أحمد بيضي
الخميس 22 أبريل 2021 - 19:04 l عدد الزيارات : 20474
محمد عياش (°)
تلك البئرُ كانت ثقْبا صغيرا
في لِساني
وانْزلقتْ إلى حاشيةِ الطّريقِ
ونامتْ بين موّالٍ، و غرْبتينِ
تلك البئرُ لا ماء فيها الآنَ
ولا صَبايا حوْلها
يسْتبقْنَ الأيامَ مثل دقّاتِ القلْبِ
ضاحكاتٍ، غامزاتٍ
لا أنبياء يرْشدونَ الْعابرينَ
إلى حشْرجةِ التّرابِ
ولا مشّائينَ يدلّونَ حناجرَ الصّحْبِ
على فُلولِ المٌغرَقينَ
تلك البئر كانت فَمِي..
فمي الذي سهوتُ عن بخارهِ
!حينَ صرخْتُ
فتح الله بوعزة
نحن هنا أمام نص شعري لا يبوح بأسراره كاملة إلا لمن يحوز قدرا وافرا من الصبر الجميل على صدمات الإنصات الأليمة لمكنوناته الهادرة ، ولأمواهه النافرة موجات من الوجدان ، والفكر، والخيال ، والموسيقى لا يحصرها شط قرائي هش، ولا تعترضها صخور تأويلية معرضة للارتباك في أي لحظة ..إذن، ونحن نقر – منذ البداية– أن هذا النص متعدد المستويات التبليغية ليس يسير التناول، لا نقصد من ذلك أنه متمنع على الاقتحام، والمناوشة، والمراودة، والتطويع .. نقر بذلك حتى لا نطمئن – ومعنا القارئ –إلى أن حزمة المكونات الدلالية والجمالية التي يهجم بها النص على قراءتنا المتحوطة تقتضي صبرا جميلا في التناول، والتحاور، والترافع !!!
ما دمنا بصدد نص شعري /حجاجي يدخل في لعبة تحد خطيرة معنا، ويلعب على أكثر من حبل في خلق الأثر الجمالي والإقناعي لدى المتلقي …
ولنبدأ في القبض على هذه الحبال واحدا تلو الآخر:
حبل الاستهلال: (تلك البئر كانت ثقبا صغيرا في لساني)..
اختار الشاعر أن يضع البئر على مسافة بعيدة منه كييتأتى له أن ينظر بتريث، وحكمة إلى ما سيسرده عنها، خاصة أن البئر كانت، وظلت فضاء رمزيا مرجعيا محملا بأثر إيهامي، وبظلال تخييلية تختبئ وراء التعبير عن مواقف متوترة، ودرامية تبدأ من الخفاء، والفقد، والغياب لتصل إلى الكيد، والموت، والفناء، دون إغفال الدلالات المفترضة، والثاوية في ذاكرتنا بما للبئر من امتدادات إيجابية تحيل على الماء، والرواء، والخصب، والتطهر، والصفاء، والصمود أمام غارات القحط، والهجران، والاغتراب …
هذه البئرالبعيدة التي تشبه ثقبا صغيرا في لسان الشاعر تبدو –في الفحص البدئي – بعيدة عن الذات الشاعرة بما يوحي للقارئ أنها ستغدو –لاحقا- موضوعا قيميا يحتم على هذه الذات السعي الحثيث نحو تشييد علاقة ما معه (قد تكون اتصالا أو انفصالا) حسب طبيعة التحريك manipulation، ومستوى الرغبة في رسم العلاقة المتوخاة منها، وما يعتورها من توتر، وصراع، ومفاجآت..
ولنعلم أن هذه البئر/ الثقب الصغير الذي تم إبعاده فضائيا، تتموقع في لسان الشاعر، في نصفه (الوجودي) كما قال زهير ابن أبي سلمى .. (لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده …)، وتلكم إشارة تحذيرية إلى خطورة هذه البئر في قادم التمفصلات الشعرية/ السردية ، وفي محتمل الانفلاتات التخييلية المفتوحة على شتى الخواتيم …
الحبل الثاني :
هذه البئر التي ترتسم ثقبا صغيرا في اللسان انزلقت إلى حاشية الطريق لتنام بين موال، وبين غربتين ..اختارت الهامش الفضائي مستقرا لها … ونحن نعلم أن معظم الآبار تقترن بحواشي الطرق، حتى وإن لم تكن هناك طرق تفضي إليها ..فالبئر ثابتة ، والطرق هي التي تجيء إليها بحكم الضرورة البيولوجية، والشرط الحيوي للماء في حياة الناس ..هاته البئر المنزلقة، أو بالأحرى التي انزلقت الطريق نحوها من جهة الاعتبار البيولوجي، والثقافي أيضا، (نامت …)غادرت عالم اليقظة/ الحياة لتلج عالم الغياب بين موال (الصوت المنطلق في فضاء مفتوح +)، وبين غربتين (الاقتلاع القسري المضاعف من فضاء أليف 2-)، حيث يبدو السالب المضاعف أقوى من الموجب الواحد، وحيث يصير النوم / الغياب منذورا لما لا يبعث على الارتياح ، والطمأنينة ، والخلاص..
فعلا، هذا التوتر المتوقع لن يتأخر عنا عندما يعلن الشاعر أن تلك( البئر / الثقب الصغير / اللسان) جفت، وغادرتها الصبايا اللواتي كن يرقصن حولها في غنج دافق، واستباق مرح للزمن (ضاحكات ، غامزات ) يشبه دقات قلب الشاعر ذات غبطة ..غادر الماء البئر، وكذلك فعلت الصبايا الجميلات، الفرحات، الرشيقات..فانتفى ما من شأنه أن يضفي على هذه البئر أي معنى يسوغ جدواها في حياة العابرين ..
الحبل الثالث :
لم يتوقف المصاب الجلل عند الماء، والصبايا فحسب، بل انداح ليضم إلى الفاجعة- أيضا – الأنبياء ، ومعهم ، البوصلة إرشاد العابرين نحو ما به تهنأ النفوس، وتستمر الحياة في مسلكها الروحي الآمن…وهنا يمكننا أن نستحضر قصة يوسف عليه السلام، ووظيفة الجب فيها … ما عاد للأنبياء من وظيفة خارقة – كما عادتهم المقدسة – بعد أن تركوا البئر عرضة للنسيان، والعابرين / المريدين لقمة سائغة في فم الضياع، والفقد، والهلاك …أصبحوا عاجزين، إن لم نقل دون فائدة، في توجيه العابرين إلى حشرجة التراب، أو وجع الأرض التي منها خلقوا، وفيها ستتم إعادتهم إليها دون سابق إشعار …
وقد اختار الشاعر بذكاء استثمار الخلفية الإيحائية الجنائزية للموت من خلال كلمة “حشرجة” : ترديد الصوت عند الاحتضار .. والقبور بمثابة آبار للموتى إذ يعتبر لا كان القبر فاتحة الرموز في تاريخ المتخيل الإنساني لما له من وقع فادح في كينونة البشرية ، ومصيرها الإشكالي …
الحبل الرابع :
بعد الصبايا، والأنبياء يأتي دور المشائين (المشي هنا ذو دلالة متعالية على الفعل العضوي الدال على الحركة فقط) الذين لا يقلون عطالة عمن سبقهم إذ إنهم لن يكون لهم أي فضل في إنقاذ فلول المغرقين في الماء (الغرق في الماء هنا ينسحب على البئر مثلما ينسحب على النهر ، والبحيرة ، والبحر ، ولقوارب الموت نصيب من هذا الماء !!!)، ولا في مساعدة من رزئوا على تخليص حناجرهم من الصخب المؤلم، والحارق للأفئدة المكلومة ..صخب الثكالى، والمفجوعين التائهين الذين لن يتمكنوا من دفن موتاهم في قبر/بئر يمكن زيارته، والتأسي به ..
حبل الاختتام (المشنقة الناعمة):
إنه يشبه حبل المشنقة ..معه تنتهي دهشتنا المعلقة، ومساءلتنا المؤقتة للنص حيث يؤكد الشاعر -عبر لعبة استذكارية – أن تلك البئر كانت فمه …ونحن نعلم مسبقا أنها كذلك، فما الغريب في هذا الاعتراف المتكرر ،والتأكيدي إذن ؟
لا غرابة في الأمر سوى أن تلك البئر الجافة التي هي المعادل الرمزي لفم الشاعر، للسانه المقطوع تفتح امامنا بعدا آخر اللسان بما هو الأداة السحرية، القاهرة التي يتمتع بها الشاعر في تواصله المستمر مع الكون …وهو أن السهو الذي تملك الشاعر عن بخار الفم لحظة الصراخ وما يوحي به هذا الصراخ من رغبة في التمرد، وإثبات الذات، وقدرة على مجابهة القحط، والموت، والفجيعة …
هذا السهو هو السبب الماكر في تحول اللسان إلى بئر ضحلة ما عادت تنقذ العابرين من احتمالات موت أسطوري لايرحم …موت رمزي تتناسل كواسره بلا هوادة في انتظار أن ينتبه الشاعر إلى بخار آخر يتحول معه الصراخ إلى طقس عبور نحو استعادة البئر ماءها الهارب ، واستعادة اللسان سطوته الرهيبة في مقارعة الخواء ، واللامعنى، و تحويل المنفصل إلى متصل ، والوقوف سدا منيعا أمام شدائد الدهر ، وأرزائه القيامية .
على سبيل الختم :
عموما، فإن هذا النص المليء بالحبال ، والمفخخ (بالحمولة الأدبية للكلمة) ، يسعى صاحبه -مع سبق التمسك بحقه الأنطولوجي في التعبير – إلى أن يضعنا – معه – في قلب العملية الإبداعية في تمظهرها الشعري دون كثير عناء ..إنه نص ميتاشعري إذا جاز التوصيف مادام يراهن على إثارة معضلة قديمة لم تنسحب من دائرة الإبداع الواسعة ..إنها معضلة الصراع الضروس الذي يخوضه الشاعر مع اللغة على عدة جبهات: لغته الخاصة التي شبهها الشاعر بالبئر، ولغة المجتمع التي لاتشبه لغة الشاعر إلا في مواطن باهتة (الصبايا، الأنبياء ،المشاؤون)، ثم لغة الجسد التي تنهار أمامها كل صروح الرغبة المنجزة في كتابة نص كامل يبعث الطمأنينة الغامرة في دخيلاء الشاعر..
رغبة محفوفة بالمحاذير، وغارقة في بئر التخوفات من توقف اللسان عن الكلام .. رغبة متوثبة إلى امتلاك ناصية الجمال المكللة بتيجان يحرسها زبانية شداد ، غلاظ..والتسلل إليها شبه مستحيل بين هؤلاء الحراس القساة (وما أشد قسوتهم مع الشعراء خصوصا !!) …مع ذلك ، حين تجود سماء الأمل بقطرات حياة، تستعيد البئر ماءها، والبحيرة مرآتها، وينبعث نرسيس من بين تلافيف الأسطورة ليبشر الشاعر بأن لسانه لم ينعقد، وبأن القصيدة/ البئر/ المرآة تصون العهد، وتحتفظ له بوافر المحبة، والوفاء، والإخلاص …
تعليقات
0