد أحوالهم، ومشاركتهم صلواتهم وعبادتهم… وأنه وزملاءه رهبان الدير تجمعهم صداقة قوية مع سكان إقليم ميدلت، وتحذوهم الرغبة في التعرف عليهم وعلى حياتهم، سيما الدينية منها، وأنهم يعيشون معهم في تفاهم ووئام واحترام متبادل… معربا عن أمله في أن تتوحد الديانات الثلاث لإعلاء قيم التسامح والعيش المشترك ونبذ كل أشكال العنف والكراهية.
تعليقات
0