أحمد بيضي
الخميس 7 يوليو 2022 - 23:06 l عدد الزيارات : 55408
جواد التباعي (°)
تقديم:
قراءة في التراث الرعوي لقبائل زيان بين منتصف القرن 19م ونهاية القرن 20م (عمل ميداني بين 2015 ـ 2020)
الانتجاع (La Transhumance) ببلاد زيان هو التردد الفصلي المنظم باتجاه أزاغار المنتجع الشتوي الذي تأوي إليه قطعان زيان فرارا من الثلوج، وصيفا باتجاه الجبل قرب الحقول والعيون. وتتحكم فيه في الغالب إكراهات المناخ وجاذبية المراعي، وأحيانا قرارات الجماعة أو القائد. وتظهر أهمية الانتجاع في احترام الرعاة للمسار ومدته وللدورة الزراعية بالجبل.
ويفسر هذا التنقل الجماعي كثرة البيوت الفارغةالتي جعلت الرحالة الأوربيين يعتقدون أنهم يجوبون بلادا مهجورة. لذلك سنحاول في سطور هذا المبحث تتبع مراحل ومميزات السنة الرعوية ببلاد زيان، وأهم المظاهر الثقافية للانتجاع بها.
1ـ دور العوامل الطبيعية في سيادة الرعي والانتجاع ببلاد زيان:
تحظى بلاد زيان بموقع استراتيجي على ممر السلاطين بين فاس ومكناس ومراكش، وتربط شرق المغرب بغربه. تشكل حوالي%85 من إقليم خنيفرة الحالي، وتمتد على مساحة تقدر بحوالي 4000 كلم2، يصل طولها إلى حوالي 120 كلم، ويتراوح عرضها ما بين 15 و55 كلم. يصعب تحديد مجال جغرافي ثابت لقبائل زيان نظرا لوعورة وتداخل تضاريسها وتنقلاتها المستمرة،
ورغم ذلك يمكن القول إن بلادهم تُحد بقبيلة بني مْكِيلْ شرقا، وزمور شمالا، وقبائل زعير وورديغة غربا، وبني زمور على ضفاف واد كرو (grou)، وإشقيرن جنوبا. تشكل منخفضا ضيقا على ضفاف واد سرو، وسلسلة جبال حقيقية عند أجدير وأروكَو. تمتد على وحدتين جغرافيتين متباينتين بنيويا وتضاريسياهما: الأطلس المتوسط أو جبل زيان (الجبل) والهضبة الوسطى (أزاغار).
تتدرج الطبقات البيو مناخية من الجاف إلى الرطب، مما فسح المجال لتنوع التشكيلات النباتية والبيولوجية والحيوانية، فالتساقطات الثلجية والبرودة تؤخران نمو الغطاء النباتي في الجزء الشرقي من بلاد زيان بشكل يصعب معه الاستقرار مما يدفع السكان إلى الانتقال غربا نحو أزاغار، وهناك يساهم اعتدال الحرارة في نمو الغطاء النباتي مع بداية التساقطات مما يشكل تكاملا بينهما. ويقدر معدل التساقطات المطرية ما بين 600 و800 ملم سنويا في أزاغار ويتجاوز 1000ملم في الجبال.
وسمح تباين البنية والتضاريس بظهور منطقة الدير ذات الينابيع الكثيرة القريبة من السطح التي تستغل في تكثيف الزراعات العلفية، وكنقاط لشرب الماشية. وسمح تنوع المناخ من شبه جاف إلى شبه رطب بظهور غطاء غابي وعشبي متنوع. وساعدت مرونة الصخور على تفقير وتعرية وانجراف التربة، وبالتالي تدهور الغطاء النباتي مما يساهم في انتشار النشاط الرعوي.
ورغم تضرسها فإن بلاد زيان تشغل مساحات واسعة تضم تراثا طبيعيا وثقافيا كبيراً بجبالها الشاهقة، ومناظرها الخلابة، ومراعيها الخصبة، وغاباتها الكثيفة، ومياهها الغزيرة. كل هذا وفر ظروفا مثالية لقيام نمط عيش مبني على التكامل والانتجاع بين الجبل وأزاغار، وضمن مراعي دائمة وجيدة طول السنة للقطعان الكثيرة التي تعد عماد ثروة الزيانيين، مما يفسر شهرة المنطقة بتربية المواشي والصناعات المرتبطة بالصوف حتى اليوم
من الناحية البشرية بلغ عدد العائلات الزيانية قبيل معركة لهري 9000 عائلة، أي ما يناهز 45 ألف نسمة، وأكثر من 2500خيال. ووفق تقديرات1338هـ/1920م ضمت الكونفدرالية حوالي أحد عشر ألف ومئتي خيمة، أي حوالي56 ألف نسمة، وشملت سبع قبائل هي: آيت سكُوكُو، وآيت حركات أكلمُوسْ، وآيت حركات خنيفرة، وآيت شارط، وإبُوحْسُوسنْ، وآيت بوحدو، وآيت سيدي بوعباد. يعيش معظمها على الرعي والانتجاع.
2 ـ الانتجاع ببلاد زيان قبل الحماية:
أكد صاحب الاستبصار أن أهل فازاز تبنوا نمط الانتجاع على الأقل منذ نهاية القرن الخامس الهجري وذكر أهم خصائص مواشيهم وخيولهم بقوله: “وهم أهل كسب من الغنم والبقر والخيل…ولحوم غنمه من أطيب اللحوم وكذلك أسمانها”، وكان الزيانيون بدورهم قد خبروا منذ استقرارهم بأراضي صنهاجة الجنوب تقنيات البحث عن نقاط الماء والكلأ، والسير عبر مسالك وعرة، والاهتداء بالنجوم ليلا، واقتفاء الأثر نهارا.
ومنذ وصولهم إلى مستقراتهم الحالية دخلوا في مناوشات مع المخزن الذي تنبه مبكرا لأهمية الانتجاع في حياتهم، لذلك سارع المولى إسماعيل لتجديد قصبة أدخسان، وبنى قصبة منت. وبعد وفاته غادر البواخر القصبات، وعاد الزيانيون المتحصنون بالجبال لشراء الخيل والسلاح وانطلقوا نحو أزاغارهم الحيوي، ودخلوا في صراع مع القبائل الأمازيغية والعربية المجاورة للظفر بالمراعي والعيون لأن حاجة سكان الجبل أكثر حيوية من حاجة سكان أزاغار إلى أدرار.
تمكن إِزيَّانْ بفضل قوتهم من طرد زعير من أكَلمُوسْ إلى ما وراء مولاي بوعزة غربا خلال القرن 18م، ودفعوا أبناء عمومتهم زمور نحو واد بهت. وضغطوا على كَروان للتحرك نحو سايس، وتحركت قبائل بني حْكم على الجبهة الشمالية الغربية نحو هضاب وادي كْسِيكْسُو لتصطدم بقبائل زعير. وأجبر استمرار ضغط القبائل المتعقبة الزيانيين على التراجع إلى أزاغار حتى حدود مْرٍيرتْ والحَمَّام فاستولوا بشكل تدريجي على المنطقة الممتدة بين سهل تاندرا وهضبة أفُوغَال.
وعادت العساكر السلطانية شتاء 1223هـ/ 1808م لتحيط بهم من كل جهة “فمنعوهم من النزول إلى البسيط للمرعى وجلب الْميرة إلى أن ضاعت مواشيهم وأذعنوا” لفترة قصيرة من الزمن قبل أن يستقروا بالمناطق التي يسكنونها حاليا عند النصف الثاني من القرن 19م.
واستقرت بأرض زيان قبائل عربية رعوية عبر مراحل، اختارت مع بداية الهجمة الاستعمارية الانضمام إلى الاتحادية. وارتبطت زيان بجيرانها من السماعلة وزمور وبني مْكِيلْ بعلاقات صداقة متينة يؤكدها الحضور الدائم لعزابتهم على أراضي زيان، رغم أن بعض الخلافات انتهت بحمل السلاح.
استفاد الانتجاع من انتشار الملكية الجماعية لأراضي البور، وسيادة الاقتصاد الرعوي الذي شكل مصدر قوة بادية زيان، تمتعت فيه القبائل فقط بحق الانتفاع وتقاسم الغلال. وكان الزيانيون يعملون على ضم أراضي قبائل مجاورة بالقوة عند تزايد عدد المنتجعين على أراضيهم أو تراجع مراعيهم لأسباب طبيعية أو تعرضهم لاعتداءات قبائل أخرى. واستغلوا أحيانا حاجة قبائل أخرى كما حدث عام 1902م، لما مدت بعض القبائل الزيانية جيرانها من بني مْكِيلْ بالسميد والحبوب، مقابل التنازل عن ملكية بعض أراضيهم أمام الجْمَاعةْ بعقود شفهية.
لم يعهد الزيانيون عقود ملكية الأرض حتى نهاية القرن 19م، واقتضت العادات والأعراف أن يُزرعَ جزء من الأرض، ويُسمَحَ للقبائل المجاورة للغابة باستغلالها. ويتم الحصول على الأرض إما عن طريق الإرث أو الشراء، وحتى سنة 1929م كانت معظم أراضي أزاغار جماعية لدى إبُوحْسُوسنْ الذين كانوا غير آمنين على أنفسهم بسبب العداوة المستمرة مع بعض قبائل زيان المقربة من موحى اوحمو. واستغل آيت بوحدو المساحة المجتثة قرب سيدي عْمَر(و) على سبيل التملك بعد طردهم عنوة من أراضيهم حول خنيفرة، بينما كانت أراضي آيت شعو وآيت رحو محددة بدقة حوالي1900م.
وشجع البوعزاويون والمباركيون الملكية الخاصة، عن طريق الإشهار الرسمي بالنسبة للقبيلة الأولى، وعقود الملك الخاص بأقل التكاليف منذ السنوات الأولى من القرن 20م بالنسبة للقبيلة للثانية. كما ظهرت ملكيات فردية ضيقة بالمراعي الكبرى كإسرفان،كَرْثِيلَةومنت. وكان البيع يتم عن طريق البراح والشهود أمام الجْمَاعةْ دون وثائق عدلية، ويعد ساكنها مالكها. تسجل بدون قياسات حيث يكتفون بتحديد الجيران بحضور أمغار، ويشهد الشهود أن فلان باع لفلان أرضا حدودها فلان شرقا وفلان غربا وفلان شمالا….
وتفسر قلة الملكية الخاصة باستمرار الصراع بين القبائل ومع المخزن، وصعوبة تنظيم الحياة الزراعية التي تتطلب الاستقرار، فكانوا يرعون مواشيهم في هوامش الحقول والغابات، ويقطعون أفنان الأشجار ويقدمونها لمواشيهم وبهائمهم خلال فترة التساقطات وقلة الكلأ.
3 ـ عادات وتقاليد ومسارات الانتجاع ببلاد زيان منذ عهد الحماية:
صنفت زيان قبل الحماية ضمن بلاد الجبال ومناطق أقدام الجبال التي يسود فيها النشاط الرعوي. واستمرار أشكال التفاعل والتكامل العمودي المبني على التوازن بين أدرار وأزاغار وهو ما يفسر قلة ضغط قبائل زيان على بعضها البعض عكس علاقاتها مع جيرانها. وشكل قطيع المواشي (المَالْ) عماد ثروة الزيانيين، وفي مقدمته الأغنام، يليها الماعز لخفته وقدرته على التحرك في المناطق الجبلية الوعرة وتسلق الأشجار.
وكانت الأبقار بأعداد أقل، خاصة بالقسم الشرقي لضعف قدرتها على العيش في المناطق الجبلية الصعبة، فاستغلت في الحرث والدْرس، وحمل الخيام والأمتعة في فترة الانتجاع لنقص الدواب. وعرفت المنطقة الإبل بأعداد محدودة خاصة عند إمحزان، وعند آيت عمر سجل شارل دوفوكو وجود قطعان منتشرة على حواشي الدوار، وضمن القطعان بعض الإبل التي لم يصادفها على طول الطريق من مكناس حتى آيت عمر وهي دلالة على غنى هذه القبيلة الزيانية مقارنة مع المناطق التي مر منها بكل من كروان وزمور.
ووجدت الخيول بأعداد كبيرة لدى الأسر الغنية التي كانت تروضها على السرعة والجري في المرتفعات لأغراض دفاعية وأبهة اجتماعية، وحظيت الدواب بعناية كبيرة من طرف الزيانيين، حيث تملكت الأسر الفقيرة والمتوسطة عددا لا بأس به من الحمير والبغال لنجاعتها في التنقل اليومي، والسفر، والانتجاع، والتسوق، فكان لكل أسرة ما يكفيها من الدواب حسب إمكانياتها، رغم أنها لا تكفي لنقل الأغراض وحمل الخيمة وصغار الماشية.
3ـ1 ـ عادات وتقاليد الانتجاع ببلاد زيان :
اعتمد الزيانيون الانتجاع بين الجبل وأزاغار نمطا لعيشهم، فكانوا يجتمعون في دواوير أو فخذات قليلة وغير متفرقة، جعلت الرحالة دوفوكو يعتقد أنها فارغة. ينتجع أغلب الجبليين إلى أزاغار خلال نهاية الخريف وبداية فصل الشتاء، هروبا من بعض الأمراض الطفيلية التي قد تصيب الماشية، بعد أن يحرثوا أرضهم الجبيلة، فلا يبقى في المرعى إلا بعض العائلات لحراسة الأراضي المزروعة. ويتم في نفس الوقت استغلال أزاغار في فترة حرجة تتزامن مع ولادة الماشية، وما تتطلبه والمواشي الضعيفة والصغيرة من عناية، تستوجب الاحتفاظ بها في حقول حديثة الإنبات(أكْلاس) قرب البيت
كان تنقل المنتجعين مرهونا بالظروف السياسية، فحينما كانت خنيفرة تابعة لآيت بوحدو، كانوا يفرضون ضريبة على العابرين نعجة عند العبور، وأخرى عند العودة. وبعد طرد محمد أقبلي وسيطرة موحى اوحمو على معبري خنيفرة والبرج، أصبحت القبائل مجبرة على أداء رسوم الحماية، وفُرضَتْ إتاوات على منتجعي قبائل كانوا يتجولون من قبل بكل حرية، في حين فضلت قبائل أخرى تحمل برد الجبل، على المخاطرة بالانتجاع والتعرض لهجومات ودفع رسوم الحماية والانتجاع منذ بداية ق 20 م.
يتم تنقل عامة منتجعي زيان بطريقة جماعية في عظام (إٍغْصَان) أو دواوير (إسُونْ) للتعاون، وتحاط جوانب القافلة بسياج من الفرسان، تليها الخيول والثيران والبغال، وتُحمل الخرفان على بعض الدواب في تلاليس من شعر الماعز والصوف، مقسمة إلى عدد من الجيوب يوضع في كل واحد منها خروف أو اثنين مع إخراج رؤوسها كي لا تختنق. ويعلق الدجاج من أرجله كالعناقيد، وتحمل دواب أخرى الخيام السوداء، والحطب، والمَواعين، والزرابي والحوامل والمرضعات وصغارهن. وتساق بقية القطعان تحت حراسة الكلاب.
وفي هذا الصدد يروي دوفوكو خلال زيارته لبلاد زيان في 31 غشت 1883 مصادفته لفخدة احدى القبائل الزيانية أثناء انتجاعها فيقول: “كانت التيران محملة بالخيام والأمتعة تسير وسط الركب، على شكل صف طويل، وكانت النساء وراءها تحثها على السير؛ كان الأطفال وراء الأمهات، وكان الأصغر منهم سنا، ثلاثة أو أربعة جاثمين على ظهور البغال . كانت تسير الأغنام والماعز في أحد جوانب القافلة يسوقها بعض الرعاة.
يكون الرجال الراكبون الخيول طليعة ومؤخرة الركب ويحرسون جوانبه. كانت القطعان متعددة وخاصة وكان هناك أعداد كبيرة من الثيران” (الصورة1). وكان القسم وسيلة لحل النزاعات الرعوية وتزداد الضغوط النفسية إذا كان القسم في ضريح أحد صلحاء المنطقة.
أما الأعيان فينتجعون في قوافل خاصة يتكلف فيها الخدم بحراسة القطيع وحمل الأمتعة على ظهور الإبل، ويتبعهم صاحب القطيع بلباس أنيق محاطا بالخدم والحراس (صورة2). وحيث مايوجد الماء والكلأ يطيب المقام وتدق الخيام. ولم يكن للسكن المبني وجود بأزاغار حتى سبعينات القرن الماضي، ومن كثرة استقرارهم بالخيام اعتاد معظم الزيانيين قاموس حياة الانتجاع حتى أنهم يسمون بيوتهم الإسمنتية أو الطينية ب “إخَامْنْ” في معظم القبائل و”الحَطَّاتْ” على الحدود الغربية لزيان حتى اليوم.
3ـ2 ـ مسارات الانتجاع ببلاد زيان:
يتم الانتجاع نحو السهل عادة خلال شهر نونبر (النجعة النازلة)، وتتم العودة خلال شهر ماي(النجعة الصاعدة) ، وتختلف المسارات حسب القبائل، إلا أن كل قبيلة تتحرك في نفس الفترة من كل سنة وتلتزم بنفس المسار ذهابا وإيابا:
ـ فآيت بوهو كانوا يتحركون من أراضيهم شرق جن الماس، إلى تِيعْبٍيٍتْ في اليوم الأول، ويصلون في اليوم الثاني منطقة “الحجيرة” بتيزي نمزوغت، وفي اليوم الثالث يصلون إلى منتجعهم الشتوي بالكَعيدة.
ـ وينتجع آيت خويا من أجدير إلى أزاغارعبر ثلاث مراحل: تنطلق الأولى من أجدير إلى أقلال، والثانية من أقلال إلى تاباينوت، والثالثة من تاباينوت إلى الجبوج على مشارف واد كرو
ـ ويسلك إبوحسوسن في انتجاعهم الصيفي من غاباتهم على الحدود مع بني زمور على وادي كرو إلى سهول وادي بولحمايل على الحدود مع آيت عمر الطريق المارة عبر تازطوط( حد بوحسوسن الحالية) واعوينات ويستغرق انتجاعهم يومين كاملين.
ـ يتوجه آيت معي وآيت بومزوغ صيفا إلى سهل مراعي أجدير عبر قنطرة ثاقا إيشيعان تفاديا لصراعات محتملة مع حراس قنطرة خنيفرة التابعة لموحى اوحمو الزياني وستغرق المسار يومين الأول ينتهي عند القنطرة والثاني في أجدير.
ـ وينفرد آيت سكوكو بمراعي ثالت التي يتجهون إليها دون المرور عبر أي قنطرة خلال يومين
ـ ويتنقل عزابة آيت حدو حمو صيفا بخيام صغيرة بين أراضي قبيلتهم لتسميد الحقول
يحتاج عبور غالبية القبائل لقنطرتي خنيفرة والبرج بين يومين وثلاثة أيام لكل قبيلة، لأن العملية لا تكتمل إلا بمرور جميع القطعان إلى الضفة الأخرى. وقد سجلت الذاكرة الجماعية في نهاية أربعينيات القرن الماضي انتظار قوافل كبيرة وطويلة دورها عند القنطرة، حيث يقف جابي يحمل بندقية ليجبر كل من أراد المرور من القنطرة على دفع نعجة (تِيخْسٍيْ) كضريبة.
وبعد العبور يأخذ الجميع استراحة منتصف الطريق لهم ولمواشيهم ودوابهم، في جو احتفالي لا يخلو من نصب الخيام وذبح الذبائح. قبل مواصلة المسير نحو أزاغار الغني بمياهه الجوفية، ومساحاته الواسعة التي تتيح للمواشي إمكانيات التنقل في المراعي المستغلة بشكل جماعي، بعد استقرار كل قبيلة في أراضيها الأزاغارية المعروفة.
يسهر شيخ المرعى على تنظيم الرعي خلال فترات الانتجاع، بوضع مخطط للرعي حسب حاجات القبائل ومدة إقامتها، وعندما يستشعر بخبرته خطورة نفاذ الكلأ يعلن إغلاق المراعي المشتركة “تقن” كنوع من الراحة البيولوجية لتفادي الأسوأ. وتتحرك الأسواق بعد عقد اجتماعات مسبقة تحدد أماكنها داخل القبائل بأزاغار بين أبريل وماي.
وتمد الجْمَاعة يد المساعدة لكل فرد من القبيلة تكبد خسارة في مواشيه عن طريق الوزيعة ويعد القَسَمْ الوسيلة الأنجع لحل النزاعات الرعوية، خصوصا إذا تم في ضريح أحد صلحاء المنطقة. يعود المنتجعون إلى الجبل عند بداية الحصاد وبعد عملية الجز التي تعد نهاية السنة الفلاحية.
لم تكن لموحى اوحمو سلطة كبيرة على بعض القبائل والعائلات، والتي كانت تقطع النهر من معابر غير قنطرتي البرج وخنيفرة بمساعدة إقٍيدَاتْنْ. واستعصى عليه ضبط تحركات قبائل كآيت معي وآيت بومزوغ الذين ينتجعون صيفا نحو أجدير مباشرة ولا يؤدون الضرائب، لأنهم كانوا يمرون عبر قنطرة “ايْشِيعَانْ” المشيدة ببعض الأعمدة والقش صيفا، ومنها يعودون إلى مستقراتهم بداية موسم الحرث، ويصل آيت سكُوكُو إلى أزاغار عبر نفس الطريق.
بدأ أزاغار زيان يتقلص مع وصول المستعمر، حيث امتد سنة 1917 بين مدشر محمد بن مبارك التساوتي، مولاي بوعزة، وولماس، تاندرا، فم تاكَرت، وخنيفرة، وجبل الحديد”. وتقلص تدريجيا ليشمل بعد عقد ونيف المنطقة الممتدة بين تَازرُوتْ مُوخبُو(الحجرة المثقوبة) شرقا، وتًالمكتًارتْ شمالا، وهضبة منت وورضَان غربا، وسيدي بوعباد، وتًاقنْتًا جنوبا. وأهم مراعيه: إِسرفَانْ، تاندرا، منت، ثالت، اعْوُينَاتْ، الدهدوه، جبل الزراري، ورضان، تاراتسا، وجبل تٌورزيَانْ.
في إطار تمتين العلاقات مع الجيران يخصص موحى اوحمو الزياني مراعي منت وثالت، ومراعي شرق سيدي لامين لآيت مْكِيلْ وإشقيرن وبعض آيت حديدو، وكان الزيانيون ينتجعون بعيدا حتى أراضي إبُوحْسُوسنْ، وبني بَتًاوِ على مشارف أبي الجعد. وكانوا يؤدون ضرائب رمزية للقبائل التي تستقبلهم تتمثل في خروف أو دقيق أو سمن… ، إلى جانب الإتاوة التي أجبر الزياني بعض القبائل كبني مْكِيلْ القادمين من تيزي نغشو، وبومية… على دفعها مقابل رعي قطعانهم في أزاغار زيان.
3ـ آليات تثمين الانتجاع ببلاد زيان:
3ـ 1ـ طقوس الجز(Talasa):
يعد الجز ببلاد زيان طقسا اجتماعيا جماعيا موسميا، وبه تختتم السنة الرعوية الممتدة من منتصف ماي إلى نهاية أبريل من كل سنة. وخلاله تتم تصفية حسابات السنة الفارطة، ويأخذ الراعي نصيبه من الصوف والخرفان (الربع أو الخمس)، بعد تحكيم إيجابي من الكسابة وجماعة الدوار، ويعلن بعد ذلك رغبته في الاستمرار أو الرحيل، وخلالها يجدد شرط الفقيه أو يغادر بدوره.
ينطلق موسم الجز بأزاغار ابتداء من النصف الأول من ماي، وقد يتأخر في الجبل حتى نهاية الحصاد. تتم خلاله دعوة الضيوف والجيران والأصدقاء لوليمة دسمة إجبارية لأن “الجز كالعُرس”. يقوم به الرجال، بينما تمارس النساء مجموعة من الطقوس لحماية القطيع كرشٍ الأغنام بماء ممزوج بالملح لمعالجة ما يمكن أن يصيبها من جراح، وحمايتها من أي مكروه محتمل. وقد تأخذ النساء قطعة من الصوف لضريح القبيلة استجلابا لوقاية القطيع، بعدها يتم تصنيف الصوف حسب الألوان والجودة استعدادا لنسجها.
كانت أجرة الجزاز حتى وصول قوات الحماية إلى المنطقة عينية، بمعدل واحدة لكل 20 جزة، وارتفعت إلى جزة لكل عشرة جَزَّاتْ مع بداية الاستقلال. وتدريجيالم يعد الجزازون يقبلون الصوف، فيأخذون أجرتهم نقدا 2,5 دراهم عن كل رأس، ثم 5 دراهم للرأس، إلى أن وصلت سنة 2018 م إلى7,5 دراهم، وأغلب الجزازين من أبناء المنطقة في زيان الشرقية، ومن القبائل المجاورة في زيان الغربية. وبعد الجز يبيع صاحب القطيع جزءً من الصوف لتدبير تكاليف الحياة اليومية، وتحتفظ النساء بالباقي لنسجه أو لبيعه عند الضرورة، خاما أو مُصنعًا. من هنا كانت خنيفرة ـ بحكم موقعها وسط مسار تنقل الرعاة بين السهل والجبل ـ مركزا لتحقيق رواج تجاري كبير للصوف البيضاء والشُخمِيةْ (حمراء) والدمَّانيةْ والسوداء.
3ـ 2ـ مظاهر أخرى لتثمين الانتجاع وضمان استمراريته:
ـ سياسة المعارض وجمعيات (ANOC): اهتدت سلطات الحماية مبكرا لأهمية سياسة المعارض في مجال تربية المواشي، فنظمت أول معرض للأغنام بتمحضيت13و14يونيو 1935م. رَوَّجَ لهذه السلالة وكانت نتائجه إيجابية، واستمرت المعارض بعد ذلك إلى اليوم، لعل أهمها معرض الفلاحة الدولي بمكناس. كما تقوم جمعيات مربي الأغنام والماعز (ANOC)، والجمعيات، والتعاونيات الفلاحية، ومراكز الإرشاد الفلاحي، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية…بدور كبيرا في ضمان استمرارية الانتجاع كتراث ثقافي لامادي حتى اليوم.
ـ مركز حماية تراث الأطلس المتوسط: يضم المركز جناحا للتراث اللامادي، يقوم بدور كبيرا في تصحيح تمثلات الزوار فيما يخص عمليتي الانتجاع والترحال، ويقربها من أذهانهم عن طريق عرض مجموعة من الأدوات المستعملة من قبل المنتجعين، وصور جدارية كبيرة لبعض طقوسهم.
ـ المهرجانات والمواسم: لا تغيب عن مهرجانات ومواسم المنطقة القوافل الاستعراضية لمجموعة من الحرف المصنفة في طور الاندثار كالجز، بغرض إحيائها وتعريف الأجيال الجديدة بها.
توصيات ومقترحات:
عموما يمكن القول إن عامة الزيانيين قبل الحماية كيفت حياتها السياسية والاجتماعية مع ظاهرة الانتجاع، ولم يكن لهم من هم سوى تلبية حاجاتهم الغذائية وتوفير بذور السنة الموالية. وعند وصول سلطات الحماية إلى المنطقة تنبهت لأهمية الانتجاع فعملت على منع التكامل بين الجبل والسهل لتسريع إخضاع زيان التي ظلت عصية على المخزن لقرون ونجحت في تدمير البنيات الأساسية لنظام الانتجاع.
تراجع الانتجاع ببلاد زيان تدريجيا بعيد الاستقلال، إلا أن بداية نهايته الحقيقية كانت مع أحداث مولاي بوعزة لسنة 1973، حيث تم بيع وتبادل الأراضي بين سكان أزاغار والجبل، وهاجر بعضهم قصريا نحو المراكز المجاورة، لكن هذا لا يعني توقفه تماما . إذ لازال العديد منهم ينتجعون باستعمال وسائل نقل كالشاحنات وقاطرات الجرارات نحو زعير، وزمور، والسماعلة، وبني زمور، ومناطق بعيدة جدا كسوس والمغرب الشرقي…، كما تنتجع بأزاغار زيان قبائل تكتري الأراضي الشاسعة التي تخلى الورثة عن رعيها وزراعتها بعد وفاة مالكيها. خاصة بإبُوحْسُوسنْ وعند آيت بوحدو بقطعان تتجاوز 500 رأس. ولتثمين المجهودات المبذولة لتثمين التراث الرعوي خجولة، نقترح العديد من الإجراءات أبرزها:
تحويل الأراضي الجماعية إلى ضيعات رعوية مثل رانش أدروش (ranches adarouch) المجاور.
تنظيم مهرجان للرعي والانتجاع بالأطلس المتوسط كل صيف، وتصميم مراعي نموذجية كمراعي سوس والأطلس الصغير، بشراكة مع وزارتي السياحة والثقافة.
تضمين الدلائل السياحية كل المجالات الرعوية الزيانية، مرفوقة بمعطيات مونوغرافية عن مكونات تراثها المادي والطبيعي. وتشجيع مديريات الفلاحة ومراكز الإرشاد الفلاحي، ومراكز البحث والتوثيق على تعميق البحث ثقافة الرعي والانتجاع بشراكة مع الجامعات الثلاث المجاورة (جامعات المولى إسماعيل، المولى سليمان، وسيدي محمد بن عبد الله بروافدها) وإلى جانب كل هذا، لا يمكن إغفال الدور الكبير للخيام في إنتاج وحماية التراث الرعوي لعقود.
(°) باحث في تاريخ ومجتمع المنطقة
الصورة الخلفية 1: جانب من قافلة انتجاع زيانية من أزاغار نحو الجبل خلال ثلاثينات القرن 20م.
الصورة الخلفية 2: مؤخرة قافلة انتجاع الباشا حسن من الجبل نحو سهل سيدي حْسِينْ حوالي 1945م.
تعليقات
0