حوار/ مولاي إدريس أشهبون: أقدم لقرائي ذاتا حزينة، محبطة، تموت مرات عديدة في اليوم الواحد

أحمد بيضي الجمعة 1 سبتمبر 2023 - 22:25 l عدد الزيارات : 31276
  • حاوره: حسام الدين نوالي
في زمن قديم، قديم جدا..، هناك، حيث لا أحد يعرف التفاصيل بالضبط، كانت الكلمات تنبت في ألسنة الناس، وتنمو مثل نباتات الظل، فيتّصل بعضها ببعض، وربما تتلاقح فتنتج كلمات جديدة بملامح مختلفة.
الجماعةٌ التي كانت تتعمّد إنبات المختلف والمورق والمُزهر في ألسنتها، كانت القبيلة تسمّهم سُلاّن الضوء، ثمّ صرنا، في ما بعد، نسميهم شعراء..، نتساءل من أين يقطفون المجازات؟ وكيف يعيدون ترتيب الكون؟ ومن أي باب يدخلون إلى مزارع القصائد؟
وقد قُيّض لي أن ألتقي مرارا الشاعر مولاي ادريس أشهبون، في مقهى، أو أرافقه في سفر، فيحدّثني عن حاجة الإنسان إلى الكلمة، وعن السلطة التي امتلكها باللغة، وعن علاقة الاستعارات بالفكر وبالفعل…، لكن، حين دعوته إلى هذا الحوار- بغاية التوثيق والنشر- قال لي:
أتدري..؟، إن كتابة الشعر ورطة سواء اخترته أم اختارك ، لأنه من الابداعات التي يفوز فيها الجانب الوجداني التعبيري بشكل كبير، ولهذا السبب يتورط كاتبه في موجة عاطفية عنيفة، قد تصل حد الحلول، وقد تنسى من اختار الآخر، وكيف اختاره، ولماذا اختاره.. كتبت نصوصا شعرية وأنا في الثانوي، وفزت مرات عديد في مسابقات، ووجدتُني داخل القصائد.
  • هل لأن القصيدة تقول ما لا تقوله الأشكال الإبداعية الأخرى؟

كل الابداعات تتكلم وتعبر، رغم التكثيف والإيجاز الذي يميز بعضها عن بعض، لكن القصيدة لها طابعها الخاص، لأنها شعر، ومادامت كذلك فهي تختار لنفسها وسائل تعبيرية مميزة لتخاطب عشاقها، إنها شيقة في تواصلها، ورقيقة في عشقها، وشاقة التورط فيها… وفي القصيدة تجتمع الموسيقى والمعنى والصورة، يجتمع الوضوح والغموض، تجتمع اللغة والرمز وأشياء كثيرة أخرى كالرؤيا الشعرية، والرؤيا الفلسفية، والرؤية الايديولوجيا …
إن قصيدة الشعر عالم عجيب تورط كاتبها وقارئها بهذا التراكم اللغوي والدلالي والفكري الذي ذكرتُ بعضا منه، ولا يزال مُريدها هكذا سابحا في عوالمها حتى ينتشي…
  • ماذا عن مُريديها اليوم، وما رأيك في حضورها الإبداعي في المغرب؟

ربما أصبحت قصيدة النثر مفتاحا وجوديا لاكتشاف نوازع الإنسان وميولاته، وأحاسيسه، وأعتقد أيضا أن السياقات السوسيوثقافية قد وفرت تربة خصبة لهذا النماء وهذا النضج الشعري الذي عاش صراعا مريرا مع ذاته أولا ومع النقاد ثانيا …
قصيدة النثر كسرت بعنف كل الضوابط الكلاسيكية في الإيقاع وفي الصورة، وفي الانزياحات اللغوية والدلالية، وكذا في لعبة الكتابة. (فالشعر الحر لم يحقق حريته كاملة مثل استقلال الأمة العربية، ولهذا وجبت الثورة الفكرية والإبداعية عموما حتى النصر)…وفي اعتقادي إن قراءتي لمجموعة من الدواوين من جيل الثمانينيات حتى اليوم، قد خلق عندي قناعة أن قصيدة النثر، ليست مجرد تطور، أو تجديد فقط بل هي ثورة على ما سبقها من شعر..وفي تقديري المتواضع، هي أرقى أشكال الكتابة الحرة.
إن قصيدة النثر حقا ، قد جاءت جوابا عن معنى (النفور) الذي عاشه الإنسان حتى أرهقت  القواعد الكلاسيكية ذائقته الفنية.. ففي المغرب، أصبح لهذا الشكل الإبداعي شأن فني مميز، لأن شريحة واسعة من المبدعين الشعراء قد ساهموا في إغناء هذا الجنس الأدبي، وما يزالون، وساعدت مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك في الوقت الحالي …
ورغم هذا الثناء الموضوعي، فإني أعيب على بعضهم عدم التدقيق في منجزهم الإبداعي من حيث خصائصه الفنية من جهة، ومن حيث الغرض الغارق على الدوام في ذاتية مفرطة، مما يترك انطباعات سلبية عند القراء، وأحيانا نفورا من هكذا كتابات..
  • ألهذا السبب تجعل لنصوصك الشعرية ارتباطا عميقا بالأسطورة وبالمشترك الإنساني، بدل الذاتية المفرطة؟

للأسطورة في الخطاب  الشعري العربي المعاصر حضور فني وإنساني بكل ما تحمله هذه المصطلحات من معاني فكرية وفلسفية وإبداعية، لكونها ترتبط باللاشعور الجمعي (الخصوبة، والولادة، والموت…)، وهكذا تصبح الأساطير بهذا المعنى معبرة عن الحمولات النفسية والفكرية عند المبدع..
وأعتقد أن الكتابة الشعرية لم تتجاوز الرمز والأسطورة بمعانيهما الخالدة، لكنها أصبحت تعتمد أيضا، على وسائل فنية، وتعبيرية أخرى، من طبيعة المرحلة المعاصرة التي تتميز بمنجزها الحضاري النوعي، تداخلت فيه العلوم، والتكنولوجيا، ووسائل التواصل المرئية وغير المرئية… ورغم هذا التطور، فإن اللغة الشعرية لم تفقد جوهرها، بل تطورت مع هذه المسيرة الشاقة للشعر الحديث، وقصيدة النثر على الخصوص…إنَّ اختياري الرمز والأسطورة، هو تعميق للدلالة ، والمعنى حتى يفتحان المجال للتأويل وقراءات أخرى..
وبالتالي لا يمكن لكتابة شعرية أن تنجح، ما لم تنفتح على قضايا فكرية وفلسفية وإبداعية إنسانية كما يقول محمود درويش (أمشي بين أبيات هوميروس، والمتنبي، وشكسبير..أمشي وأتعثر كنادل متدرب في حفلة ملكية)…
  • لكن ثمة ما يثيرني في انفتاحك على القضايا الفكرية والأسئلة الإنسانية العامة، وهو أن دواوينك تشكّل تجارب إبداعية مختلفة لكل منها لمستها الخاصة، ليس على مستوى اللغة والصور فقط، ولن أيضا على مستوى المضامين، فهل يمكننا القول أن كل ديوان هو قضية فكرية مستقلة ام أن الدواوين كلها تقدم تصورا واحدا بتجليات مختلفة ؟

تحضرني قولة واسيني الأعرج: (على الكتابة أن تمنحنا فرصة للحلم، وإلا فلن تكون إلا مجموعة من الكلمات التي لا شأن لها). عندما نكتب، نأخذ بعين الاعتبار أن القارئ سيكتشف شيئا ما، من خلال لغتنا التي هي جزء من أحاسيسنا (السوية، المريضة، المتزنة، المعوجة، الخلوقة…)، وأنت تراهن بكل هذا لتكون -بطريقة ما- قد قدمت للمتلقي تجاربي كيفما كانت ، ومهما كانت … وعليه قد نطرح السؤال ، لماذا يكون المبدع هو المرشح ليقدم نفسه على هذا الأساس، (ذات على طابق الانكشاف).
أعتقد أن هذه الخطوة الشجاعة، هي أساس فلسفتي في الكتابة الشعرية، ومن خلالها أنظر إلى العالم، أقدم لكل قرائي ذاتا حزينة، محبطة، تموت مرات عديدة في اليوم الواحد ! لكني متشبث بقارب يمخر عباب بحر الحياة دون أن أعرف شيئا عن اتجاهاته ..! لهذا جاءت دواويني عموما تبحث عني، وعن أمثالي، وهكذا يعجبني جبران خليل جبران حينما كتب (ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه ، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام، وفم باسم)
إن هذه التجربة المتواضعة، أحاول تطويرها بكل الإمكانيات الحياتية والفكرية المتاحة، وقد أسعدني هذا الحوار عن تجربتي الشعرية، وخصوصا أننا في منطقة جغرافية هامشية، لايهتم لأمرها أحد، وأنت تعرف أن الابتعاد عن المركز يجعلك تبدع في أساليب الإهمال، والحزن التي تبدو لك هي الملاذ الأخير فقط، وتكبر فيك، ومعك عقدة التهميش..
  • لا أفهم كثيرا معنى الهامش والمركز، لكن دعنا نُسقط هذه الثنائية على إبداعاتك. لقد حققت نصوصك حضورا واسعا ومقروئية كبيرة مغربيا وعربيا، فهل يوازيها حضور ينصف ابداعك..؟

هذا سؤال أساسي حقا، لأن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى تقويم وتقييم على حد سواء، وفي هذا الإطار قد ساعدتني رغبتي المتأخرة في الكتابة الإبداعية (قصيدة النثر) على بلورة إمكانياتي في الإنتاج، من حيث الكتابة الشعرية وشروطها ومن حيث البحث في هذا المنجز الأدبي المتميز. وأنا الآن بصدد إتمام بحث في مجال قصيدة (النثر بين النسق والسياق) ..
أما في علاقتي مع النقاد، فاعتقد أن بعضهم قد فتح أمامي آفاقا كبيرة في الكتابة، بالتشجيع أولا والتقويم ثانيا وبالنصح ثالثا، وهم من فتح المجال حقا أمام نصوصي المتواضعة، كي تكون في المتناول، ومن بعث الحياة من جديد في قصائدي، وكتاباتهم قد سافرت ببعض دواويني إلى اقطار بعيدة ، وديواني الأخير (أقطف من عيونك حزنا) قد تُرجِم إلى اللغة الفرنسية، وإلى اللغة الإسبانية ..
كتاباتي واضحة، وموضوعاتها إنسانية في العموم، وصادقة في تقديري قدر الإمكان. وكما يقول الأديب والناقد الكبير كليطو (كنت متأثرا بعنوان لبودلير *قلبي عاريا* من الممكن أن هذه هي الكتابة).
  • تشتغل في الحقل السياسي منذ أكثر من 40 سنة، وتنخرط في الحقل الحقوقي بشكل كبير، هل لهذه الاهتمامات صدى في نصوصك؟

هذا السؤال يختزل أجوبة كثيرة أن تكون مبدعا أو غير مبدع، فيجب عليك أن تنخرط في هموم شعبك، فالصراع الاجتماعي لا يستثني أحدا../أنا ولدتُ في واقع اجتماعي، اشتد فيه الصراع بكل تلاوينه السياسية. ولأن السياسة هي أرقى أشكال الثقافة) وجدت نفسي منخرطا منذ بداية حياتي الطلابية  بالإتحاد الوطني لطلبة المغرب (تيار الطلبة الديمقراطيين) كاستمرار لجيل حركة 23 مارس،  ولايزال في عمقنا الشيء الكثير من هذا التراث الإنساني..
كما أني  كتبت الشيء الكثير عن الحب.. وعن الثورة لكن ذلك قد ضاع مع الزمن، بسبب انشغالي بأمور أخرى خارج الإبداع، باستثناء قصائد الحب التي أذيعت أنذاك في ( برنامج ناشئة الأدب) والذي كان يديره المرحوم وجيه فهمي صلاح…
ولا أعتقد أن هناك خصومة ما بين الإبداع، والسياسة، بل هناك تفاعل بينهما، والواقع الاجتماعي يحتاج إلى وعي ممكن يزيل الغشاوة عن عيون الناس.. ولا يمكن للمنظومة الفكرية والثقافية أن تستقيم في واقع مهزوم، وفي سياق وعي تاريخي متأخر؛ ورغم ذلك فأنت تكتب، ولأن الكتابة هوس يجبرك على الإصغاء إلى كل الاهتزازات، والانكسارات في أعماقك، ومن حولك، قد تؤلمك حقا لكنها هي وقود الإبداع.
يقول إرنست همنجواي: (ليست الكتابة بالأمر الصعب، ماعليك سوى أن تجلس أمام الآلة الكاتبة، وتبدأ بالنزيف)، وأنت تراهن بقوة على العمل الثقافي، والسياسي، تجد نفسك مناضلا حقوقيا ترفع الشعارات، وتصرخ في الشارع، وتصطدم في كل مرة باليأس والوعي المتأخر.. وربما يقودك هذا الإحساس الدائم إلى حزن مقيت، أو إحباط لا ينتهي. يقول إميل سيوران ( اذا كانت كتبي كئيبة فذلك لأني أبدأ الكتابة حين تكون لدي رغبة بإطلاق رصاصة على نفسي..)… قد يكون في هذا القول شيء من الحقيقة المرة، لكن الإنسان في هذا الواقع، وفي هذا الوجود يصارع على الدوام وبمرارة، ليثبت لنفسه أنه قد مَرَّ ذات يوم في هذه الحياة.
  • شخصيا، شهدت بضع نجاحاتك التي تجعل المرارة تُزهر، منها ما حققه إصدارك الشعري الأول من نجاح ملحوظ، مثلما حظيَت لقاءاتك الشعرية بحضور جماهيري كبير..كيف تبرر هذا الالتفات الشعري حول ابداعاتك؟

يبدو أني أقول مع الشاعر الكبير محمد الماغوط :(أحاول أن أكون شاعرا في القصيدة، وخارجها، لأن الشعر موقف من الحياة، وإحساس ينساب في سلوكنا)، وقد يكون فحوى هذا القول هو جوهر هذا التفاعل، من جهة، ومن جهة أخرى، أنت تعرف أني درَّسْتُ في هذه المدينة الأطلسية الجميلة أكثر من 30 سنة، وفيها قضيت زهرة شبابي، ولأني قبل كل شيء ابن مدينة مريرت التي لا تبعد إلا مسافة زمنية قليلة جدا..
فالأجواء الغنائية ، والمحيط الطبيعي قد كان حاضرا في اللغة الشعرية التي اشتغلت عليها منذ زمن بعيد…تفاعل القارئ مع كتاباتي من هذه الزاوية أولا، ومن زاوية أخرى لأني عبرت صادقا في كل المحطات التربوية والسياسية والنقابية والحقوقية عن موقف جاد ومسؤول، وتحملت في ذلك مسؤوليتي الأخلاقية والفكرية ولا زلت كذلك…وهناك أيضا عامل إيجابي كبير وهو انخراطي في تأسيس مركز روافد، مع ثلة من أصدقائي الأدباء والشعراء والمفكرين، ولقد كان لهذا المركز دور كبير في إغناء تجربتي بالنصح والتصحيح، والتوجيه، والطبع..
ولن يفوتني في هذا الحوار ان أشكركم أولا سي حسام الناقد الواعد وسي أحمد بيضي الذي تابعني منذ البداية بالنشر والتشجيع، وصديقي حميد ركاطة الذي قدم كل يد المساعدة والنقد، وأخص بالذكر أيضا صديقي توفيق البيض الذي فتح أمامي باب النشر، وكيف كان يعيد معي تصحيح النصوص وتصويبها .. وشكرا لنقاد آخرين اهتموا بتجربتي: سي محمد عياش ، مصطفى داد وآخرون تناولوا انتاجاتي في منجزاتهم النقدية وهم كثر.. كل هذه المحاولات ما كانت لتعيش لولا هذا التعاضد وهذا التشجيع…
 
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأحد 20 أبريل 2025 - 23:21

حينما تتحول الجمعيات إلى أذرع انتخابية

الأحد 20 أبريل 2025 - 12:30

وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تشارك في معرض الكتاب ببرنامج غني يبرز إسهاماتها في الحقل الديني

الجمعة 18 أبريل 2025 - 23:19

رحيل الفنان المصري سليمان عيد عن عمر يناهز 56 عاما…

الجمعة 18 أبريل 2025 - 20:45

سيال: افتتاح جناح المؤسسات المعنية بحماية الحقوق والحريات والحكامة والتنمية البشرية والديمقراطية التشاركية

error: