الدعوة إلى مقررات جمالية خاصة باللغة العربية بالسلك الإعدادي
أحمد بيضي الإثنين 26 أغسطس 2024 - 20:19 l عدد الزيارات : 4175
محمد العمراني (°)
تقديم
تنطلق هذه الورقة من غضب يخالجني شخصيا، منطلقا من تجربتي في التدريس، لمدة خمس عشرة سنة. لا أزعم أنها مدة كافية لتصور بيان صارخ عما أصاب الدرس الأدبي أو ديداكتيك تدريس اللغة العربية بسلك الإعدادي، لكنها مدة كافية للخروج بحدوس من أجل اجتراح مدخل جديد لتدريس مادة اللغة العربية، يعيد زرع الحياة في المقررات الجافة والمؤلفات التي لا تناسب مستوى النشء.
من هنا كان المدخل صراخا حماسيا، لكنه يعيد الاعتبار لجمال اللغة العربية والغاية في تعلمها وحبها؛ انطلاقا من المسؤولية الملقاة على عاتقي، ألا وهي رسالة التدريس. إن الهدف الذي أنشده هو إضاءة الذات بطاسين خاص؛ سراج يحارب النمطية والتكرار والضجر والسكون وحراس التخلف الذين بدلوا النجاح بالفشل.
إنها صرخة مدرس من الهامش يدعو إلى إعادة النظر في المقررات، وهي دعوة للممارسين ليكونوا أكثر جرأة وحذرا من المزالق. ذلك أن تودوروف منذ مدة أخبر أن الأدب في خطر، وأن الأفكار أيضا خطيرة حسب إدغار موران.
إنه هدف يبتغي فتح ورشة إبداعية تدريسية، نحمل من خلالها مطارق الجمال، ونمرق عن الجماعات الدوغمائية.
كانت شرارات الصراخ منذ مدة، حين أعددتُ بحثا تدخليا رفقة مجموعة القصاصة بمريرت (محمد العمراني، إسماعيل هواري، هشام دادوش)، لصالح أكاديمية بني ملال خنيفرة 2021 معنونا ب: الفيلم التربوي؛ مدخل لتفعيل التربية الجمالية في المدرسة المغربية، كانت فكرة القصاصة فكرة جمالية محضة، جمعت بين أحضانها أساتذة مختلفي التخصصات واللغات والمشارب، هدفت إلى تتبع أثر الجمال في السينما والمسرح والقصة وسائر الفنون، وهي الآن تجمع خمسة باحثين.
واقع مقررات اللغة العربية بالإعدادي
واقع النص القرائي وبدائله
إن الملاحِظ للنصوص القرائية لا يكاد يلفي إلا نصوصا قليلة تستحق القراءة، إذ إن الأفكار والغايات والمضامين طغت كثيرا؛ ما جعل واضعي المقررات حراسا أمناء يقدمون الأدب إلى المسلخ، لقد تمت التضحية بالنصوص الجميلة، فصار الأدب قربانا، فالخوف الذي لازم السلطة من التعليم لردح، خاصة ما تعلق بتعليم الفلسفة والتاريخ، وما نتج عن ذلك من حقب وجروح؛ جعل الحراس حذرين، لكنهم أخطأوا البوصلة مرة أخرى، إذ إن محاربة العنف والتطرف والخندقة الإيديولوجية، لا تكون بجعل التلميذ والمدرس معا خزانين لمعلومات كثيرة، بل لغايات ومقاصد أسهب بورديو وفوكو في الحديث عنها وتفكيك خطابها (1).
إننا بالجمال والمناعة الفنية والتوازن النفسي يمكننا الحصول على تلميذ متذوق عال، حساس، وفنان، ولا خوف على مستقبله أو مستقبل الوطن، إن “علاقة المنظومة المدرسية المغربية بالجماليات غامضة، حتى لو كانت التربية الفنية مقررة في الابتدائي ولها كتابها المستقل، لكن أغلب المدرسين ينظرون إليها مضيعة للوقت” (2)؛ قد يعود السبب لغياب التكوين الفني للمدرسين وعملهم المزدوج( عربي، فرنسي، ومواد أخرى). كما أننا نلاحظ أمرا أخطر وأدهى وهو توقف مراكز تخرج أساتذة التربية الفنية والموسيقية بالمغرب، علما أن الفن والجمال ضروريان في الحياة فهذا التلميذ مصطفى أحانو من ذوي الهمم العالية يناشد جميع الفاعلين قائلا: ” عالجوا ذوي الهمم بالفن، فما أتعسنا اليوم وقد غابت التربية الموسيقية والتشكيلية بمدراسنا!” (3).
إن نصوصا قرائية كثيرة في مستوى الإعدادي لا ترقى كما قلنا حتى لتكون نصوصا صحفية ولو كانت غايتها فنية. فهي وظيفية أي نعم، لكن خطرها قد يكون شاملا مدمرا للأجيال، فهي تحاول تبسيط الأفكار واختزالها على شموليتها، إن “المعرفة الشمولية خطر على الفرد والتلميذ خاصة” (4)، فهي نصوص محملة بقيم خاصة (دينية، وطنية، حضارية، اجتماعية اقتصادية، سكانية، فنية)، إن الخطر ليس في القيم، فهي ضرورية لكن النص حين يطغى مضمونه على شكله وجماله، آنذاك يكون الخطر، بالتالي وجب مساءلة المنهاج، والأيادي التي تحركه وتحاول قتل كل ما هو جميل.
ملاحظة بسيطة لطبيعة النصوص التي يكتوي بلظاها المتمدرس النشء، تكشف عن غرابة الأدب الجديدة. وإذا ما كان تودوروف من قبل ناقش أن الأدب في خطر، بالنظر لمناهج تدريسه وليس لطبيعته، إذ إن “المراحل التي يدرِّس بها المعلمون الأدب جافة” (5)، فإن الخطر يمتد متغولا ممارسا سلطة النصوص على التلميذ وسلطة مؤلفين لا طاقة له بهم ( هيجل، عبد السلام بنعبد العالي…)، نصوص على سبيل المثال لا الحصر من قبيل: (العولمة والهوية، والطبيعة بين الأمس واليوم، والتلوث المائي، الإسلام وحقوق الإنسان، الأطفال في عالمنا المعاصر المهاجرون ومشكلات الاندماج، المجال الأخضر، مرض العصر، الدينار المرابطي، الاستنساخ، القوة الاقتصادية…)، لا تقدم أي أدب للتلميذ، وتبقى قراءتها وظيفية فقط، بل إنها تناقض توجهات مديرية المناهج والمقررات التي أولت للقراءة دورا في مساعدة المتعلم على اكتشاف “عالم الأدب والثقافة والفكر” (6)، ناهيك على تواجد نصوص شعرية هي الأخرى لا ترقى لذائقة المتلقي من قبيل (الكادح، الله في البؤساء…) نصوص تقريرية جافة، كأنها كتبت في سياقها تحت الطلب.
أما درس المؤلفات فحدث ولا حرج، إذ كيف يعقل أن يدرس النشء رواية محاولة عيش لمحمد زفزاف؟ أو أساطير معاصرة ( نص مسرحي) لمحمد الكغاط؟ نصوص سردية ومسرحية أخرى مقررة في مستوى الثالثة إعدادي، شتان بينها وذائقة الفتيان، بل تفوق مستواهم بكثير، كيف يُطلبُ من التلميذ أن يقرأ رواية (واقعية)، مباشَرَةً بعد قراءته نصوصا سردية مسترسلة؟ ثم كيف يقرأ التلميذ مسرحية معقدة بالأسطورة والواقع والرمز، لا يفهمها، ما بالكم بتمثيلها وتحليلها؟
إننا نصرخ عاليا كفى عبثا. فما هكذا يوردُ الأدب !
أليس لدينا نصوص جميلة، أليس لدينا أدب رفيع ينمي الذوق والأسلوب والفصاحة والأسلوب والقيم الجمالية، بل ويمرر أفكارا في ثوب بلاغي رائع؟ لسنا نردد مع الجاحظ أو الجرجاني مقولتهما ونظمهما، ولكن صدقا فالعبرة بالكيف لا بالقول، وإن المعاني موجودة في قارعة الثورة المعرفية.
إن الأمر بسيط؛ وهو أن يعكف واضعو البرامج والنصوص على اختيارات من صميم الممارسة المهنية لأساتذة درّسوا وفهموا سياق المعرفة، لأجل ذلك فالأدب الرفيع الذي يناسب النشء كثير في مشرقنا ومغربنا وعالمنا (الترجمة)، يمكن في هذا الصدد أن نضع نصوصا لجبران خليل جيران والمنفلوطي والرافعي والزيات وطه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة ومحمد الصباغ وخناثة بنونة وعبد المجيد بنجلون… والكثير من النصوص القصصية المائزة عالميا لغة وموضوعا.
في مسألة المؤلفات نقترح أن يكون المؤَلَّف خيالا علميا، أو رواية بوليسية – أغاثا كريستي، أو كونان دويل- تعلم النشء أشياء كثيرة وتفتح عقله على مدركات علمية بطريقة أدبية جميلة، كما يمكن أن يدرس الطفل في مرحلة الثالثة إعدادي رواية من الأدب الرفيع أو مترجمة عالمية أو رواية يافعين معروفة ومتفق على جدواها. وهنا فرجال التعليم أهل لكل كتابة خاصة من هذا النوع.
الأمر نفسه في اختيار المؤلَّف المسرحي، إن مسرح الطفل والفتيان في المغرب موجود، فكيف يغفله الواضعون؟ كأن ليس لدينا كتّابا للنشء!
في هذا الصدد يجب تنظيم مسابقة تشجيعية لمؤلفي مسرح الشباب ويتم من بينها انتقاء نص يوائم ميولات تلاميذ الإعدادي، وأفكارهم ويراعي تطور المعرفة التكنولوجية عندهم، كما يراعي تطور خيالهم وصور التجريد التي يكونونها، إضافة إلى تعليم النشء كيفية التمثيل والإرشادات المسرحية، وهو أمر نلفت انتباه وزارتنا وواضعي مقرراتنا إليه، إنه مسرحة النصوص من أجل فهمها، فحبذا لو تم وضع نصوص وظيفية مسرحية أو ممسرحة، تمرر القضايا والقيم، وقد نلجأ في مستوى الثانوي التأهيلي إلى مسرحة نصوص الفلسفة والبلاغة والمواقف النقدية؛ فيكون الهدف متعددا ( فهم ولعب وتمثيل وفن وقيم).
واقع الدرس اللغوي
إن استعمال اللغة سابق على تقنينها، فقد نشأت الحاجة للتقنين عندما بدأت مسارات الاستخدام اللغوي تنحرف ومن ثم جاءت القواعد” (7)، بهذا المعنى فالدرس اللغوي لا يدرس في ذاته ولذاته بمنطق بنيوي سوسيري، ولكن لغاية تواصلية، تداولية، لقد تعددت طرق التدريس لهذا العنصر؛ ما بين استقراء واستنباط واقتضاء، واستجواب وتكامل، وتنشيط، واستثمار لنص وظيفي كما هو الحال في البرامج والتوجيهات المغربية في هذا الشأن (8)، إن ما يهمنا هو استبيان كنتُ قد قمت به سابقا يتعلق أساسا بالدرس اللغوي أثبتتْ نتائجه أن كثيرا من التلاميذ يرفضون هذا المكون؛ لأسباب تعود بنظرنا إلى الدروس الجافة سواء في الصرف أو الإعراب. فنحن لا تخفى علينا ما لهذين العنصرين من أهمية، لكنها وسيلة لغاية، ومتى لم تتحقق الغاية صارت الوسيلة مرفوضة، إن القواعد الصرفية والإعرابية لا تسمن ولا تغني من جوع إلى اللغة العربية، فهل يُطلبُ من التلميذ مثلا خارج فصل اللغة العربية أن يصرّف فعلا أو يعرب اسما؟ قطعا لا.
إن اللغة العربية مثلا في الخليج العربي تطورت طرائق تدريسها، فهم لا يدرسون القواعد بناء على الشواهد الشعرية أو الأثرية، بل على شواهد واقعية معروفة وملموسة في بيئة الطفل. أما نحن فنقترح لغاية حب اللغة العربية والتمكن منها أن يُشبعَ التلميذُ بالحكاية والمسرح والقصة والشعر واللعب والسينما، والمداخل الفنية الذوقية التي ترسخ في الذاكرة مرافقة مع شكل فني.
إن السليقة والطبع كانا سببا في انتشار العربية واكتسابها وبلاغتها، أما التقنين والقواعد (على الرغم من فائدتهما)، فهما حاجزان ضد الانتشار والتطور والبيان.
تغدو دروس الصرف والتركيب ثقيلة جدا على المتعلم، فنحن نرى أن تلميذ الأولى إعدادي مكرهٌ على تصريف أفعال على تنوعها، في المقابل كانت دعوتنا منذ مدة طويلة إلى الاقتصار على بعض دروس الإعراب، وقد كانت فعلا استجابة ولو نسبية لتقارير مجالس الأقسام حيث تم حذف بعض دروس الصرف في مستوى الثالثة إعدادي، من قبيل (الإعلال والإبدال والتصغير…).
يتبقى لنا في هذا السياق مكون التعبير والإنشاء الذي نراه يخدم اللغة العربية بالنظر إلى تمريس التلميذ على مهارات مختلفة، على الأقل فهو فرصة للتعبير والطلاقة والاستفادة من المقروء، كما هو مناسبة للكتابة والإنشاء في مهارات متنوعة، نراها تراعي تطور التلميذ وبناء معارفه في إطار يراعي مراحل النمو ومناسبة المهارات الحسية والتجريدية التي بينها بياجي وفريقه في المركز العالمي للابستيمولوجيا التكوينية.
على سبيل الختم
إن التربية الجمالية مدخل مناسب يتيح لمادة اللغة العربية أن تعود لألقها؛ عبر توسيع قاعدة التواصل بها، ذلك لا يتحقق إلا بإيلاء المقررات عناية مختصين بأدب الفتيان وآخرين من ابستيمولوجيا التربية، عبر اقتراح نصوص أدبية ماتعة، وأعمال شعرية وسردية ترفع من ذائقة التلميذ، وتناسب مستواه، وتساعده على الإبداع والرقي بشخصيته ومخيلته، واستدامة مواطنته وانفتاحه على الآخر. وهو أمر تسهم فيه مادة اللغة العربية بالتوازي مع الأنشطة في الحياة المدرسية.
الهوامش
Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 144.
Hicham BELHAJ, De l’importance de l’Education esthétique à l’école, REVUE EDUCATIVE AGAY, N8 – 2022 P 8- 9
مصطفى أحانو، محمد العمراني: أنا فنان، المسابقة الجهوية لفن الخطابة باللغة العربية، صنف ذوي الهمم، الخميس 31، مارس 2022.
إدغار موران: تربية المستقبل، تر: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2002 ص 15.
تزيفيطان طودوروف: الأدب في خطر: تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2007
مديرية المناهج والحياة المدرسية: البرامج والوجيهات التربوية الخاصة بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، مادة اللغة العربية، غشت 2009، ص 20
رشدي طعيمة: مناهج تدريس اللغة العربية بالتعليم الأساسي، القاهرة، دار العربي، 1998، ص 61
الوحدة المركزية لتكوين الأطر: ديداكتيك مادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي، يونيو 2009، ص 18
المراجع
بالفرنسية
Hicham BELHAJ, De l’importance de l’Education esthétique à l’école, REVUE EDUCATIVE AGAY, N8 – 2022 P 8- 9
Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 144.
بالعربية
إدغار موران: تربية المستقبل، تر: عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 2002 ص 15.
تزيفيطان طودوروف: الأدب في خطر: تر: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2007
رشدي طعيمة: مناهج تدريس اللغة العربية بالتعليم الأساسي، القاهرة، دار العربي، 1998، ص 61
مديرية المناهج والحياة المدرسية: البرامج والوجيهات التربوية الخاصة بسلك التعليم الثانوي الإعدادي، مادة اللغة العربية، غشت 2009، ص 20
مصطفى أحانو، محمد العمراني: أنا فنان، المسابقة الجهوية لفن الخطابة باللغة العربية، صنف ذوي الهمم، الخميس 31، مارس 2022.
الوحدة المركزية لتكوين الأطر: ديداكتيك مادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي، يونيو 2009، ص 18