أحمد بيضي
الخميس 10 أغسطس 2023 - 19:50 l عدد الزيارات : 20598
يوسف عيادي (°)
بينما كنت مستلقيا على سريري، طفقت أولى خيوط الشمس الدافئة تتسلّل بارتياب عبر فتحات دفتي النافذة، مشكلة جزرا متناثرة على جدار الغرفة. همنغواي كان ضيفي المميز ليلة أمس” العجوز و البحر”، لم تكن مجرد رواية عالمية، تغري بالقراءة وحسب. إنما رحلة بحرية على متن قارب بصحبة حورية بحر ممشوقة تضمّك إلى نحرها بغنج طافح..وسط هذا البحر السّاجي نمت طحالب السّرد الماتع بعفوية لا تخلو من مهارة ..
لعلها السابعة صباحا، أو هكذا تبدو وضعية عقارب الساعة الحائطية التي شقّها ضوء الشمس .. تبدأ يومك، بقضم بعض الصفحات داخل الفراش .. قبل أن تلتهم خلسة ما تبقى من ملحمة “همنغواي” في زاوية المقهى المعتاد .. (سانتياغو) يشبه أناسا كثيرين أعرفهم ! بل إن منهم من ظل إلى الأبد داخل قاربه من دون أن يظفر بسمكة واحدة!! حياة الإنسان أقرب إلى عملية صيد … إما صيّاد او طريدة .. ظفر الصياد رهين بدُربة متأصّلة..
فجأة، دهمني صديقي الذي دلّه النادل إلى مكان اختبائي .. تصافحنا بحرارة،نحّيت الكتاب جانباً، وانشغلنا سويا بالاقتيات على الأخبار اليومية .. غلاء الأسعار وتدهور المعيشة وصولاً إلى بؤس السياسة واجتفاء العلاقات الاجتماعية .. تجشأنا انكساراتنا .. قبل أن تحاصرنا التوجسات ودخان السجائر المتصاعد من حولنا..
طوّقنا الصمت بعدما أفرغنا ما بداخلنا من مماحكات وخيبات دعكتها أياد خفيّة..
كنت أحدّق إلى المارة على قارعة الطريق وطابور المتقاعدين أمام مركز البريد .. بينما صديقي يتصفّح هاتفه الخلوي .. أشعلت اللفافة ومصصت الدخان بانتشاء شبقي؛ ثم زفرت خيطا طويلا صوب السقف .. – لقد أضحت هذه الهواتف الذكية أشبه ما تكون بسيوف حادة مُسلّطة فوق رقابنا! قلت بنبرة أقرب إلى النشيج.هزّ رأسه باحتدام باد:
– هل قلت ذكية؟”،
ثم جلجلت ضحكته المُدوّية عبر الأثير . – أجبت باقتضاب يشي باستياء:
– أجل إنها ذكية على نحو لا يصدق، بل وأكثر ذكاء من أصحابها في معظم الأحيان ..
– ثم استطردت : صدقني يا صاحبي! هذه الهواتف النقالة احتوت الإنسان وأعادت صياغة الكثير من صفاته الحالية .. كيف لجهاز في متنهى الصغر أن يحشرنا في زوايا ضيقة ؟! .. لقد عرّتنا بفجاجة وكشفت أعماق النفس البشرية الأسيّة .. شيئا فشيئا دمّرت الوشاج الأسري .. وعزّزت مكانة النفّاج والتافه وهَوَتْ بكل ما هو هادف ومُجْدٍ إلى القعر .. هل فهمت قصدي يا عزيزي؟
عدّلت وضعية جلوسي ثم هجست:
– أستطيع أن أقول لك – بكل وثوقية – أن ثمة ثلاث محطات تاريخية كبرى غيّرت حياة الناس على نحو كبير اكتشاف النار، اختراع الكتابة، ظهور الهواتف الذكية..
– لا لا .. ليس إلى هذا الحدّ عزيزي .. إنك تميل إلى تهويل الأمور البديهية !
ثم أشاح بوجهه .. وضع هاتفه جانبا وبدأنا نمسح سويا جحافل المارة على الرصيف .. في الغالب أجساد ضامرة أو مُقوّسة .. ووجوه كالحة لثمها لهيب حار … كان المشهد مأتميّا بامتياز
– الناس في هذه المدينة يتأبطون خيباتهم منذ سن مبكرة..
– أجل ..معك حق ! استطرد : ” التأبط صفة بشرية صرفة .. ثم أردف : وفي ذلك فليتنافس المتأبّطون . – إنك تنزع إلى التفلسف ..
قاطعني ساخرا .. ثم أضاف بوثوقية أقرب إلى العنجهية :
– هذه ملاحظة متحاملة .. انظر إلى شاشة التلفزيون هناك ! تكاد أخبار القتل والدمار تكون وجبة إخبارية وحيدة .. حروب العالم الحديثة تدمر حضارة الإنسان بحجة تخليصه من دكتاتورية إنسان آخر !! قدر العربي أن يتشرد باسم ثورة قبل الآوان ..هل قرأت ديوان نزار قباني الذي تحدثنا بشأنه؟ –
– ليس بعد؟؟
– إلى متى ستواصل تأجيل مشاريع القراءة ؟!
قطّب حاجبيه ثم أشاح بوجهه قليلا .. وتمتم قائلا
– القراءة تحتاج إلى مزاج سويّ ومتسع من الوقت .. ” لا يمكنني أن أقرأ بينما غراب البطالة يحوم فوقي
– يا صاحبي حاول أن تسترق الوقت غلى غرار استراقك للقُبل هنا وهناك ! لقد عهدتك جسورا لا تنكسر إرادته
– دعك من النبش في الأرشيف
قالها بسخرية ناءت بصعوبة تحت ذكرياته .. ثم لاحت ابتسامته الماكرة وهو يسحق قطعة السكر براحتيه العريضتين .. وإذ غاصت نظراته داخل كوب الماء فوق الطاولة .. في ما يشبه تأملا عميقا .. اندفعت بصعوبة ملفتة عبارة “مع السلامة ” من شفتيه المزمومتين..
انصرف صديقي الذي نسي موعده مع طبيب الأسنان، بينما غادرت المقهى باتجاه المنزل .. دلفت إلى بائع الفواكه لاقتناء البرتقال الذي تتلقفه الأيادي لرخصه .. وفي الطريق، كنت أشتم في سري المجلس البلدي كلما مررت ببالوعة مهترئة أو عامود إنارة مائل .. تارة أدندن أغنية كبحار يسحب شباكه، وتارة ألكز في مخيلتي هؤلاء الحمقى الذين حولوا هذه المدينة المكدودة إلى حفرة بؤس عميقة .. وإذ أشقّ طريقي بتثاقل مريب؛ كنت أتساءل في نفسي: هل بوسع الإنسان أن يحافظ على توازنه الداخلي في مدينة شديدة الميلان ؟..
تعليقات
0