الذكرى 30 لرحيل السي عبد الرحيم بوعبيد

مـدرسة قـائـمـة الـذات في الأخـلاق السـيـاسيـة والثـبات عـلى الموقـف

46٬231

 

تحل اليوم السبت الذكرى 30 لرحيل السي عبد الرحيم بوعبيد، الذي توفي في 8 يناير 1992، القائد الاتحادي الذي أجمع الكل على أنه سياسي من طينة الكبار، وأنه مدرسة قائمة الذات في الأخلاق السياسية والثبات على الموقف، وكان أحد الرجالات الذين أسسوا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنوات قليلة بعد الاستقلال، ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مؤتمر استثنائي أرسى اختياره المذهبي سنة 1975.
عبد الرحمان اليوسفي يحكي عن لقائه الأول مع عبد الرحيم بوعبيد : «التقيت عبد الرحيم بوعبيد لأول مرة سنة 1949 – 1950، عندما وصلت إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك، وكنت على علم أن عبد الرحيم مع المهدي بنبركة ، من الجيل الجديد والحديث من قياديي الحزب  .كان عبد الرحيم قد اعتقل سنة 1944 حيث قضى سنتين في السجن ، ثم عاد بعده إلى باريس لإتمام دراسته، وكان هو المسؤول الأساسي  والممثل لحزب الاستقلال، حيث كان يرأس فريق المناضلين الذين كانوا على اتصال دائم مع القادة السياسيين الفرنسيين والصحفيين. وكان من ضمن المجموعة التي يشرف عليها عبد الرحيم بوعبيد، كل من عبد اللطيف بنجلون، بومهدي، مولاي أحمد العلوي وغيرهم .. وكانت من مهامهم الأساسية الاتصال بالجالية المغربية الموجودة بفرنسا، والقيام بمحاربة الأمية وسط العمال المغاربيين والعمل على تكوينهم الوطني والسياسي، ومساعدتهم على حل مشاكلهم . كما تم الاتصال بالعديد من الصحف والمجلات الفرنسية لتحسيسهم بنضالات الشعب المغربي وطموحاته إلى الاستقلال .ومن بين هذه الجرائد في تلك المرحلة « Franc-tireur « حيث كان ضمن طاقمها  صديقنا  Jean Rouss، وجريدة « Combat « التي عوضت في ما بعد ب « France Observateur  « التي كان يشرف عليها « Albert Camus»  وصديقنا Bourdet  ، وكان هناك أيضا Claude  Estier الذي يعمل بجريدة « Laube  « التي كانت جريدة الديمقراطيين المسيحيين وكان يديرها  Maurice Schuman ، وكانت هناك جريدة « Le populaire  « التي يشرف عليها  SFIO  ( المجموعة الفرنسية ضمن الأممية الاشتراكية ) .
كان من مهام عبد الرحيم بوعبيد ، الاتصال بالقادة السياسيين والبرلمانيين وممثلي الأحزاب التقدمية لوضعهم بشكل دائم في صورة آخر تطورات الأحداث التي يشهدها المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وتشجيعهم على القيام بمبادرات تجاه السلطات الفرنسية، لوضع حد لعهد الحماية والاستعمار، والتنديد بالممارسات القمعية التي تمارسها تجاه مناضلي الحركة الوطنية في المغرب .
كانت باريس في تلك الفترة عاصمة دولية، حيث كانت تنعقد بها الجمعيات العامة للأمم المتحدة، ففي سنة 1948، عقدت الأمم المتحدة جمعها السنوي من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وكم كانت هذه المناسبة فرصة للمناضلين المغاربة ، الذين حضروا وفي مقدمتهم المهدي بنبركة للقيام بالاتصال بوفود الدول المشاركة للتعريف بالقضية الوطنية ونضالات الشعب المغربي، وفضح الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الاستعمارية ضد مطالب الشعب المغربي في الحصول على حقوقه المشروعة ، واستمرار هذه السلطات في انتهاك حقوق الإنسان في المغرب .
عقدت الأمم المتحدة مرة أخرى الدورة السنوية العادية للجمعية العامة بباريس سنة 1951، وكنت حاضرا في تلك الفترة بالعاصمة الفرنسية، فكانت تلك الجمعية، بالنسبة لنا، مناسبة للتعريف بمطالب الشعب المغربي وشرح مواقفنا، بل ذهبنا إلى درجة أننا طالبنا بأن تدرج بجدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة نقطة خاصة بوضعية المغرب . وقد ساعدنا في هذا الطرح الأمين العام لجامعة الدول العربية أنذاك السيد عبد الرحمان عزام، وكنت أنا المكلف بالتنسيق معه في هذا المجال ،وقد رحب بنا وقدم لنا العديد من المساعدات، كنت أسكن في فندق صغير في الحي اللاتيني، وقد ارتأى السيد عبد الرحمان عزام       أن يستضيفني في الفندق الفخم جورج الخامسGeorges V   الذي يقيم فيه حتى تكون لي الفرصة باستمرار للاتصال بالوفود وطرح القضية المغربية .
ورغم أننا لم نتوفق في تسجيل القضية الوطنية ضمن جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أننا استطعنا بفضل تواجدي الشخصي بالفندق، إيصال مطالب الشعب المغربي إلى العديد من الوفود والشخصيات والصحفيين، ويرجع الفضل في الحقيقة إلى السيد عبد الرحمان عزام باشا أول أمين عام للجامعة العربية .
الجزء الأول من من مذكرات سي عبد الرحمان اليوسفي «أحاديث في ما جرى» ص 57-58-59.
عبد الرحيم بوعبيد … فريد زمانه !!سيرة قائد انتصر للأخلاق والسياسة …
«إن سر نجاحك في ترسيخ حزب الصامدين في هذه البلاد هي أخلاقك العالية، تجردك المثالي، إيمانك العميق بالقيم الديمقراطية والإنسانية، قدرتك على المقاومة والصمود، رصيدك ومصداقيتك في الوطن وخارج الوطن» …هكذا خاطب عبد الرحمان اليوسفي عبد الرحيم بوعبيد أحد أبناء المغرب البررة ، وهو مسجى إلى مثواه الأخير في محفل مهيب حجت إليه عشرات الآلاف من المغرب الرسمي والشعبي ومن كل الأطياف ببلادنا، جاؤوا جميعا لتوديع رجل بصم تاريخ المغرب الحديث ببصمات الكبار ورحل …. !!
عبد الرحيم سليل مدينة سلا، ذاك الشاب الذي عرف كيف يبني مجد وطنه .. فقد كان أصغر القادة الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944 بعد أن التحق بفاس قادما إليها من سلا وعمره لا يتجاوز 18 سنة ، وبقيادته لأول مظاهرة بمسقط رأسه يوم 29 يناير 1944 سيكون بذلك أصغر معتقل ينفذ فيه قرار السجن والنفي …
التحق هذا الشاب السلاوي، المتشبع بالنضال التحرري من أجل استقلال بلاده، بباريس سنة 1946 لاستكمال دراسته الجامعية بكلية الحقوق، لكنه جعل – وهو المسؤول بحزب الاستقلال – من تأطير الجالية المغربية من عمال وطلبة أولوية الأولويات ، فتحرير الوطن يستدعي تعبئة عموم الشعب المغربي، واستثمارا أمثل لكل الواجهات والمواقع …
بعد أن حط الرحال بتراب البلاد إثر عودته سنة 1952، سهر شخصيا على تأطير العمال وتنظيم العمل النقابي رغم مضايقات السلطات الاستعمارية، فكان من صانعي الإضراب العمالي التضامني مع الشعب التونسي إثر اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد …فكانت النتيجة اعتقاله مرة أخرى رفقة العديد من قادة الحزب أنذاك، وتم وضعه بسجن غبيلة بالدارالبيضاء بعد مواجهته مع أعنف القضاة الفرنسيين « جيريلوت « ، فالرجل لم يكن يأبه بالأحكام القاسية، في الوقت الذي نفذت فيه نفس المحكمة العسكرية قرار الإعدام في حق رفيقه الشهيد أحمد الحنصالي …
يحكي أحد رفاقه في الكفاح الوطني الأستاذ امحمد بوستة ، كيف كان عبد الرحيم رفقته خريف 1954 يقود بباريس المفاوضات السرية والعلنية مع الساسة الفرنسيين في حكومة مانديس فرانس وحكومة إدكارفور ، فقد كان عبد الرحيم لسان الدفاع عن السيادة المغربية الممثلة في المغفور له محمد الخامس مخاطبا إدكافور بلغة الواثق من قضيته « لا حل إلا برجوع محمد الخامس إلى عرشه».
عاد ملك البلاد محمد الخامس وولي العهد مولاي الحسن والأسرة الملكية يوم 16 نونبر1955 وعادت معه الشرعية ، وسيكون أمام عبد الرحيم – من جديد – مهاما وطنية كبرى لبناء المغرب الحديث المستقل، وتدشين مرحلة جديدة لتشييد صرح المغرب العربي الكبير بمؤتمر طنجة شهر أبريل 1958 بمبادرة من حزب الاستقلال للدفع بتحرير الجزائر …
تقلد عبد الرحيم بوعبيد مهمة وزير الدولة في أول حكومة مغربية للمطالبة بالاستقلال التام، ودشن مرحلة جديدة من المفاوضات رفقة وفد مغربي ستتوج بتوقيع وثيقة الاعتراف باستقلال المغرب .. عاد القائد عبد الرحيم يحمل وثيقة الاعتراف باستقلال البلاد بها محفوظة في حقيبة ملابسه المتواضعة … !!
يحكي الذين جايلوه في تلك المرحلة أن عبد الرحيم بوعبيد وزير الدولة في أول حكومة مغربية كان يستعمل دراجته النارية ، في بداية مشواره الوزاري، للانتقال من منزله إلى مقر عمله الرسمي بالقصر الملكي بدون حرج أو مركب نقص قبل أن يضطر إلى استعارة سيارة محترمة من خارج مدينة سلا في انتظار السيارة الحكومية الرسمية، وكانت الاستجابة من المقاوم المرحوم الحاج محمد الخنبوبي الذي وضع رهن إشارته سيارة تليق بمهمته الوزارية إلى حين، وسيتطوع المناضل عابد السوسي للسياقة به . فعرض عليه عبد الرحيم بوعبيد تسجيله بقائمة الموظفين الذين سيلتحقون بوزارته إذا قبل ذلك، فكان رد عابد السوسي « إني أيها الأخ الكريم غني عن أي توظيف، إني لم أقم بما قمت به نحوك كوزير، وإنما كأخ مناضل فذ ومتواضع، وإذا ما أردت مجازاتي عن العمل الذي تشرفت به لخدمتك، فما عليك إلا أن تشرفني بتناول طعام الغذاء بمنزلي، وهو ما استجاب له عبد الرحيم الوزير بتلقائيته المعهودة … !!
يسجل التاريخ لعبد الرحيم العديد من المواقف المبدئية النبيلة، فقد أبى إلا أن يرتدي بذلة المحامي ليدافع عن المحجوب بن الصديق الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل الذي اعتقل يوم 9 يوليوز 1967 غداة إصدار نقابته لبلاغ عقب هزيمة الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل ، ورغم اعتراض العديد من المناضلين على عبد الرحيم بالنظر إلى مقاطعة نقابة المحجوب بن الصديق للاتحاد الوطني عقب الاعتقال الشامل لأطر الحزب في يونيو 1963 ، فقد اختار عبد الرحيم أن يرد على منتقديه بالآية الكريمة « إن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم «.. !!
من مواقفه الرفيعة، أريحيته وانخراطه الطوعي في كل المبادرات النضالية ذات البعد الحقوقي والإنساني، والتي جعلت من عبد الرحيم «فريد زمانه» فقد كانت أيام الجمر في عز لهيبها .. اعتقالات واختطافات بالجملة شهر مارس 1973، محمد الوديع الآسفي ومحمد منصور يأخذان المبادرة بعد أن نالا نصيبهما من هذه المحنة، فقررا الاتصال بعبد الرحيم لجمع الدعم لعائلات المعتقلين والمختطفين، ثمن عبد الرحيم الخطوة، وقدم لهما شيكا موقعا على بياض، طالبا منهما ألا يتعديا مبلغ مليون سنتيم ، وهو الرصيد الموجود بحسابه … !! .
لنا أن نتمعن جيدا رمزية هذه الإشارة ,,,, هو ذا عبد الرحيم الذي اختار الزهد أسلوبا في الحياة ، فالرجل رفض بطاقة المقاومة وما يجنى منها معتبرا المقاومين الحقيقيين هم من حملوا السلاح واستشهدوا في ساحة الشرف …. !!
كان عبد الرحيم حريصا على الحضور المادي والمعنوي في كل المحن كالمؤمن الواثق بعدالة قضيته، فالرجل لم يتردد – كعادته دائما في الحديث بصوت مرتفع بتصريف الموقف السياسي الصريح ، فقد صدح في محاكمة منفذي جريمة اغتيال الشهيد عمر بنجلون : « إن المحاكمة التي تطلبون منا حضورها في هذه الظروف لا يمكن أن تكون إلا محاكمة صورية …وإذا كان من المحتمل أنكم ستحاكمون فقط ، بمقتضى القرار الذي ستصدرونه ، منفذي الجريمة الشنعاء التي تعرض لها الشهيد عمر بن جلون ، فإن من المؤكد أنكم لن تحاكموا المدبرين الحقيقيين لهذه الجريمة …إن المحاكمة الحقيقية ستجري في وقت آخر، وسنلتقي يومئذ بالمسؤولين عن ارتكابها « !!…
هي ذات الصرخة كذلك حين جعل عبد الرحيم الوطن فوق الجميع خاطب الذين يحاكمونه : « رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه «. كانت المناسبة اعتقاله يوم 7 شتنبر 1981 رفقة أعضاء من المكتب السياسي محمد اليازغي ومحمد لحبابي ومحمد منصور ومحمد الحبيب الفرقاني على هامش موقف المكتب السياسي من قبول الحكومة لقرار مؤتمر نيروبي بإجراء الاستفتاء بالصحراء المغربية بدون قيد أو شرط … !!
سيحسب الأكاديميون والمؤرخون – لا محالة – لعبد الرحيم أنه عبد الطريق لتوحيد المسيرة النضالية مع حزب الاستقلال وباقي القوى التقدمية في هذا البلد، توجت هذه الخطوة بتقديم مذكرة مشتركة للراحل الملك الحسن الثاني خلال شهر أكتوبر 1991 ، مشيرين في ديباجتها إلى قصور الممارسة الدستورية التي تعتري سير المؤسسات مع أنها مطالبة بالاضطلاع بدورها كاملا شأنها في ذلك شأن نظيراتها في الأقطار الديمقراطية …
مر شهر على تقديم المذكرة لعاهل البلاد، وكأن الرجل يرتب بدقة أيامه الأخيرة ، فقد أبى وهو في ذروة المرض إلا أن يترأس أشغال اللجنة المركزية يوم 2 نونبر 1991 ، كان لكلمته طعم الوصية الأخيرة : قال عبد الرحيم «إن فرض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان يتطلب الصبر ..فنحن لنا في هذه البلاد رسالة نريد أن نؤديها على أحسن وجه ، وأن نمهد الطريق للأجيال الصاعدة.. إننا نشعر بالاطمئنان على ما قمنا به من أجل الوطن ، وإن كان ليس هو الكمال ومع ذلك نعتبر بأن ما أسديناه من عمل متواضع يتجه إلى الشعب وإلى المصلحة العامة .» !!
العديد من المناضلين الحاضرين في اجتماع اللجنة المركزية كفكفوا دموعهم لحظتها ، وفهموا أن الرجل وبعزم الكبار، قرر الرحيل وترك في عهدتهم مواصلة المسير… !!
وعاد السي امحمد بوستة الى اللحظة الحاسمة من تاريخ حزب الاستقلال، عندما فقد راعيها الأول وزعيمها الدائم علال الفاسي. ليكشف عن وصية «الزعيم علال » ، كما سماه ويسميه المغاربة. ولم تكن العودة مشروطة فقط، في ما نعتقد بواجب الذاكرة، وهو يشارك في الملف التكريمي لرفيقه وصديقه عبد الرحيم بوعبيد ، بل نفترض أن هناك من التداعي العفوي ما يسند الرسالة السياسية.
فقد ذكر السي امحمد بوستة وصية الزعيم، في لحظة وفاته برومانيا بمكتب تشاوسيسكو ببوخاريست يوم 13 ماي 1974. وقال الأمين العام السابق أن علال الفاسي « قبل وفاته بساعتين كان ببيت الضيافة الذي وضعه تشاوسيسكو رهن إشارة سي علال و كنت إلى جانبه أنا و سي حفيظ القادري . استقبل شخصيات فلسطينية من ضمنهم هاني الحسن الذي مازال على قيد الحياة . وطلبوا منه أن يتوسط لدى تشاوسيسكو قصد السماح بفتح أول مكتب للفلسطينيين بأروبا، وعدهم بذلك . وأثناء انتظارنا للسيارة التي ستقلنا، قال لنا سي علال أوصيكم بشيئين أساسيين . الأول هو ألا تتركوا الملك لوحده مع الجماعة التي تحيط به، لأنهم كوارث حقيقية فقد جعلوه يسلم في ثلاث أرباع المغرب في معاهدة إفران ومعاهدة تلمسان ، وكانوا سيقومون بكارثة أسوأ بمحاولة اغتياله، لأنه لوتم ذلك لدخلنا في متاهات مماثلة لتلك التي وقعت في الشرق، فذلك لم يكن ثورة و إنما إجهاضا للثورة، لأن الثورة الحقيقية هي الحرية والديمقراطية . وثانيا وهذا ما يهمني هنا ويهم إخواننا في الاتحاد الاشتراكي بصفة عامة، هو أن العمل الوطني لن يتم بجدوى وبنتيجة إيجابية إلا باتفاقنا مع الإخوان الذين انفصلوا عن الحزب، فهم الوطنيون الحقيقيون».
وما تبع ذلك أصبح بالفعل من حوليات السياسة المغربية، وورد في الأحاديث أو في المقالات الجدية التي تتابع الحياة السياسية الوطنية. ولكن المهم أن الترجمة العملية لذلك كانت «مذكرة مساندة للملك في قضية الصحراء والاتصال بعبد الرحيم»، ويضيف بوستة قائلا قلت له هذه وصية سي علال الفاسي . وعقدنا ندوة صحفية مشهورة في ذلك الوقت أعلنا فيها عزمنا على العمل المشترك . وكان عبد الرحيم وهذه شهادة لابد أن أدلي بها كلما أقدم على خطوة مثل هذه، سواء مع الملك أو مع حزب الاستقلال الذي تربطه به روابط متينة لأنه من مؤسسيه، كان يفكردائما في رد فعل إخوانه بالخارج. وكان من حسن حظي أن يشركني معه في أسراره المتعلقة بهذا الباب . وهذا ماجعلني في ما بعد أقوم بالاتصال بهم بالخارج وعقد اجتماع معهم ببيت امبارك بودرقة و القيام بالعمل الذي تم إنجازه . لأن اعتبار آراء الإخوان بالخارج كان مسألة أساسية لدى عبد الرحيم مهما بلغت حدة اختلافهم معه . و كانت هذه إحدى مزاياه الكبرى» .
يحكي مولاي المهدي العلوي عن بوعبيد : « في يونيو 1981، ألقى الحسن الثاني خطابا أمام قمة منظمة الوحدة الإفريقية المنعقد في نيروبي، وأعلن قبوله تنظيم استفتاء في الصحراء لتقرير المصير، دون ربطه بأي شرط دستوري أو سياسي. وهو ما أشعر عبد الرحيم بوعبيد، ومعه أعضاء المكتب السياسي، بقلق كبير تجاه هذه المبادرة التي لم تجر حولها أي استشارة وطنية.
وقد تابعت القيادة الاتحادية الاجتماع الثاني في نيروبي لمعرفة القرارات السياسية والإجراءات العملية التي ستقدم عليها المنظمة الإفريقية في ملف الصحراء بعد أن شكلت لجنة للحكماء التي قدمت توصية بـ»إقامة هيئة المتابعة»، وهي تنظيم نيابي يسهر على إعداد الاستفتاء.
وهكذا، سعت الحكومة الجزائرية إلى الدفع، من خلال مقترح إحلال «قوات سلام إفريقية»، نحو تجميد الإدارة المغربية في الصحراء وجلاء القوات المسلحة الملكية عنها، ودعت إلى تنسيق مسبق بين المغرب وانفصاليي البوليساريو لإعداد الاستفتاء، بل طلبت من الأمم المتحدة إرسال جيش أممي يحل محل القوات المسلحة الملكية لحفظ السلام في المنطقة.
في بداية شتنبر 1981، ناقش المكتب السياسي، في اجتماع له، كل المعطيات حول الوضع الجديد لملف الصحراء لدى منظمة الوحدة الإفريقية، وقرر الإعلان عن المخاوف والمخاطر التي قد تهدد وحدتنا الترابية، خصوصا إذا سمح للإدارة النيابية الإفريقية بأن تمارس السلطات التي خولت لها، فالمسلسل الجديد الذي يمكن أن تدخله قضيتنا الوطنية- إذا ما سلمت كامل السلطات إلى الإدارة النيابية التي يريد خصوم وحدتنا الترابية أن تحل محل السلطات المغربية الإدارية والعسكرية الشرعية في الصحراء- لا يخلو من مخاطر، لأن الأمر لا يتعلق بجهاز سلطة مراقبة لضمان نزاهة وشفافية العملية الاستفتائية، بل بإحلال سلطة إفريقية محل السلطة المغربية.
وبعد الاتفاق على كل النقط داخل المكتب السياسي، تكلف عبد الرحيم بوعبيد بصياغة مشروع البيان الذي سهر الحبيب الشرقاوي على طبعه وتوزيعه على وكالات الأنباء والصحف الوطنية والأجنبية يوم 5 شتنبر. وقد ركز البلاغ على أنه: «إذا كان هناك لزوم للاستفتاء فليعرض على الشعب المغربي قاطبة ليبدي رأيه بالموافقة أو الرفض». بعد نشر البيان، حاصرت الشرطة السرية في ساعة متأخرة من الليل منزل عبد الرحيم بوعبيد الكائن بشارع ميشليفن بالرباط، وطلبت منه وهو بلباس النوم أن يرافقها بأسلوب غير لائق بمقامه، حيث كان أحد ضباط الشرطة يمسكه من ذراعيه ويحاول حمله وإخراجه من المنزل لإركابه على متن السيارة.
كان بوعبيد يصرخ منددا بهذا السلوك، وتم إبلاغ أفراد من العائلة كانوا يسكنون قريبا منه، وحين حضروا أبلغ بوعبيد الشرطة بأنه لن يرافقهم طالما لم يرتد ملابسه ولم يأت رجال شرطة بالزي الرسمي وبسيارة شرطة رسمية.
ساعتها، أجرى عميد الشرطة (الكوميسير)، الذي كان يقود مجموعة اعتقال بوعبيد اتصالات مع مسؤوليه، وبدا أنهم وافقوا على شروط بوعبيد بعد أن طلب منه أن يغير ملابسه في انتظار وصول شرطة بالزي الرسمي وبسيارة شرطة رسمية.
تم تكييف المتابعة بالارتكاز على ظهير 1935 المعروف بظهير «كل ما من شأنه» مع تشديد المتابعة بالإحالة على الفصل 188 من القانون الجنائي.
وفي يوم 11 شتنبر، مثل المعتقلون أمام هيئة المحكمة التي حكمت على كل من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد الحبابي ومحمد اليازغي بسنة حبسا نافذا، بينما أصدرت في حق محمد منصور ومحمد الحبيب الفرقاني حكما بالحبس لمدة سنتين مع إيقاف التنفيذ، ليطلق بذلك سراحهما. وفي يوم 28 فبراير 1982، أطلق سراح المعتقلين، وذلك بعد أن أظهرت موجة الاحتجاجات الوطنية والدولية أنهم لم يكونوا في عزلة. بل أعتقد أن الحسن الثاني أعاد حساباته وأدرك أن وقوف الرأي العام الداخلي ضده سيكون له أكبر الأثر، إذ كان سيكون الخاسر على كل الأصعدة.. سيخسر المغرب في معركته الوطنية خارجيا ولأسباب داخلية. وأدرك أن قضية الصحراء ستدخل في المجهول وسراديب العلاقات الدولية، وأنه بأمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية.
لقد تعثرت منظمة الوحدة الإفريقية في تدبير عملية السلام في الصحراء التي قبلها الحسن الثاني، خاصة مسألة تنظيم الاستفتاء. وفي نفس الوقت، كانت الحكومة الجزائرية تعمل على إدخال جمهورية البوليساريو الوهمية إلى منظمة الوحدة الإفريقية ليكون عضوا كامل العضوية فيها، بل إن إحدى لجن منظمة الوحدة الإفريقية قررت في فبراير 1982 إشراك «الجمهورية الصحراوية» المزعومة في أشغالها باعتبارها عضوا في المنظمة، وهو ما دفع الحسن الثاني إلى الاحتجاج لدى الرئيس دنيال أراب موي، وذلك قبل بضعة أيام من إطلاق سراح المعتقلين بعفو ملكي، رغم أنهم لم يطلبوا العفو.
هذا الموقف المعلن من طرف المكتب السياسي لم يرق لنظام الحكم وتم إلقاء القبض على عبد الرحيم وبعض أعضاء المكتب السياسي الذين شاركوا في صياغة الموقف، ومحاكمتهم وإيداعهم السجن بقرية ميسور النائية عن مقرات سكناهم ليكون اضطهادهم مضاعفا ومشتركا مع عائلاتهم.
كان عبد الرحيم يدرك أن الحسن الثاني بقراره هذا يريد أن يوقف أي تعامل بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، ذلك أن أصدقاء الحسن الثاني الأوربيين، شخصيات وأحزابا، هم من طلبوا منه قبول الاستفتاء. وأخبروه أن النتيجة ستكون لصالح المغرب بتأكيد الاستفتاء لمغربية الصحراء». هذا الموقف دفع بالإدارة، وبمختلف الفاعلين، إلى الحذر من الاتحاد من جديد، وذلك خلافا لما كان يتبناه الملك نفسه من اتجاه عدم قطع حبل الاتصال مع الحركة الوطنية والاتحاد الاشتراكي على الخصوص، لتستمر هذه الوضعية إلى أن غادر عبد الرحيم ومن معه أسوار سجن ميسور.
يستخلص من كل هذا أن كل الرجالات الأفذاذ أمثال المهدي وعمر وغيرهم، والذين آمنوا، بعمق، بنهج هذا السبيل، سقطوا في الطريق ضحايا لهذه المؤامرات، التي هي، في حقيقة أمرها، مؤامرات ضد الملك وضد الشعب المغربي، وهو أمر أقر به الملك في مناسبات متعددة: فالجنرال محمد أوفقير وأذنابه وأمثاله بينوا، غير ما مرة، أنهم ضد انفتاح الملك وتقاربه مع الحركة الوطنية بمختلف فصائلها.
كل الأحداث التي وقعت ومن بينها اعتقال الأخ عبد الرحيم والذين معه في ما يخص موقف الحزب من القضية الوطنية والاستفتاء حول الصحراء أو تزوير الانتخابات سنة 1977، والمنع الذي طال عبد الرحيم من الترشح بمدينة أكادير، وكل ما عرفه الوضع في المغرب منذ 1973 إلى 1978 لم يثن من عزيمة الحزب في الاستمرار في مساره النضالي، مدافعا شرسا عن ترسيخ الحقوق والحريات.

إعداد: مصطفى الإدريسي

 

error: