-
د. محمد أبو العلا (°)
حذو قصيدة وارفة لأدونيس سرح فيها تأويلا بين مراكش وفاس، عنّ لي أن أسرح نثيرة في هذا المدى المؤثث للذاكرة كلما ذرعت السبل، بين مسقط الرأس بني ملال وخنيفرة عشّ زغب الحواصل (أبنائي) ، قبل أن يحلقوا بعيدا جدا عن الأطلس قريبا جدا من القلب.
قدر بني ملال أن تسكنني وأسكن غيرها، وقدر خنيفرة أن تتاخم شمالا “جنوب الروح” فتغدو على مر عقدين توأمها، هو ذا الجواب الذي يسبقني حين يستفزني سؤال فاصل، فأسرح نحو أطلس واصل بين ذرى “تصميت” وشعاب “أقلال“..
“طفلا يدخل “أدونيس” مراكش في حاشية
من توابع الشجر والعشب
كل غصن تاج من نار“
وكهلا أدخل أنا بني ملال في حاشية زيتون غدا حطب عابرين، مهوى فأس أعمى أتى على حلم آخر اللقالق في عش على شتلة، حيث لا شيء يبشر بعودة سرب تائه في سماوات أخرى، بعد أن عاجل الإسمنت خلسة ما تبقى من حطام نوارس نافقة على سواحل بعيدة.
قف، قفا نبك مدخل المدينة الشمالي لما توقفت مطايا الحديد عند إشارة، فتوقف نبض القلب دهشة من أفنان رمان تئن للتو من ذبح منشار على مرمى نظر إبل شاردة بشّرها التتر ببيداء قادمة.
“تقدموا في هذه الزنقة
أبواب تطبق السر
وذلك المحو يرشدكم
للطين كتب وقراءات
وللفخار أقلامه وصحائف“
أتوغل في زقاقات “الغدير الحمرا”، فتسرح العين عبر شروخ الوقت، تعبر أبوابا مواربة قدت من شجر عتيق، فأتوحد عن بعد بهواء الردهات، أقتفي عبق قطران هارب، دليلي نحو خواب تهجع في قماط خيش، تحن لرشح الخزف، ولفتنة ماء مندلق من حنفيات “كاسطور” وجداول أم الظهر/ “المظهر” تحت جدائل الدردار، واحة زائر ورذاذ عابر قبل أن يلوذ بزلال أسردون راويا سرّ الأزل، نسغ بساتين حالمة بسياج يدرأ نهبا صار قاب قوس من حبات التين بعد أن غفت عيون “القصر” وأمسى أهل البلد في بلاد الله غجرا.
ثمة ما يشبه تواطؤا سريا بين حاضرتين على سديم ترابي، أرخبيل جدران هنا أو هناك وأقواس بلون الدم تنبجس من نتوءات الأطلس السامق بين مقالع الحمري وأدغال العرعار، طفح دم تاريخ مشترك زكّته أشرس الحروب، عالم دارس يأبى الامحاء، منتفضا من سطوة الأفول، ومبددا هباء الغياب ببوح الشواهد وهسيس الأشياء، عالم واسع جدا تحول إلى مجرد صوت كان من المفروض أن يرعد لقرون أخرى، لكن كان مقدرا له أن يموت كلية وكأنه لم يوجد قط كما يقول هنري ميشو.
تذرع المسافات بين حاضرتين فيتصادى الصهيل، يتبدى الجنرال هنريس على صفوان سفح مسحورا بالعبور، مفتونا بلذة السبي ووشم الحريم، فتنتفض المداشر ضابطة ساعتها على وقت جلل، يجلجل “بوحبة” فيجلد البارود صمت الترقب، تجفل الخيل فيتهاوى الخواجة في طمي بوزقور، تندلع الغارات على امتداد فتيل سرّي من القصيبة حتى مراعي أزغار، وفي لجّة القتال وارتكاس العدو، يعلن الإليزي فداحة الاستيطان.
لشاي بني ملال نكهته على شرفة مقهى غير بعيد عن أثر بعد عين لطواحين ماء ومسابح “بويعقوب” الحالمة بشغب طفولي وبمن أعياه ذات قيظ كلح النهار فاستحم على عجل، قبل أن ينحدر مخفورا بظلال الرّنج ، دائخا بعبق فاكهة صبار بغّالي الجبل.
لشاي خنيفرة نكهته كما لصباحاتها الصيفية بمقهى الجسر نيل المدينة، هِبَتها عند انهمار الماء وخضخاض يبلل الحلوق في الزمن العصيب، في انتظار أن ينساب حالما حاملا كوثر أكلمام إلى أحواض نعناع وفليو زيان، يتمهل قليلا حتى تستحم سوالف القصب ثم ينحدر، فللرحلة بقية. فيما كانت ضفافه صدى ترنيمات زيانية لنساء تجشمن السير عبر مسارب الدوم تحت ظلال قبعات ميكسيكية، العيون على الأطفال بينما تستنفر الحلوق عند شدو تماويت كل الجسد.
“حاضن سنبلة الوقت.. ورأسي برج نار..
ما الدم الضارب في الرمل٬ وما هذا الأفول..
قل لنا٬ يا لهيب الحاضر.. ماذا سنقول“.
(فاتحة خاطرة عن مدينتين)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
0