الحياة الثقافية والفنية والأدبية من خلال رواية “الخالة أم هاني” لربيعة ريحان

أحمد بيضي الجمعة 23 أبريل 2021 - 16:03 l عدد الزيارات : 15609
    • حميد ركاطة (°)

  • تقديم

تقدم رواية “الخالة أم هاني”، لربيعة ريحان، نفسها كورش مفتوح على خطابات متعددة، تقدم أحداثا يختلط فيها الواقعي بالمتخيل، وتؤطر نفسها داخل حيز زماني كبير جدا، يمتد من خمسينيات القرن الماضي، إلى نهاية العشرية الأولى من الألفية الثالثة وفق ما ورد من إشارات داخل المتن الروائي تقول الساردة:” لم أكن مهتمة بعد بأن أجسأل، ماذا هناك في تلك الحياة التي عاشتها الخالة، في الخمسينات، والستينات، والسبعينات”، وينحصر  تأطير الفترة بالإشارة إلى توظيف الرسائل النصية الإليكترونية القصيرة مع ظهور الهاتف النقال، وشيوع استعماله، كما وردة في رسالة خاصة من الشاب مهندس الإعلاميات إلى شيماء” أتخيلك وردة تشتعل بالعطر والشوق والدفء..”

إنها رواية اتسمت بجمال تشييدها المنفتح والمتنوع، و بجرأة كبيرة جدا في تناولها لطابوهات، ظل  العديد منها مسكوت عنه في الكثير من الأعمال الإبداعية، من قبيل: تزويج الفتيات القاصرات، و العلاقات الحميمة، والنظرة الخاصة إلى الجسد، وغياب الثقافة الجنسية، والعنف ضد النساء.. رواية حفر ت بعمق في تاريخ مدينة أسفي، وفضاءاتها، وأصول ساكنتها، الموريسكية، والعربية، والبربرية، وماضيها النضالي، و الطقوس، والشعائر التي مارسها هؤلاء، كما ارتكزت على توظيف الأمثال الشعبية، و أشارت إلى ثقافة الطبخ، و مكانة أعلامها الصوفية، والفنية، والأدبية، مع الإشارة إلى بعض الممارسات ما قبل المسرحية، والنعرات العرقية.. والتعايش الديني..

وسنقتصر في هذه الورقة على إبراز جانب خاص تميز بثرائه وبعمقه التاريخي الذي أضفى جمالية خاصة على الرواية.

  • الممارسات الماقبل مسرحية

قدمت الرواية في سياق أحداثها العديد من الممارسات الاحتفالية، سواء منها ما ارتبط بالجانب الخاص ببعض المدن البحرية، ” كسباق تقشير  العريسين للسمك”. أو الممارسات التي  تم الحديث عنها كأشكال ما قبل مسرحية،  من قبيل “يوم بوهيروس” وهو عبارة عن طقس التراشق بالماء. والسبع “بولبطاين “ذلك الفتى الذي يخرج إلى الدرب مغطى بفراء الكبش، وواضعا على رأسه قرنين، يصاحبه الصياح والأهازيج”. كما تمت الإشارة عرضا إلى “سلطان الطلبة باعتبارها ممارسة احتفالية للملك الوهمي، وممارسات أخرى كالحديث عن” الحلايقي عند باب الشعبة.. والعيساوي.. وحليمة الزاز الشخصية المعروفة بأدوارها الكوميدية.. والساحر ..”.، وطقس شعالة(بابا عيشور)

كما تناولت الرواية طقوس أخرى ارتبط في مجملها بالعرس المسفيوي، كطقس “فحص البكارة” من قبل القابلة، وتجهيز العروسة، وتوابعه من تغذية، واستعدادات الخياطة، والتطريز، والتبييض، وتلميع أواني النحاس والفضة، والحناء، والعمارية، والماشطة.. وإحياء الحفل من طرف شيخة مشهورة( البوعنانية). ، وطقس الهدية، والدخلة، والاحتفاء بالسروال”

وسيسبق الفرح مجموعة من الإجراءات، التي يساهم فيها أشخاص آخرون قبل انتشار وذيوع الهاتف، ووسائل الاتصال الحديثة، كمهنة “العراضة”، المرأة التي كانت” تلف على كل البيوت، حاملة قصبة في رأسها ربطة حبق ومناديل زاهية.. مع وصولها كانت تطلق الزغاريد(ثم تقدم الدعوة وتتلقى التهاني)”. كما تمت الإشارة إلى مهن أخرى ك”القابلة، والبراح” الرجل الذي كان يلف الأزقة والدروب، راجلا أو على دراجة هوائية.

  • ب- الفن والغناء

تضمنت الرواية مقاطع من الشعر الغنائي كقطعة ” البيضا” التي أداها الراحل إسماعيل أحمد، ومقطعا من أغنية أنا عبد الزين” للفنان أحمد الغرباوي، ونشيد دولة المغرب، إلى جانب أغنية ” ياكاجرحي” للفنانة نعيمة سميح. مع الإشارة إلى الأنماط الموسيقىة المتداولة في الأعراس من قبيل” الجرة، والركادة، والهيت”.

  • تضمين الأمثال الشعبية

لعل ما استأثرت به هذه الرواية، على مستوى تعزيز الهوية الثقافية المغربية، وإضفاء الطابع المحلي عليها، هو صهر لغتها العربية الفصحى، لتكون أقرب إلى اللغة العامية، الأكثر تداولا بين مختلف الفئات الشعبية، توظيف لمسناه في الكثير من المقاطع. والتي بلغ عددها أكثر من ثلاثين مثلا”، و”هاته الحكم والأمثال والمعاني الشعبية، تساهم.. في إصلاح المجتمعات بتأثيرها على النفوس كي ترقى، وتتهذب من حسن إلى حسن. كما أنها تنبه الناس كي لا يقعوا فيما ينصبه الدالون والمحتالون للناس من فخاخ وشراك، كي يتورطوا في حبالهم وشرورهم”..

وهذه  الأمثلة وظفت بلغتها الوامضة، وتلميحاتها المغرضة، إما من أجل الانتقاد” أولاد عبد الواحد كلهم واحد”، أو التشبيه” العشاء اللذيذ تطلع ريحته عند العصر”، أو السخرية” تدفعين علي شبابك غالي، مثل خيزو في الليالي”، أو المقارنة” كل واحدة وزهرها، حتى في خليان دار أبيها”، أو التنزيه،” إذا كان التفاح من يدي فاح، وإذا كان حبق من يدي سبق” أو التعالي” اللي ما عندو هم، تلده له حمارته”، أو التأسف”من وضع نفسه في النخالة، ينقبه الدجاج” هم يضحك، وهم يبكي”، أو التـأفف” ذكرنا السمن والعسل، ومن فمك إلى كمك”.. فالأغراض تنوعت حسب سياقات التوظيف، أو مستويات الخطاب، ونوعية المخاطب، ودلالة الحوار.. ولعل هذا الأمر حري بالنقاد والباحثين الالتفات إليه، وأن يفردوا له دراسات خاصة.

  • الأعلام داخل الرواية

لعل ثراء العمل الروائي، هو ما جعله يزخر بهذا الزخم من التضمينات، والتداعيات، والإشارات التي كانت لها أكثر من دلالة إما لتدعيم موقف، أو لتأطير مرحلة، أو إغناء نقاش على لسان بعض الشخوص، وهو أمر  محمود في العمل الروائي الذي يرتكز على التفاصيل، ومساحته قابلة للتضمين والتجريب. هكذا فقد تمت الإشارة إلى مجموعة من أسماء الأعلام منها:

  • الصوفية

تمت الإشارة هنا إلى العديد من الأولياء والصالحين، الذين تشكلت حولهم العديد من المعتقدات، والقصص، والكرامات.”ف”الانسان المقهور بحاجة إلى ولي لشدة شعوره بعجزه وقصور إمكاناته على التصدي والمجابهة والتأثير.. فالولي ملاذ ومحام يتقرب إليه ويتخذه حليفا ونصيرا، كي يتوسط له لدى العناية الإلهية. الولي هو ولي الله، ومن خلال التقرب منه تتحقق الحاجات وتعم الرحمة الإلهية”، وقد زخرت أحداث  الرواية بذكر  العديد من أعلام الصوفية والأولياء، من بينهم: سيدي بوزيد، سيدي واصل، بو الذهب، بوديس، سيدي منصور، لالة هنية الحمرية، سيدي عبد الكريم، سيدي بوشتى، ضريح سيدي بلكبير، ضريح سيدي بوزكري…

  • الفنية

عبد الرؤوف، بنبراهيم، الزعري والداسوكين، الهرنونية، الماريشال قيبو. ماريون كوتيار، رومي شنايدر، ميريل ستريب، زبيدة ثروت، دليلة، برجيت باردو، ألان دولون، مارلين مونور.

  • الأدبية

تم تضمين مقطع من كتاب “طبائع النساء” لأحمد بن  محمد بن عبد ربه الأندلسي. ومقاطع من كتاب طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي. إلى جانب تضمين مقتطفات من الرسائل الإليكترونية التي كانت تتبادلها الساردة مع عشيقها مهندس المعلوميات بمراكش” أتخليك وردة تشتعل بالعطر والشوق والدفء، وأعريك بنظرة حنين إليك، أنت فيها أشهى من شهرزاد”.

وتمت الإشارة إلى  الكاتب “عزيز نيسين” رواية الطريق الوحيد”، وحنا مينة” المرفأ البعيد، الياطر، الشراع والعاصفة،، الدقل، حكاية بحار دلائل الخيرات، ونواضر الأيك في معرفة أصول النيك، ماجدولين للمنفلوطي، والجرومية لمحمد بن داود الصنهاجي أبو عبد الله القاسم، ونهج البردة للبوصري، وطبائع النساء لابن عبد ربه الأندلسي، وطوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، والبؤساء لفيكتور هوغو، وأنا كارنينا ، والسلم والحرب لليوتولستوي، ومرتفعات لويذرنغ إيميلي برونتي.

  • عناوين أفلام

وداد، الوردة البيضاء، دراكولا، كينكو

  • آسفي المجال والتاريخ

أفردت الروائية ربيعة ريحان، حيزا مهما داخل هذا المتن للتعريف بمدينة أسفي، ومكانتها عبر التاريخ، سواء كمدينة لاقت باهتمام المؤرخين، والرحالة، من خلال إشارتها إلى كتابي رحلة ابن بطوطة، ومعجم البلدان لياقوت الحموي، ناهيك عما حظيت به خلال عصورها “بامتيازات كثيرة وسفارات، وقناصل، (و)مرساها خصصت للتصدير في الزمن الغابر.. استقر بها إنجليز وإسبان وبرتغاليون.. ووصلها القائد عقبة بن نافع دخلها بنفسه منتصرا”، وقال برحابها  قولته الشهيرة.

فأسفي حسب الساردة هي مدينة مقاومة من خلال إشارة جد شيماء الحاج عبد السلام، -الذي كان صديقا لمجموعة من الوطنيين-  إلى أحد مناضليها الأشاوس “الرايس الذي نكل به الفرنسين، بعد دعوته  البحارة للإضراب بأسفي” التي كانت حينها ” أول ميناء لتصدير السردين في العالم” فالمقاومة المسفيوية ساهم فيها “رجال الحركة الوطنية بالمدينة، والضواحي، (من)الحرفيين، والبحارة، والعمال، والفلاحين، والتجار الصغار..” قدموا تضحيات جسيمة، ووهبوا، أموالهم، وأرواحهم فداء للوطن من خلال الانخراط في مجموعة من المنظمات ك” اليد المباركة، وأسود التحرير، وفرقة الأحرار”.

كما تمت الإشارة إلى التحول الذي عرفته المدينة بعد الاستقلال من إجهاض لحلم، وآمال الفئات الشعبية، خلال سنوات الجمر والرصاص، أثناء حديث الساردة عن إحدى البنايات التي كانت مخصصة للتعذيب، تقول” كانت تهاب تلك البنايات، كل الناس في ذلك الزمن والذي تلاه، كانوا يغيرون خط سيرهم كلما اقتربوا منها، كانت بالمنسبة إليهم أماكن مرعبة، مخصصة في شيء واحد.. التعذيب” كما تمت الإشارة إلى التحولات المجالية  التي عرفتها المدينة” لقد طرأت تغييرات كثيرة هناك، فتحت فيساريات جديدة، احتل( الفراشة) الساحات”. وهي تحولات طالت كذلك المجال المعماري أيضا.

كما وردت أسماء العديد من الأماكن من قبيل، الأزقة الضيقة( سيدي الشهري) ، والمقاهي الشعبية، وسوق الغزل، والدروب( درب النجارين، ودرب الصومعة)، والسويقات( السوق الخانز) ، والأبواب(باب الشعبة).. والرياضات(رياض بلهواري). والمقابر،( سيدي منصور، وسيدي بو الذهب)، والدواوير(دوار الشمس) ، والأحياء الهامشية. كما لم يستثن التضمين الاشارة إلى مجالات وأمكنة خارج أسفي، كمراكش التي حضرت بقوة في هذا العمل باعتبارها من المدن الكبيرة، الضاجة بالحركة والناس”، و” جامع الفنا، والساحات، والعراصي، و سوق السمارين، إلى جانب درب غلف  بالدار البيضاء.. وهي فضاءات جاء الحديث عن بعضها في إطار المقارنة” الأزقة الضيقة والبيوت العفنة التي لا تدخلها الشمس.. ” في مقابل المدن الكبيرة والساحات الضاجة بالحركة والناس”.

  • فن الأكل

لعل ما يشدنا في الرواية إلى جانب محاورها الأساسية،  هو تلك التداعيات التي كشفت النقاب عن ثقافة المرأة المغربية في مجال فنون الطبخ، والمعيشة، وأساليب الحياة داخل البيوت، خلف الأسوار العالية. فالموائد كانت تؤثث بعناية فائقة حسب الأوقات، والظروف، والمناسبات، ب” فناجين القهوة وأكواب الشاي، وغريبة والكيك، والفطائر بالسمن والعسل، (كيرب) الأطفال المدهون بنوتيلا”، وتحضير “الطواجن بأنواعها، والكسكس، والسفة، والحريرة، وعجن الخبز.. والفطائر” وتهيئ أنواع من المربى والمخللات حسب الفصول” برتقال، مشمش، تين، زيتون، ليمون، فلفل حار.. والسفرجل، والكبار، وتحضير القديد، وترقيد الزيتون بأنواعه، كما برعت المرأة المسفيوية في تهييئ السلاطات” بالباربا، تكتوكة، زعلوك، خيار، خس، وأطباق عصرية، كرتان بالباشاميل والجبن، وأطباق لحم الغنم”.

ولعل هذه الثقافة لم تكن خاصة بل سنلمس أن بعضها كانت مشتركة مع يهود أسفي، تقول الساردة” تلك القواسم المشتركة التي جعلت ساكنة أسفي من المسلمين، يأكلون مع اليهود الرقاق، والسخينة في بيوتهم.. ويتحدثون مثلهم، لكن لسبب ما، لم يقيموا أبدا معهم(عيد المساخر)”. في حين سنلمس تميزا على مستوى ولائم الأعراس الذي كانت تقدم فيها لذائذ الطعام” في صحون الطاوس الصينية الصنع، وكيف كان الرجال يجلسون في غرف، والنساء في غرف أخرى”.

  • الخاتمة

في ختام هذه الورقة يمكننا الإشارة إلى أن رواية الخالة أم هاني، تعتبر من الروايات المغربية التي ساهمت في إبراز طابع الخصوصية المحلية، وكشفت عن مقومات الهوية المغربية المتعددة المشارب، فاشتغالها ضمن قالب التحقيق الصحفي، مكنها رفع شعار الحرية في التعبير، وعدم إيلاء أية أهمية للقيود الاجتماعية، وهو ما ممكنها من الخوض في مناقشة مجموعة من المواضيع التي كانت يتم الحديث عنها همسا. كما كشف عن واقع الحياة بأسفي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأبرزت خصوصيتها الفنية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتاريخها المقاوم التليد. رواية اتخذت من الجسد الأنثوي سارية للكشف عن آلام النساء، وعن  أفراحهن وأحزانهن ورصده ضمن طيات المجتمع المسفيوي، بكل تفاصيله وحيثياته الجلية والخفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(°°) ناقد وقاص مغربي، من أعماله “جمالية القصة العربية القصيرة جدا”، “دموع فراشة”، “ذكريات عصفورة”، “مذكرات أعمى”، “أسرار شهريار” (عمل مشترك)، “حياة واحدة لا تكفي”..

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأربعاء 7 مايو 2025 - 00:54

انطلاق “موسم الولي الصالح الشيخ أبي يعزى يلنور” بمولاي بوعزة: تظاهرة ثقافية وروحية تراهن على التنمية والسياحة

الثلاثاء 6 مايو 2025 - 21:16

انطلاق عملية استقبال طلبات الدعم العمومي المخصص لقطاعات الصحافة والنشر…

الإثنين 5 مايو 2025 - 20:08

القصابي بميدلت تستضيف باحثين في التاريخ والتراث بملتقاها الوطني لتوثيق تاريخ المنطقة وحفظ ذاكرتها الجماعية

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

error: