رواية “الفسيفساء”، لعيسى ناصري، تحط الرحال بخيمة “مفتشية اللغة العربية” بخنيفرة

12٬313
  • محمد عياش (°)
احتضن “المركز الثقافي أبو القاسم الزياني”، بخنيفرة، مساء السبت 2 مارس 2024، لقاء مفتوحا آخر مع الروائي عيسى ناصري، احتفاء بروايته “الفسيفسائي”، من تنظيم “مفتشية اللغة العربية لخنيفرة”، ومشاركة النقاد ذ. سي محمد عياش، ذ. محمد العمراني، ذ. لحسن بوشال وذ. رشيد مسيد، وهو اللقاء الذي استغرق لما يربو على 3 ساعات، بحضور لافت من نساء ورجال التعليم، ومهتمين بالشأن الثقافي، وفاعلين في المجتمع المدني، حيث انطلقت أشغال هذا اللقاء بكلمة افتتاحية، ثم قراءات نقدية للمشاركين، ومناقشة الحضور، لتختتم بردود الكاتب عيسى ناصري، قبل الانتقال الى حفل توقيع الرواية المحتفى بها.
وقد رفع الستار على أشغال اللقاء بكلمة ذ. محمد شهبون، توجه فيها بشكره لإدارة المركز الثقافي، ولعموم الحضور والوجوه الثقافية والتربوية، كما للكاتب الروائي عيسى ناصري، مهنئا إياه بوصول روايته “الفسيفسائي” إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2024، فيما بيَّن ذ. شهبون أنّ “الفعل الثقافي ليس ترفا، بل هو فعل ينبغي أن يتحول إلى جزء من مسوّغات وجودنا على هذه الأرض، وإلى أداة قادرة على صناعة الفرق”، داعيا الجميع للانخراط في “كل فعل ثقافي جاد من أجل مقاومة التفاهة، لاسيما أن العصر الذي نعيشه حاليا لم يعد في مأمن من زحف مختلف أشكال الابتذال المدعّم بوسائل تواصلية رقمية جد متطورة، جذابة ومؤثرة”.

نظرية العماء ومفهوم التشتيت

في ورقته التقديمية المقتضبة بعنوان: “مدخلان ممكنان لقراءة رواية “الفسيفسائي”: نظرية العماء، ومفهوم التشتيت”، اقترح ذ. سي محمد عياش (مسيّر اللقاء)، على الحاضرين مدخلين ملائمين يمكن الاستئناس بهما في فكّ مستغلقات الرواية موضوع اللقاء، وهما “نظرية الكاوس/ الفوضى / العماء، ومفهوم التشتيت/ الانتشار الذي يقترن عند المهتمين بالنقد الحديث بالقراءة التفكيكية عند جاك ديريدا”.
وبالنظر إلى “الاستراتيجية الإرباكية لآليات القراءة المعتادة، وطابعها الفسيفسائي”، رأى المتدخل أن “قارئ رواية “الفسيفسائي” مدعو إلى التسلح بخلفية معرفية خصبة، وبآليات تحليلية متبصرة قادرة على مواجهة الرهان الإبداعي الذي يضعنا أمامه صاحبها عيسى ناصري”، رهان “يتوخّى صنع نص روائي فارق يجمع بين التاريخ، والفن، والفانتازيا، ويغرف من حياض الغموض، والإثارة، ويقلب طاولة التوقعات على قارئه المفترض دون تردّد، أو تخوف من العواقب الأدبية الممكنة لهذا الاختيار الفكري، والجمالي في آن واحد” .
من هنا، يرى سي محمد عياش، كيف أننا “لن نجانب الصواب إذا تسلحنا في قراءة هذا العمل التجريبي بما تقدمه لنا نظرية العماء من أفكار، وطرق معالجة لبعض الظواهر الغامضة، والمعقدة، وفي مقدمة هذه الافكار أن الظواهر الطبيعية، والإنسانية التي تبدو لنا فوضوية، وغير مترابطة تشتغل وفق علاقات، وآليات مضبوطة، ومتكاملة، تتبادل التأثير في ما بينها ولو كانت المسافات بين عناصر التأثير متباعدة”، كما يؤكد ذلك المبدأ المعروف ب”أثر الفراشة” (حركة جناحي فراشة في الصين يمكنها أن تؤدي الى وقوع إعصار في التكساس).
بالموازاة مع هذا التصور العام، يضيف ذات المتدخل، يمكن أن “يستعين القارئ بمفهوم التشتيت Dissémination  الذي يفيد أن أي نص أدبي مفتوح على تكاثر المعنى، وانتشاره بكيفية يبدو معها نظامه الداخلي عصيا على الضبط، والترويض، والتحكم”، وهذا “التكاثر الذي يتمرد على القواعد المتبعة يوحي باللعب الحر لكونه لا يتصف بقيود تحد من حريته ..إنه حركة متواصلة، ومتنامية بالقدر الذي تبعث المتعة لدينا، فإنها تخلق فينا عدم الاستقرار، وتفضي بالمعنى نحو الانتشار، والفيضان، والتفسخ” .
في أول مداخلة نقدية له، موسومة ب “تِقانات التقعير في رواية الفسيفسائي”، يرى ذ. محمد العمراني أن “مرور هذه الرواية إلى اللائحة القصيرة، لجائزة البوكر 2024 في الرواية العربية، لم يكن حدثا مفاجئا بالنسبة إلى الكثيرين من المتتبعين”، فهي رواية “تستمد فرادتها من اعتمادها العديد من التقنيات اللافتة يحتل ضمنها التقعير مكانة مخصوصة”، وإذا كان المقصود بالتقعير/ التجويف/ الكتابة الاندماجية – حسب العمراني- “كتابة داخل الكتابة، أو حديثا للرواية عن نفسها، فإننا عندما نقارب رواية “الفسيفسائي” نجد أن هذا المفهوم يتخذ لذاته مظاهر متنوعة منها الميتاسرد، والحلم، والمتاهية، والجينية، والكوديكولوجيا”.
بناء على هذا الطرح، يوضّح الناقد ذ. العمراني أن “تقنية الميتاسرد في رواية “الفسيفسائي” تتمظهر في اشتغال الرواية بالتنظير لألاعيبها: لدينا خمس روايات تؤطرها رواية كبرى ذات ملامح بوليسية”، وكلها “تتحرك وفق بنية متاهية، تشذيرية تجعل القارئ مطالبا بأن يجمع خيوطها المتشابكة في آخر سطر من الرواية. كأننا أمام علبة الدمى الروسية حيث الوصول إلى الدمية المرغوب فيها يقتضي منا المرور بعدة عمليات من فتح العلب الحاضنة بعضها لبعض إلى إن نصل إلى الهدف بعد سلسلة أحاسيس مثقلة بالبحث، والاستغراب، والإثارة، والتشويق”.
تقنية الحلم أيضا “تحضر بإيقاع متواتر داخل الرواية”، بحيث يكتشف القارئ، في نهاية المطاف، أن “أحلام الكاتب هي أحلام الشخصيات (الحلم عند شخصية أيدمون هو الحلم الذي يعيشه جواد الأطلسي). وإذا كان الحلم يزكي مظهر المتاهية المميز للرواية، فإن الجينية بدورها – يقول ذ. العمراني- تمدّ القارئ بإضاءة مهمة حول شجرة انتساب الرواية: عيسى الناصر هو ناصر العيسى”، وجائزة اتحاد كتاب المغرب بخصوص رواية “عمى الأطياف” ذات عام، تجد امتدادها في جائزة البوكر 2024 بعد وصول “الفسيفسائي” إلى اللائحة القصيرة لهذه الجائزة التي تخضع فيها الأعمال المتنافسة لمعايير انتقائية أدبية، وفنية جد صارمة.
هذا الملمح الجيني في الرواية يقود إلى “خاصية/ خصلة صرامة الكاتب في كتابة عمله، وهو ما تعكسه تقنية الكوديكولوجيا Codicologie  التي تجسدها- وفق قراءة العمراني- حاسة الانتباه إلى الأهمية الاستثنائية، والخطيرة للمخطوطات/ الروايات الثلاث المكتوبة من قبل جواد الأطلسي (الفتى الموري)، ونوال الهناوي (باخوس في العيادة) وأريادنا نويل (ليالي وليلي، من جهة، والقيام بعمليات تشطيبية مستمرة تخضع لها عملية الكتابة عند عيسى ناصري إلى درجة تغدو معها الرواية طرسا palimpseste ممهورا بالصنعة الفسيفسائية (اختيار القطع، ووضعها، أو إعادة وضعها في مواقعها المناسبة بمراعاة اعتبارات ذوقية رهيفة، وشروط هندسية دقيقة”.

توظيف الآليات السينمائية

أما الناقد ذ. لحسن بوشال الموسومة ب “توظيف الآليات الجمالية السينمائية في رواية الفسيفسائي”، فاشتغل بمظهر بصري على قدر كبير من الوظيفية في تعزيز البعد التجريبي عند عيسى ناصري. لكن، وقبل تعداد تمظهرات هذا الاشتغال البصري/ السينمائي روائيا، انطلق ذ. بوشال من تمهيد عام بيَّن فيه “أن السينما إذا كانت في بداياتها تعتمد على الرواية فإن الآية انقلبت اليوم بعدما أصبحت الرواية تستلهم تقنيات السينما في ضوء التطور الباهر الذي حققته تقنيا”. وفي هذا الإطار، ينبغي أن نميز – حسب ذ. بوشال- بين أربع آليات سينمائية تحضر داخل رواية الفسيفسائي باستثمار جمالي عال :
أ- الاعتماد على اللقطة المكبرة التي تهدف إلى التبئير على الموضوع المراد توصيله، ومثال ذلك: شخصية عياش في علاقتها بلغة الجسد داخل عيادة نوال (القيام بحركات غير عادية على مستوى الأصابع العشرة).
ب- إظهار عناصر الصورة المركبة، والمشهدية، وخير مثال وصف بيت جواد الأطلسي، وصف المطبخ حيث تبدو العناصر محددة وفق ترتيب منطقي، ومنسجم.
ج- استعمال اللقطة العامة، او الپانورامية خاصة في نقل الفضاءات العمومية. يبدو ذلك جليا في وصف قرية فرطاسة عبر مسح علوي شامل.
د-دينامية المشهد السينمائي المتمثلة في المزاوجة بين الوصف البصري، والوصف السمعي، وفي رصد الحركات، والأصوات بشكل متزامن، (وصف سيلينا لمشهد سباق العربات الخشبية).
ويختم الناقد ذ. بوشال مداخلته بالإشارة الخاطفة إلى وجود آليات سينمائية أخرى داخل نسيج الرواية منها “المونطاج” الذي يتوازى مع الفسيفساء بوصفها قطعا متناثرة تغدو منسجمة في آخر المطاف .
عموما، فإن رواية الفسيفسائي – بهذه المواصفات ذات المرجعية السينمائية – يمكنها أن تشكل مادة خصبة لعمل سينمائي متميز.

جماليات التشكيل الأسطوري

وتحت عنوان “جماليات التشكيل الأسطوري في رواية الفسيفسائي”، انطلق الناقد ذ. رشيد مسيد من “أن القارئ، وهو يضع بين يديه هذا الرواية لاكتشاف عوالمها، لاشك سيشعر بأنها عمل يزعزع القناعات، ويخلخلها”. إنها رواية “جمعت في نفسها ماتفرق في غيرها”. وانطلاقا من قولة الروائي جبرا إبراهيم جبرا “الرواية العظيمة هي التي توفق بين الأسطورة، وبين الواقع”، ومن فكرة أن الأسطورة تعبير عن اللاشعور الجمعي حسب يونغ، ومن تعريف الأسطورة بأنها حكاية جمعية متخيلة شخصياتها ذات طبيعة إلاهية، يسافر بنا ذ. رشيد مسيد في قراءته القيمة لرواية “الفسيفسائي”، مبينا “أن توظيف الأسطورة فيها يحضر على مستويين: عضوي، وجمالي”.
وكما هو متوقع، فإن “الشخصية الأسطورية التي ستحظى باهتمامنا هنا هي باخوس إله الخمر عند الرومان، ويقابله ديونيزوس عند اليونان. باخوس – داخل الرواية- يحضر بصورتين : صورة باخوس التمثال الرخامي هو مدار الأحداث، ومصدر معاناة عياش بعد اتهامه بسرقته، وقضاء عشر سنوات في السجن بسبب هذه التهمة. وصورة باخوس الخشبي بوصفه ديكورا في عيادة نوال .وعلى مستوى آخر، باخوس المسروق هو التمثال الجامد، الميت، لكنه يستعيد حياته من خلال شخصية “تهامي” الذي كان يحمل لقب باخوس من فرط تناوله للخمر”.
وهنا، ينبغي، حسب الناقد ذ. رشيد مسيد، أن “ننتبه إلى أن شخصية باخوس تتمظهر داخل الرواية بوجهين: وجه سلبي مرضي، وإجرامي يتجسد في فعل السرقة، وجريمة الاغتصاب، والقتل البشعتين. ويقابله وجه إيجابي يتجلى في العلاقات الغرامية/ الإيروسية لتهامي مع عدة نساء”، في المسار الأسطوري نفسه للسيرورة الروائية، يستحضر ذات الناقد “أسطورة هاديس، وبيرسيفوني باعتبارها تجسيدا للكمال الأنثوي، والذكوري معا (قوة العالم السفلي عندما تعانق قوة الربيع)”.
كخلاصة عامة، يرى ذ. رشيد مسيد أن رواية “الفسيفسائي” تجربة ناجحة في “الإدماج الفني للأسطورة بوصفها عالما تخييليا رمزيا يحمل في طياته كثيرا من علامات الواقع المعيش، وأبعاده الوجودية، لكن هذا التثمين النقدي لم يمنع الناقد من معاتبة الروائي عيسى ناصري على الاكتفاء باستلهام الأساطير الرومانية دون الالتفات إلى الأساطير المحلية، خاصة ذات المرجعية الأمازيغية”.
رهان على تمثيل الهوية
قبل فتح باب النقاش أمام الحاضرين، تناول الروائي ذ. عيسى ناصري الكلمة قصد التعبير عن سعادته بهذا اللقاء البهيج من جهة، وإضافة بعض الإضاءات حول تجربته الروائية بعد أن حظيت باهتمام نقدي كبير من جهة أخرى، حيث انطلق، في كلمته الموجزة، من قولة لفلوبير يعبر فيها عن أمنيته “أن لو خلقه الله كائنا لامرئيا كي لا يجد نفسه في وضع المجبر على تبرير الكثير مما جاء في ما يكتبه بعد انتقاله إلى القراء”، وبهذا المعنى، يقر الروائي ذ. عيسى ناصري “أن عمله انتهى عند وضع نقطة النهاية في آخر سطر، وكل ما سيأتي بعد ذلك لن يكون إلا ثرثرة. والثرثرة هنا تعني صاحب العمل، لا القراء طبعا”.
وهذا ما عكسته تدخلات الحاضرين التي جاءت موزعة بين استفسار الكاتب، والنقاد عن قضايا إبداعية عميقة (علاقة الراوية بالأسطورة، ومدى انفتاحها على الواقع/ علاقة الرواية بفكرة التخطيط المسبق للحصول على جائزة / علاقة الرواية بطقوس الكتابة/ علاقة الرواية برهان التجريب)، وبين إغناء القراءات النقدية بإضافات وجيهة (الرواية ولعبة التفخيخ/ الرواية، وسؤال الهوية المغربية/التاريخ بوصفه منبع إلهام للروائي المغربي/ ثنائية الطبيعة ، والثقافة داخل الرواية/البنية الدائرية / التخييل الروائي / تعدد المداخل القرائية للرواية / لعبة الأقنعة…
ثم تبادل الأدوار بين الشخصيات في الرواية/مدى احتضان الرواية لمقومات الرواية البوليسية/رواية الفسيفسائي، وكثافة الاشتغال على الجوانب النفسية/ حدود تجسيد ملامح، وخصائص الرواية المغربية في رواية الفسيفسائي/ نقط الاتصال، والانفصال بين رواية “الفسيفسائي” لعيسى ناصري، وبين رواية المغاربة لعبد الكريم جويطي/ رواية الفسيفسائي ورشة إبداعية حرية بالاقتداء لدى كتاب الرواية عموما، والناشئين منهم بالخصوص).
في ردوده السريعة على تدخلات الحاضرين بيَّن الكاتب أن “هذه الرواية لم تكتب من أجل الحصول على جائزة. هي رواية راهنت على تمثيل هوية المغربي، وإن كانت – بشكل مصغر- تعكس صورة كاتبها عيسى ناصري”. وبما أن الكتابة عنده انعكاس لهذا الزمن المتشظي، والمتصدع اجتماعيا، وقيميا، وإنسانيا من جهة، ومغامرة تجريبية من جهة ثانية، فإن ذ. عيسى ناصري – على حد تعبيره- وإن بدا متأثرا بالروائي حيدر حيدر، فإنه “لم يجد بدا من اجتراح أسلوبه الشخصي في كتابة رواية ذات بنية أفعوانية يبدو فيها كل كاتب داخلها فسيفسائيا: جواد- نوال – ارديانا- تهامي الاسماعيلي- ناصر العيسى- عصام الشبيهي)”.
تتويجا لهذا المحفل الأدبي الجميل، والمفعم بمشاعر الحماس الزائد لدى الحاضرين لقراءة الرواية، انتقل الجميع إلى حفل شاي، وعلى هامشه تكفل الكاتب بتوقيع روايته التي حظيت بإقبال عدد كبير من نساء، ورجال التعليم على حيازة نسخ منها .
مبادرة ثقافية، وتربوية نبيلة بهذا القدر الكبير من الدفء الإنساني، والجدوى القرائية تستلزم التقدم بالشكر الغامر الى كل من ساهم في إنجاحها تنظيما، وتنشيطا ،ومشاركة، وحضورا، وكل مبررات الاعتراف بأهمية هذا اللقاء عديدة إلا أن مبرر توثيق الصلة بالكتاب الورقي، و تعزيز فعل القراءة الواقعية للإبداع الاصيل في ظل زحف العوالم الإفتراضية يبقى هو المبرر الاعظم للسعادة التي نجنيها من وراء حضور مثل هذه الأنشطة الثقافية، وتوثيق محتوياتها بكل الوسائط المتاحة سواء أكانت خطية تحريرية، أم تقنية بصرية.

ــــــــــــــــــــــ

(°) ناقد، فاعل مدني وتربوي
error: