-
محمد ريــسي (°)
يساورني، دائما، إحساس خاص كلما أقدمْتُ على قراءة قصيدة شعرية وبالأحرى ديوانٍ شعريٍّ مقارنة مع النصوص الأدبية الأخرى الروائية والمسرحية والسيرية… فتلقي بظلها النوادرُ التي حملتها أخبار الشعراء القدماء؛ فقد أنشد أحد الشعراء في مجلس شعراً فاستغربه الحاضرون فقال: ((و الله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء))، و أمْرُ الطائيِّ مع “أبي العميثل” معروفٌ لَمَّا سعى هذا إلى تبكيت أبي تمام: ((يا أبا تمام، لِمَ لا تقول من الشعر ما يُفهمُ؟ فرد عليه: وأنتَ، لِمَ لا تفهم ما يقالُ؟)). ربما قد يكون هذا مفتاحاً لتفسير الإحساس السابق؛ فالشعر لا يهبكَ نفسهُ بيُسْرِ وسهولة، بل دونكَ ودونه خرطُ القتاد. ومن ثمة أبتَسِرُ هذه الأسئلةَ:
ــ كيف يمكن تقديم ديوانٍ شعريِّ حديثِ الصدور يسعى بحروفه وبكلماته و ببلاغته الخاصة إلى اتخاذ سبيلٍ بيننا دشَّنَهُ بتتويجه في جائزة سيزار الوطنية للشعر دورة 2023 مٌشَكِّلاً، بذلك، أفقا قرائيا ممكنا؟
ــ ثم ما وظيفة هذا التقديم؟ هل هي فتح شهية القراءة لدى المتلقي الواسع؟ و إذا كان الأمرُ كذلك، كيف بالإمكان الإنابةُ عن القراء المحتملين من خلال قراءة خاصة قد لا تعني شيئاً بالنسبة إليهم؟
ولا ريب أن كل قراءة للنصوص الأدبية الشعرية و غيرها مُهددةٌ بالمَكْرِ “البروكستي” الذي يُدمي النصوص ويقَطّعها أجزاءً و إرَباً و يُلبسُ النصوصَ المعانيَ التي تستبد به فلا يجشم نفسَه عَناء الإنصات إلى صوت النصوص الشعرية متناسيا ما خلفه الحرفُ والإبداع من كدمات وَوَقْعٍ على المبدع، لكن من سيحكم على هذه القراءة أو تلك بأنها مُغرضة؟
ودرءاً لبعض ما قد يعلق بالقراءة من أدران ٍ، لا مفر من الإشارة إلى أن لكل قراءة ممكناتٌ ومحدداتٌ واختياراتٌ صريحة و ضمنية تكاد لا تنفك منها إلا بذكرها و إبانتها و الإعراب عنها…
1 ــ ممكنات القراءة:
استقطبت النصوصَ الأدبيةَ منذ القدم مجالاتُ التلقي العادي والنقدي منذ كان يُعرض المنتوج الأدبي الشعري في الأسواق ليجازَ صاحبُه ويظْفَرَ بحُكْمِ الجودة أو يصابَ بالخيبة من ازدراء الرداءة، إلى أن أضحى يُكتب ويدون، فتطَّور خلال مسيرته مع مدارس غربية قَعَّدَت له وكَّوَّنت مناهجَ قائمةً بدءاً من المناهج السياقية التي كانت تولي جل اهتمامها للسياقات المحيطة بالنص من مجتمع وتاريخ وغيرها، إلى المناهج البنيوية والنسقية … التي ردت الاعتبار للنص مما أدى إلى الاهتمام به وبكل عناصره المحيطة به. و في هذا السياق التطوري، تم الالتفات إلى النصوص الإبداعية في انفتاحها على غيرها وفي تجاورها وتداخلها وتكاملها …
إذ أشار “جيرار جنيت” في كتابه “عتبات SEUILS“، إلى أن النص / النصوص يقدم نفسه اعتمادا على علامات تسيِّجُه و”تمدده” وتؤدي أدوارَ التعريف به وإشهاره شكلاً، وتوجيه قراءته وتلقيه، والحد من جموح تأويله (1).
ومن هذه العلامات/ المناصات، النصوص الموازية أو العتبات التي يشير الباحثون إلى تمظهرها في:
((… العنوان، والعنوان الفرعي، والعنوان الداخلي، والتمهيدات، والتذييلات، والتنبيهات، والتصديرات، والحواشي، والعبارات التوجيهية، والزخرفة، والرسوم، ونوع الغلاف…))(2). وغيرها مثل اسم المؤلف/ الكاتب، و تعيين النوع الأدبي، والمقدمة، والإهداء، والاقتباسات الواردة في شكل أقوال أو إشارات …
إن هذه العلامات تضفي نوعا من الوجود المادي على الديوان الشعري أو الرواية أو المسرحية، وتثبت حضوره و تهيئُه، من ثمةَ، لعملية التلقي.. ومهما تعددت العتبات وتنوعت حسب الثقافات والعصور، فإن أهميتها تكمن في تحقيق “وحدة التأثير”وخلق “القوة التداولية”بتوصيف “جنيت”.
1 ــ 1 ــ اسما المؤلف والكاتب:
ويحلو للبعض اعتبار المؤلِّفِ ((تلك المنطقة المترددة بين الداخل و الخارج))(3)أي بين النص/ الديوان والمؤلف الذي يدخل في ميثاق تخييلي مع الكاتب. واسم الكاتب من العتبات الموازية المهمة ((فلا يمكننا تجاهله أو مجاوزته لأنه العلامةُ الفارقَةُ بين كاتب و آخرَ، فبه تَثْبُتُ هوية الكتاب / الديوان لصاحبه، و يحققُ ملكيتَه الأدبيةَ والفكريةَ .))(4).
فكريم أيوب اسم مرنٌ يولد في الذهن علامات الجود والعطاء والصبر، من مواليد مدينة خنيفرة، حاصل على الماستر في الأدب العربي والمثاقفة، من جامعة محمد الخامس بالرباط، شاعر وناقد، صدر له ديوان شعري أول بعنوان “أزهار أرض باخوس”سنة 2019 عن دار النشر الموجة الثقافية. وهو ديوان يتشكَّلُ فيه أفق رحبٌ ينطلقُ من رؤية/ وعي ينتصران للإنسان وأحلامه العابرة الحدودَ الجغرافية… ونحن اليوم في موعد مع ديوانه الثاني الموسوم ب”النهرُ يشرَبُ ذاته” الصادر في طبعته الأولى سنة 2023 عن منشورات جمعية عبور للثقافة والنشر، والحائز على جائزة سيزار الوطنية للشعر في دورتها الثانية.
وإلى جانب كونه شاعرا، يظهر كرمُ المبدع في مقالاته ومقارباته النقدية وأبحاثه الأكاديمية التي نفترض تكاملها مع طبيعة تجربته الشعرية وتجربة الشعراءِ الشبابِ المغاربةِ، حيث ستتضافر بينها وسيؤثر بعضها في بعض.
1 ــ2 ــ العنوان:
وترتبط بالعنونة قضايا كبرى من قبيل كيفية اختيار العنوان، والمسؤول عن وضعه (الكاتب، أو الناشر، أو المحيط …) ووظائفه، وصلته بالعمل الأدبي الشعري إبداعا وتلقيا. ومع ذلك كله، فإذا كان نص الديوان ((هو موضوع القراءة، فالعنوان مثله مثل اسم الكاتب موضوعٌ للدوران، وبدقة أكبر ، موضوعٌ للتحادث Objet de conversation (5).
صحيح أنه هو المؤشر المحدد لعلاقة القارئ بالديوان لأنه بمثابة تعبير عن مظهر من مظاهر التعاقد بين الشاعر والقارئ لتحريك مكونات جهاز التأويل لديه بخلق أفق انتظار خاص أو باستدعاء أفق آخر. ولذلك ليس اختيار العنوان صدفةً؛ حيث اعتبره البعض سمَةً للكاتب، فالعنوان للكتاب كالاسم للشيء.
و يعرف “ليو هوك”، رائدُ العنونة ومُنَظِّرُها بامتياز في الغرب، العنوانَ بوصفه (( مجموعةً من العلامات اللسانية (كلمات ، جمل…) يمكن أن تأتي في بداية كل نص لتحددَه وتدُلَّ على محتواه العام، وتغري الجمهورَ المقصودَ..))(6) بما تثيره وظائفه من طاقات ترميزية ومرجعية لأنه “طُعْمٌ ” يوقع القارئ في حبائل النص عبر سلطته الموجهة للقراءة. بمعنى أن للعنوان وظيفةَ تحديد المضمون وتعيين طبيعة النص، وإغراء الجمهور… وهكذا فعنوان الديوان (النهر يشرب ذاته)(7) مستل من النص / القصيدة الأولى في الديوان ( آذارُ من عام 20 …)
آهٍ أَيُّهَا النهرُ الذي يشربُ ذاتَه
ماؤُكَ وَجْدٌ
أشربُ دَاءَهُ ..(ص:5).
ثم من قصيدة (الصخرُ يُكْسِرُ ذاته):
السائرون في ذي البلاد لم يشربوا ماء النهر
النهر يشرب ذاته/ ذاته …ذاته ( ص: 32).
فهنالك إلحاح على أن النهر يشرب ذاته بدليل تكرار كلمة ‘ذاته’ المتصلة بالنهر؛ لأن ماءه يذهب جفاءً كالزبد ولا يمكث في الأرض؛ ولا مفر أمام الشاعر إلا مناجاة هذا النهِر المكلومِ المنسي، والذي يستحيل على الورق صوتا يتماهى مع صوت الذات التي لطخها المدادُ ، ويتحول من معطى انطولوجي مادي متجذر بالمدينة والأرض إلى نهر متخيل يحمل صوتَ الشاعر الذي يَعِدُ في هذه القصيدة الأولى من الديوان “آذار من عام 20…” بالجراءة على قول ما لم يقوَ عليه سابقا بسبب عناده ليستفيق على بقايا السبايا والذوات مثل الرماد. وليس غريبا َتكرارُ اسم الفعل المضارع (آه) في هذا النص:
آه أيها النهر الذي يشرب ذاته(ص: 5)/آه أيها الرب المعين(ص:6)/
آهِ على أرضٍ و ذاتٍ
يا للحداد
البوحُ صمتٌ
و الصمتُ نارٌ
عارٌ وعارٌ
هذا البعاد.(ص:7).
هذا التوجع/ البوح انعكاس وتصدية لصوت النهر في الورق وانتصارٌ للصمت المناقض للبوح الموعود… ينتشر في الديوان ويدل عليه معجم لا يخطئ ( يسقط ــ أكوام بقائي ـــ عزائي ــ بقائي ــ يندثر كالغبارــ دار التيه ــ يا ويح العاشق ــ يبقى الخراب ــ أرض اليباب ــ الهباء المرمي في هوائي ـــ نار الأسى ـــ أوهام المستقبل ـــ الخراب ــ المنفى…)، يحصل في شهر آذار/ مارس الذي تقول لنا فيه الأرض أسرارها كما قال محمود درويش في العادة و لكن الأمر يكاد يكون مستحيلا لأن الماء، ماءَ النهر لا ينتِجُ الحياة في هذه المدينة.
وبالنظر إلى موقع هذه القصيدة الأولى من الديوان(آذار من عام20 …) مباشرة بعد صفحة العنوان واسم المؤلف والتحديد الأجناسي: شعر) ،نستطيع اعتبارها نصا افتتاحيا بحكم السلطة التوجيهية للعنوان وباستحضار الفضاء النصي، نصا يتخذ صبغة خاصة مغايرة لنصوص الديوان الأخرى. فهل احتل هذا النص مكان نص الإهداء الذي ورد في آخر الديوان قبل الفهرس حاملا عبارةً دالةً (إلى مدينة من خيال ص:83 )؟
1 ــ3 ــ الإهداء:
يعتبر الإهداء ظاهرة ثقافية وفكرية ورمزية قديمة متصلة اتصالا لا يخفى بصناعة الكتاب وبالأدب، وصار مع مرور الزمان تقليدا وطقسا أدبيا على مستوى التوظيف من قبل المبدعين والكتاب والدراسات النقدية.
والإهداءُ أحدُ ((الأمكنة “الطريفة” للنص الموازي التي لا تخلو من “أسرار”تُضيءُ الأبعاد الثقافية والعادات والتقاليد، وتعضد حضورَ النص وتؤمّْنُ تداوليتَه)) (8).
ويقترن الإهداء، في الغالب، بصفحة التقديم، أو قد يحاذي العنواَن الخارجي للديوان، وقد يكون حاشيةً فرعيةً للعنوان…بمعنى أنه يتموقع في البداية، أو الوسط وقد يرد في آخر العمل الأدبي. إلا أن البعض يرى الحالتي الأخيرتين نادرتي الحصول؛ فالمعروف والمشهور هو احتلال الإهداء مكانةَ التصدير أو التقديم. وللإهداء صيغٌ متنوعة متباينة تتوجه إلى ذات المبدع نفسه، أو إلى شخص واقعي أو متخيل، أو إلى أمكنة أو أزمنة وغيرها…
والحاصل أن لطقس الإهداء وظائفَ انطلاقا من أنه فعلُ كتابي حميمٌ يعكس حالة ذهنية ووجدانية توفر إمكانية تذوق النص وتوجيه فعل القراءة لبنائه والقبض على المعنى المنفلت، لا سيما وأن الإهداء يوحي بدلالات لا تنفصل عن سياق الديوان و قصائده لأنه “يشرح” و”يلخص” و “يوضح” أو يقدم علاماتِ نصيةً توجيهية لسياق النصوص الذهنية والخارجية…
ويردُ الإهداء في ديوان “النهر يشرب ذاته” في الصفحة الثالثة والثمانين (ص:83) بعبارة اسمية ” إلى مدينة من خيال”، و إذا انطلقنا من مؤشرات وعلامات واردة في الديوان وقصائده : النهر ـــ أسماء الجبال الواردة في نص” جبال تحت النهر”(ص:5):
كيف لك أن تدريَ أيها الشعرُ حجم الهباءِ المرميِّ في هوائي؟
أظَلُّ أنشُدُ النهضة المرادةِ و الحبَّ المنشود، كما لو أنني أنشدُ جبالَنا الهامدةً
باموسى ــ أٌقلاَّل ـــ بوحياتي
أن تخرج عن صمتها أو تمُرَّ مرَّ السحاب( ص:15).
إذا انطلقنا من هنا، استخلصنا أن المدينة المقصودة هي مدينة خنيفرة المتخيلة لا الواقعية، مدينة صنعها خيال /متخيل الشاعر “وخطابه” الذي تكرر بدوره غير ما مرة في الديوان (والخطاب والنضال والغاوية) من قصيدة “الوعد يجهل ذاته”ص:51 / (أضيع مع الخطاب بين أحضان السهاد)، من قصيدة: كي أكون الوعد ص: 52 / الخطاب الأخير: ليس لنا غير الخطاب 53/ نواجه الخطاب بالخطاب، نشحذ حرفه ص: 53 / كي أكون الخطاب ،ص:56)، فالديوان، واعتمادا على الإهداء، يرسم للمدينة صورة قاتمة من ملامحها أنها: مدينةٌ “صماء”، ذابلة، مظلمة شوارعها وباردة، لا يكترث بها المارون، ولا أحد يخرجُ من قلب ترابها المقدس، هي مدينة تلفظ أنفاسها وتَسقُطُ أطرافُها من درب الشاعر المظلم:
مدينتَنا الصماءَ، كنتِ زهرةً من أزهار الوجود ، أنتِ تَذْبُلينَ أمام عيني المارينَ من شوارعك المظلمة الباردة،
وصوتُ الصخب المهموس يعلو صوتَكِ المجهورَ كثيرا
أيها التراب المقدس
لا أحدَ أنت في قلبه
لا أحد يخرج من قلبك. ( المدينة تلفظ ذاتها ،ص: 12)
ينتقل الشاعر من المرئي والمشاهَد إلى المجرد والمتخيل، من الشفاهية إلى الحالة الذهنية المعرفية؛ حيث تتشظى الذاتُ وتنشطر ذاتين متقابلتين: الأولى تكتب والأخرى تنتظر رجع الصدى وكأنهما تعيشان انكسارات الواقع الآسن والراكد والثابت، ومن ثمة تنقلب الموجودات والأشياء المادية؛ فالنهر متخيل، والمدينة من خيال الشاعر، يحتمي بالخطاب ويطلبه بل يلح في الطلب بمعنى أن العلاقات الواصلة بينه وبين الموضوعات / التيمات والأشياء والأرض وجبال المدينة والصخور والآخر يحددها خطابه/ شعره. فهو لا يني يبحث عن مسوغ لفهم وجودها لكن سرعان ما يعييه البحث المضني عن توازن ممكن بين الذات وبين عناصر الوجود: يناجي النهر الذي يشرب ذاته فيرتوي بوجده ودائه، يسعى دون جدوى أن يكون النهرَ والمدينةَ والحبَّ والوجودَ … لا شيء من هذا كله يُسعفه غيرُ الانتظار وهو عنوان آخر قصيدة في الديوان (ًص: 82).
فلا فجرَ/ لا ضوءَ للذات/ لا سماءَ/ لا أرضَ هنا غيرُ أشتاتي ( الضوء لا يبصر ذاته ، ص:41 )
لا أرى غيرَ أستارٍ من حطامٍ/ أكونُ السوادَ الراقدَ في الركام ( كي أكون الضوء، ص:42)
نحن إذاً إزاء حالة فكرية معرفية وجدانية يحضنها الديوان بلطف ويسهر على إيصالها وتقاسمها مع القارئ. حسبنا هنا نشير إلى أن نصوص الديوان تقدم نفسَها في بنية متقابلة يسمها التضاد والتباعد: فالشاعر لا يقدر على تقمص النهر الذي يشرب ذاته، والحبُّ يقتل ذاته، والمدينة تلفظ ذاتها، والوجود يجهل ذاته، والصخر يكسر ذاته، والقلب يسقط حلمه، والضوء لا يبصر ذاته، والوعد يجهل ذاته، يسعى الشاعر بواسطة “نظرة المعنى”، وهي عبارة واردة في نص” الوجود يجهل ذاته حيث يقول:
أبتعدُ كثيراً عني لأنظُرَ إلَيَّ من كل الجوانب، عندما أقابل نفسي يصبح اليمين شمالا والأمامُ خَلْفًا، تلك نظرة المعنى (ص:22)،
يسعى إلى إعادة بناء هذا الشتات باستدعاء رؤيته ( كي أكون النهر:
ليس لي غيرُ أكوامٍ من بقائي
أمشي ويسقطُ مني ما تبقى من عزائي
يفنى الرُّقادُ وأفنى ويبقى نمائي (ص:8).
تُبينُ هذه النصوصُ الموازية (العنوان والإهداء واسم الكاتب ) عَنْ اشتغال رؤيا شعرية خاصة وفريدة تسعى إلى التأمل في الوجود العليل، وفي الوجد القتيل لترتيب الفوضى الخارجية المتسربة إلى أعطاف الديوان وقصائده، والتي بالإمكان اختصارها في بنية “السقوط” : سقوط المدينة بنهرها وجبالها وموت الحب، وانكسار الضوء، وانهيار الأحلام… من جهة، وفي بنية “النهوض المجهض”التي تضفي طابعا تأمليا في البنية الأولى تختصرها النصوص القصيرة المكثفة الدلالة في مقابل النفس الطويل المميز لنصوص البنية الأولى، وكأننا بالشاعر يسعى إلى خلق نوع من التنافر بينه وبين الواقع وربما قد يخفي هذا التنافر غرابة و(الجميل غريب دائما كما قال بودلير)(9) .
2 ــ المعرفة الخلفية و دورها في توجيه التأويل:
وهي عبارة عن مجمل الاستدعاءات المعرفية التي تعبر عن نفسها في الديوان صراحة أو ضمنيا؛ وهكذا يتشرب الديوان أسطورة سيزيف، ويمتصها ويحاورها، ليعيد بناء عناصرها وترتيبها ،فيكسرَ الصخرةَ التي تهجر حركيتها العبثية عند سيزيف، لتغدو صخرة / بذرة تنمو كي تسقط من جديد:
الصخرةُ سقطتْ كثيراً، دارت كثيراً، نحو ذاك السبيل البعيد عن الرغيد
الصخرةُ تنمو بثقلها على نبات الياسمين
تسقطُ بحجمها على قلوب الثائرين
لست أدري كيف تدورُ، و لكني أدري كيف تسقطُ، وتنمو كي تسقطَ مرات على كل الواقفين ( الصخر يكسر ذاته،ص:31 )
لحركية الصخرة المجازية في الديوان دلالات التناقض مع الانبعاث والنهوض من الكبوات؛ لأنها باتت تنمو على طرقات المدينة ولا ينفع قدوم الربيع الذي يتحول بدوره إلى مجهضٍ للأحلام والذات:
يبقى الصخرُ/ والربيعُ/ وأبقى والنهرَ / نعطش كثيراً/ والماءُ يسري في الخواء / هنا الثائرُ/ والرفاتُ/ والعقيدةُ (الصخر يكسر ذاته،ص:33)
ولعل استدعاء هذه الأسطورة في الديوان يركز عبثَ الانتظار والإحساس بالاغتراب، وهذا ما تُجلّيه القصيدة / الشذرةُ: (كي أكون الصخورَ):
كي أكون الصخرةَ
أشكو قسوةَ الماء والربيع والعروبة
أكونُ الرَّطْبَ وحدي في بلاد العقوبة. ( ص:34 )
بيدَ أن أبعادَ أسطورة سيزيف الراهنة لا تنتهي عند هذا الحد، بل تتكامل مع أسطورة “ميثوس “الواردة في قصيدة (القلب يُسْقِطُ حُلُمه) :
القلب يحمل ذاته
من ثنايا الغموض
يعتلي صخرته
يا ويل الركود
….
القلبُ يذكُر ذاته
بين أسوار العهود
يَشْربُ ميتوس
ماءً من صمود (ص:35))
وغير خفي أن ميثوس قد يكون كلَّ خطاب يثير الخيال والعاطفة والوجدان مما يناسبُ طبيعة الشعر ويستوعب قساوة الشعور بالفراغ وبالمنفى الذي يعمق جراحاته الوعيُ الذي يضعه الديوان في قلب “الخطاب” الذي تكرر في الصفحات : (54 ـــ 55 ـــ 56ــ 60) ليتخذ عنوانَ نص بعينه(كي أكون الخطاب):
كـــــــي أكــــون الخـــطـــاب
أكونُ حرفاً من خيوط الشمس والنار
أحيا وجوداً مُشبَعاً بالدمار
يحدث أن تشعر أنك منفي مجازا…(ص:56 )
تليه مباشرة قولةٌ للفيسوف الروماني : إميل سيوران Emil Cioran” الجهل وطن والوعي منفى”. ومن المعروف أن أعمال هذا الفيلسوف الذي يكتب بالرومانية وبالفرنسية يحكمها رفضُ أيِّ نظام فلسفي، ويطبعها التشاؤم والشك الفلسفي، إذ يرى أن الوعي لعنةٌ مُزمنة كارثة مَهولَةٌ، إنه منفانا الحقيقي كلما سعى المرءُ إلى التدقيق والتفسير وتحليل التفاصيل كلما أصابته التعاسة الأبدية.
وفي قصيدة (أو حين أحيا)، يطل الشاعر على”إليوت” صاحب “الأرض اليباب/الخراب” :
وأنا سبي في سرايا الوهم أُطِلُّ على إليوت
أشرب كاساتي
نخب ذاتي (ص: 20).
والشاعر الإنجليزي الأميركي توماس ستيرنز إليوت أشاع كثيرا من الأفكار المرتبطة بالسأم من الحياة المعاصرة وصفه لويس عوض بالشاعر الحزين المتشائم، وقد رانت على قصيدته “الأرض الخراب” ولاسيما القسم الخامس منها والذي يتخذ عنوان (ما قاله الرعد) تيمة البحث عن الماء، والاصطدام بالصخور، والصمت وبرك من الصخور… وهي التيمة التي لا تغيب عن الديوان الذي بين أيدينا؛ إذ الماء “يسري في الخواء” ويبقى الصخر مجابها للربيع غير الواعد الموؤود، فترى الشاعر يشكو “قسوة الماء والربيع والعروبة” كما في الشذرة (كي أكون الصخور،ص:34).
فمن سيزيف، وميثوس، وسيوران إلى إليوت ـ إلى كهف أفلاطون ( حين نكون سبايا / نُغْلِقُ كل منافذ الضوء الآتي من بعيد ، في كهف أفلاطون ، فيُحكى أنَّا كُناَّ هنا) ترتسم في الديوان خيوط الشعور بالوحدة التي قد تكون صنوا أو معادلا للوعي أو ناتجةً عنه وقد يكون ذلك كله مدخلا ممكنا لفهم الكتابة عن الذات وللذات في هذه التجربة الشعرية وفي غيرها من التجارب التي تشكل المشهد الشعري المغربي المعاصر والتي حاول النقد المصاحب لها وصفها بالحساسية الجديدة باعتبارها مفهوما استعيضَ به عن مفاهيم أخرى ذات حمولة إيديولوجية مثل “الجيل والتيار والمذهب …(يسميها كريم أيوب : شعر الراهن ) (10).ومن النقاد المغاربة الذين وظفوا هذا المفهوم في دراسة الشعر المغربي المعاصر وخاصة شعر الشباب، نجيب العوفي وعبد اللطيف الوراري وغيرهما …
وهكذا فالحساسية الجديدة مفهوم ذو ((شحنة نفسية وشعورية محددة قد لا تستغرق الأبعاد العميقة و المعقدة للخطاب…)).إنه مفهوم كفيل بنقل بعض خصائص الكتابة الشعرية الشبابية؛ ففي ديوان “النهر يشرب ذاته” وباستحضار تجربة الشاعر النقدية وخلفيته المعرفية الموظفة في إبداعه، نلفيه يعمد إلى الحديث عن “الخطاب” بشكل يلفت النظر. كما في قصيدة “كي أكون الخطاب” وفي غيرها وكأن “الخطاب” هو الملاذ الكفيل بتخطي بنية الشعور بالسقوط :
ليس لنا غيرُ الخطاب، نواجِهُ الخطابَ بالخطاب،
نشحذُ حَرْفَهُ، ونُلَمِّعُ غِمْدَهُ الذي يشِعُّ في مكانٍ بعيدٍ، وكَما
يصلُ برقُهُ يصِلُ صوتُهُ الأكيد (الخطاب الأخير،ص:53).
إذ يكتب الشاعر ذاته محتميا بالشعر إلى حد يوظف داخل لغة الشعر نفسه “لغة واصفة” تذكر القارئ والمتلقي بطبيعة الشعر ووظيفته التعبيرية وكأننا إزاء “قصيدة تعليمية ” تعلمنا معنى الشعر الحق ومعنى القصيد وتحدد طبيعة الشاعر في انسجام وتناغم مع تيمات البحث عن الحب والماء والوجود والانتماء… فالشاعر هو:
كلُّ من يَشِعُّ قلبُهُ بنار الوجود أو نار الخطاب/ كل من يُفكِّرُ في الممكن والمحال، أو يقتفي آثارَ الوعود الميتَةِ ليسقيَهَا من ماء عروقه ، فتحيا (الشعر يذكر ناره،ص:57).
ويتولد عن هذا “الالتزام” الوجودي للشاعر وخطابه، قصيدٌ/ شعرٌ يحيا إلى جانبه أبد الدهر خالداً:
لن يفنى الشعراء، ولكن تفنى عروقهم البيضاء باللهيب/ لن يفنى الشعراء، ولكن يفنى الوعد والحاضر الكئيب (ص:57).
لن يفنى القصيدُ وإن يفنى الورق والمدادُ المجيدُ/ سيبقى القصيد / ويحيا الشعراءُ/ كما يبقى وسط المآسي طيري الرغيدُ (ص:58).
فالشعر هو القادر على خرق الوجود والشعور بالمنفى… وهو الذي يبقى للشاعر :
هذا ما تبقى من وجودي
الدوائِرُ
والقصيدةُ
والهوى المرميُّ في حدودي
والخواطرُ
والذاتُ العتيدةُ
أو الجزءُ القليل من ركودي (النهار ينسى ضوءه، ص: 67).
والدوائر الواردة هنا في هذه القصيدة دالةٌ ومعبرة لأن قصائد ديوان “النهر يشرب ذاته” مترابطة يشد بعضها برقاب بعض في شكل دائرة دلالية متشابكة ومتداخلة تنبئُ بحركية القصائد وعناوينها التي قد تتحول هي نفسها إلى قصائد قائمة بذاتها (قصائد داخل قصائد) ولبيان ذلك يكفينا النظر في الفهرس والربط بين عناوين القصائد التي قد تتخذ صبغة قصيدة كلية:(11)
((كي أكون النهر / الحب يقتل ذاته
كي أكون الحب/ المدينة تلفظ أنفاسها
كي أكون المدينة/ جبال تحت النهر
كي أكون النهوض/ أو حين أحيا
كي أكون ذاتي/ الوجود يجهل ذاته
كي أكون الوجود/ السقوط يدرك ذاته
كي أكون السقوط / الصخر يكسر ذاته
كي أكون الصخور/القلب يسقط حلمه
كي أكون القلب/ الضوء لا يبصر ذاته
كي أكون الضوء/ الموت أو حين أغفو…))
فالشاعر كريم أيوب يكتب ويتأمل في كتابته، بل ينغمس في ذلك حريصا على لمِّ شتات الكتابة ومنطلقاتها. فهل يتعلق الأمر هنا بسمة مميزة لحساسيته الشعرية الجديدة تتطلع إلى إثبات فرادته واختلافه ومغايرته لكل استنساخ ممجوج؟ ثم إن ديوان “النهر يشرب ذاته” وفي تناغم تام مع التأملات المذكورة يوظف جملة شعرية تختلف بين الطول والقصر وتتحول إلى بنية موسيقية إيقاعية أكبرَ من السطر الشعري تتحكم فيها الدفقات الشعورية…
ثم إن لغته الشعرية منزاحة دلاليا بما ينسجم والشعور المطبق باختلال الأشياء والعلاقات بين الموجودات معتمدا الاستعارة والمجاز، مما يضفي على هذه اللغة خصوصيات تكسير الطوق المعجمي المضروب عليها والبحث عن حالات التوهج والإشعاع(12)، وموظفا أقنعة هرميسية أضفت طابعا ديناميا على المعنى. ومن الظواهر الأسلوبية المثيرة في ديوان “النهر يشرب ذاته” إضافة إلى التكرار، تواردُ الجمل الاستفهامية بما يوحي بالشك والتساؤل من قبيل:
أين الفروسية، والنارُ، والفحولة؟ (الشتات يجهل ذاته) / متى سينتهي هذا الغروب الكبير من سمائي؟ / متى أنتهي أو ينقضي ما تبقى من شقائي؟/ متى ينتهي ويفنى كلما في هبائي؟ / أين البقاء؟ كيف نحيى ما تبقى من مكان من زمان؟ (الليل يهجر ذاته)
كيف لك أن تدري أيها الشعر حجم الهباء المرمي في هوائي؟ (جبال تحت النهر)
هل لك أن تُخبرني الآن أن صحائفك المقدسة ستُقرأ؟ (أو حين أحيا)
هل يمكن لي أن أكون هكذا …خارج الكون والحب والذات؟(الوجود يجهل ذاته)
كيف يرحل السقوط؟ / كيف يرحل الهباء؟/ كيف يموت الغُثاء؟ (السوط يدرك ذاته)
كم تبقى من أسير؟/كم تبقى من حبور؟/ كم تبقى من كيان؟
إلى جانب جمل النداء :
يا ماء الوجود (الحب يقتل ذاته)/ أيها التراب المقدس؟ (المدينة تلفظ أنفاسها)/أيها اليائس من وطن معشوق؟/ يا رب الأسرى ثمة حب أجذلُ ( جبال تحت النهر)/ يا رب الأرض السفلى/ إني أمشي / حيث عزائي( جبال تحت النهر)/ يا ماسكاً أقداح الأسى وصوتَ الفِدَا وريحَ اليباب (أو حين أحيا)/ يا روح السماوات ( الوجود يجل ذاته)…وربما قد يومئُ النداء في تناغم مع الاستفهام، إلى صوت الشاعر (تتكرر كلمة الصوت في الديوان) الباحث عن “حقيقة ضائعة”(انظر على سبيل المثال: الضوء لا يبصر ذاته)( ص: 42 من النسخة الأولى).
ويشي أسلوبا الاستفهام و النداء هنا بقلق وجودي يحياه الشاعر؛ إذ يحاصره الانتظار ويشع حوله السواد وجميع ألوان الهباء. كما قد يكون هذان الأسلوبان الإنشائيان تعبيرا عن اختلال العلاقة مع الأشياء الجاهزة، وعن حالة ذهنية مهيمنة تُكسِّر الجاهزَ وتفتح أفقا يخترق الانتظارَ الذي أعيى الشاعرَ:
كي أكون الانتظار
أرمي كل البقاء خلفي وأمشي في الدروبْ
أكونُ الَفَجْرَ المنسيَّ والشمس والغروبْ( ص: 82).
وعلى الرغم من هيمنة هذه النظرة الميلانكولية الحزينة الناتجة عن الشعور المجازي بالمنفى في الديوان، وجب ألا تنصرف الأذهان إلى ما قد ينبعث عنها من إنطوائية؛ ففي الديوان نَفَسٌ حواريٌّ يتجلى في رغبة جامحة يمتطي صهوتها الشاعرُ لتنسيب رؤيته وفتح آفاقها على إمكانات أكثرَ رحابةً. فالتذويتُ، بهذا المعنى، ليس انغلاقاً وتمركزا مُمِلاًّ على الذات التي تمتد جذورها في انتماء جغرافي ومكاني مفتوح…
الهوامش
Gérard Genette ,seuils, éd seuil,1987,P P :87 ,3761
2 ـــ نبيل منصر، الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال، سلسلة المعرفة الأدبية، الطبعة 1، ص: 22.
3 ــ عبد الحق بلعابد، عتبات (جيرار جنيت من النص إلى المناص)، منشورات الاختلاف، الجزائر، الطبعة 1، 2008، ص:63.
4 ــ نفسه، الصفحة نفسها.
5 ــ عبد الحق لعابد، مرجع سابق، ص:73.
6 ــ لعلى سعادة، سيميائية العنوان في شعر عثمان لوصيف، بحث لنيل شهادة الماستر في الأدب الجزائري، تحت إشراف د. الطيب بودربالة، جامعة محمد خيضر بسكرة، الموسم 2004/2005، ص: 28
7 ــ كريم أيوب، النهر بشرب ذاته، منشورات جمعية عبور، مطبعة النور، ط1، 2023. سنكتفي بالإشارة في المتن إلى الصفحات فقط.
8 ــ نبيل منصر، مرجع مذكور، ص: 48.
9 ــ أدونيس ، زمن الشعر، دار الفكر، بيروت، الطبعة 5 ،ص: 19.
10 ــ أنظر مقاله : ما المقصود بشعر الراهن؟ في جريدة القدس العربي.
11 ــ هذه محاولة خاصة لتأكيد التسلسل والترابط والتكامل بين قصائد الديوان انطلاقا من الفهرس نفسه.
12 ـــ عبد القادر عباسي، إشراف : د.عبد الله العشي، النسق البلاغي في القصيدة الجزائرية المعاصرة، أطروحة مقدمة لنيل دكتوراه العلوم في الأدب الحديث، جامعة باتنة1، الجزائر، السنة الجامعية 2016 ــ 2017،ص ص: 64 ــ65.
(°) مفتش تربوي، ناقد وفاعل مدني
تعليقات
0