إنها "تبوريدة" مغربية بامتياز تتجاوز فرحة التراث لتصبح مصدر معاناة يومية لا تنتهي.
11٬738
مشاركة
محمد رامي
تكثر مواسم التبوريدة في مختلف مناطق المغرب، حيث يتباهى الفرسان بإبراز خبراتهم في هذا التراث الأصيل والقديم الذي ورثوه أبًا عن جد، وعملوا على الحفاظ عليه من الاندثار. فتراها الأسر المغربية تحج إلى هذه الساحات للاستمتاع بمنظر الخيول تسابق الريح والفرسان يطلقون العنان لصرخاتهم ويتفننون في إطلاق الطلقات من بنادقهم في وقت واحد وبشكل متناغم.
لكن هناك «تبوريدة» من نوع آخر نعيشها بشكل يومي ولا ترتبط بفصل دون آخر، تبوريدة لا تحتاج إلى مواسم خاصة، فضاءات، أو مواقيت معينة.
تبوريدة تجعل المواطن يضع يده على قلبه من هول الطلقات المصوّبة في اتجاهه، والتي تصيب جيبه وتدخله دوامة الحاجة والاقتراض، وسياسة انتظار حلول آخر الشهر ليطلع بحسرة على ما تبقى من دراهم من أجره الشهري الضعيف أصلًا!
هكذا يجد المواطن المغلوب على أمره نفسه في مواجهة تبوريدة من نوع خاص، ليست للفرجة، فلا مكان للفرجة هنا، فـ«المبورد» هنا هو الأسعار وغلاء المعيشة.
«المبورد» هو ذلك المشغل الذي يمتص دماء العاملين والأجراء، ويمعن في إذلالهم والتربص بهم للإيقاع بهم، وحتى إن اعتقد الأجير أنه إذا بذل جهدا فوق اللازم سينال التقدير، فإنه يتعرض لأبشع استغلال.
«المبورد» هنا هو طاحونة القروض التي لا تبقي من «الخلصة» آخر الشهر إلا النزر القليل!
«المبورد» هنا هو العبء الضريبي، والتباين الطبقي، والمضاربات العقارية التي اشتعلت نيرانها دون أن تتدخل الدولة لحماية المغلوبين على أمرهم.
«المبورد» هو من تملك الأراضي وألهب أسعار العقارات بزيادات صاروخية دون أن يتدخل أحد لوقف هذا النزيف.
«المبورد» هو من انتعشت مشاريع السكن الاقتصادي على يديه، محولًا المشروع إلى مساكن أشبه بعلب لتكديس العائلات.
أليست هذه تبوريدة من الطراز العالي؟
أليس هؤلاء «فرسانًا» من نوع خاص تمكنوا بدهاء من الاستحواذ على السوق في فترة قياسية وبمسميات مختلفة؟ نسجوا بعدها شبكة عنكبوتية تتصيد الفرائس المغلوبة على أمرها، والتي لا تجد ملاذًا آخر غير التوجه نحوهم رغمًا عنها.
الغريب في الأمر أن لكل واحد ميدان تبوريدته، فمنهم من اختار العقار حيث وجد من يسهل له طريق «التبورد» على المواطنين.
ومنهم من اختار المواد الغذائية والخضر، وفتح الباب على مصراعيه لبعض سلاسل الإنتاج تصول وتجول بين جيوبنا وموائدنا.
ومنهم من اختار صحة المواطنين حيث المريض مجرد مبلغ مالي في حساباتهم البنكية، واستثمر في المصحات الخاصة حيث منطق الدفع قبل العلاج والنوار والشيكات الموقعة على بياض.
وآخرون استحوذوا على قطاع الطاقة ليغرفوا منه ذهبًا، ومنهم من فضل مياهنا، والبعض الآخر اختار تنقلاتنا، ومنهم من أخذ قليلًا من كل هذا وذاك وجمع كل ما يمكنه من التبوريد «المزيان»… واللائحة طويلة.
المهم، إذا كانت للتبوريدة مواسمها، فإن في بلادنا من «استحلى» اللعبة وأصبح «يتبورد» علينا طيلة السنة. لم لا، وليس بيننا من يوقف هؤلاء «المتبوردين» رأفة بالمواطن الذي أرهقته حوافر خيول المتبوردين، فأصبح غير قادر على تحمل المزيد، خاصة وأنه لا مؤشر في الأفق يبشر بقرب اقتصار التبوريدة على الأماكن المخصصة لها أصلًا.
إنها “تبوريدة” مغربية بامتياز، تتجاوز فرحة التراث لتصبح مصدر معاناة يومية لا تنتهي.