وضعت الجزائر نفسها في منزلة “الرابع المرفوع”! وهي صيغة لتوسيع مبدأ “الثالث المرفوع”، الذي يعتمده المنطق والفلسفة الأرسطية، ويسميه آخرون “مبدأ قانون الوسط المستبعد”، ومعناه “أن كل قضية إما هي أو نقيضتها صحيحة، ولا توسط بينهما”. في المنطق الدبلوماسي، تكون الاختيارات بين ثلاثة تصويتات:
المعارضة،
المصادقة،
الامتناع.
الجزائر لم تعارض ولم تمتنع ولم توافق، بل اختارت “الرابع المرفوع”!
ولم تكن تلك هي نقطة الغرابة الوحيدة، التي تترجم عزلتها وسوء فهمها مع الحاضرين في مجلس الأمن، بل كان هذا الموقف الشاذ للجزائر، عند التصويت على القرار 2756 الخاص بالصحراء المغربية، تتويجًا لسلسلة من المواقف التي أكدت عزلتها وسط الأعضاء الـ15 في مجلس الأمن.
العزلة الأولى: أن تجد نفسها وجهًا لوجه أمام روسيا، حليفها الجيوستراتيجي، فقد أعلنت موسكو على لسان مندوبها الدائم أنها عارضت مقترحي الجزائر حول توسيع مهام “المينورسو” لتشمل حقوق الإنسان، ومقترح العودة إلى ما قبل 2007 كي لا تكون طرفًا في النزاع، وقال مندوبها السيد فاسيلي نيبينزيا: “رفضنا مقترحات الجزائر لأننا نرى أن تلك المقترحات لا تدخل ضمن اختصاصات المينورسو. ونريد حلاً يرضي جميع الأطراف”. وهو رد واضح على الجزائر، وباسمها لا غبار عليه.
ولعل ذاكرة النظام العسكري قصيرة للغاية، فهو ربما نسي أن الولايات المتحدة عجزت، أيام كوندوليزا رايس وشقيقتها ممثلة أمريكا في المجلس، عن فرض القرار 2099 الخاص بتوسيع مهام المينورسو، وهو الموضوع الذي كان جلالة الملك قد رد عليه بحزم وقوة، في رسالة قوية إلى الرئيس باراك أوباما، أيام الضغط الذي كانت تقوم به مجموعة منظمة كيري كينيدي. بل لعل النظام نسي أن وفدًا مغربيًا رفيع المستوى ضم كلاً من المستشار الملكي الطيب الفاسي الفهري، ووزير الخارجية والتعاون سعد الدين العثماني، ومدير إدارة الدراسات والمستندات محمد ياسين المنصوري، زار موسكو في خميس 12 أبريل 2013، وعرض على قادة روسيا حيثيات موقف المغرب الرافض لتوسيع صلاحيات “المينورسو”. الوفد المغربي أبلغ روسيا “رفض المغرب الحاسم لأي توسيع لصلاحيات “المينورسو” لتشمل حقوق الإنسان، أو لأي مراقبة دولية لحقوق الإنسان في الصحراء”. وسلّم الطيب الفاسي الفهري، في السياق ذاته، رسالة إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعثها الملك محمد السادس إلى الرئيس فلاديمير بوتين حول “التشاور المستمر بين قائدي البلدين، وإرادة تطوير العلاقات الثنائية وتعميق وتوسيع الشراكة والتشاور السياسي”، وفق تصريحات المستشار الملكي للصحافة.
وتزداد غربة الجزائر أمام روسيا عندما نتذكر ما سبق أن صرّح به الرئيس عبد المجيد تبون، أثناء زيارته إلى موسكو في يوليوز 2023، حين زلت قدم الرئيس المترنح وحاول التو هيم بأن وصوله إلى مجلس الأمن هو ثمرة عمل ومساندة من روسيا، وهو خطأ جسيم، لكنه يكشف عن إرادة قصر المرادية في محاولة جعل هذا الوصول امتدادًا لوجود روسيا في مجلس الأمن، ووضع الحافر على الحافر على مستوى الخيارات الدولية…
العزلة أمام الحليف الثاني موزمبيق كذلك: فقد ارتأى الحليف الروسي أن يمتنع، كما أن الحليف الإفريقي الموزمبيقي اللامشروط اختار أن يصطف مع موسكو، وليس مع الجزائر، بالتالي فقد أفردت الدولة الجارة إفراد البعير المعبد!
العزلة الكبرى، أمام مجلس الأمن: وهي عزلة في الواقع اتخذت مظهر الفخ الذي وقعت فيه عندما اعتبرت بأنها قادرة على تغيير الدينامية الحتمية التي دخلتها القضية والاحتضان الدولي المتزايد لها. فقد وجدت نفسها وجهًا لوجه مع مجلس الأمن، وهو ما وقفت عليه الدبلوماسية المغربية، كما ورد في بلاغ الخارجية: “عدم المشاركة هذه تدل على عزلة موقف هذا البلد داخل مجلس الأمن والمجموعة الدولية عموماً”.
العزلة مع المناخ الدولي العام، بحيث إن الجزائر وضعت نفسها على هامش الدينامية الدولية، لا سيما وقد كان القرار الصادر، أول أمس، قد نوه “بالزخم الأخير” وطالب بشدة “بالبناء على ذلك”. ونحن لا نبني إلا على أساس متين نثق فيه!
التبني الكامل لموقف المغرب في ربط العملية السياسية والمسلسل السياسي بوقف إطلاق النار، وذلك عبر تنصيص القرار على “دعوة مجلس الأمن الأطراف الأخرى لتفادي الأفعال التي قد تقوض العملية السياسية”. وهو الربط الذي كان قد واجه به المغرب المبعوث الشخصي للأمين العام السيد ستيفان ديميستورا، عند إشهاره اللاءات الثلاث، وفي قلبها: “لا عملية سياسية جدية في وقت ينتهك وقف إطلاق النار يوميًا من قبل ميليشيات البوليساريو”!..
في الواقع، كل عنصر عزلة هو في الوقت ذاته سبب للتناقض عند الجيران… ولعل أبرز تناقضاتهم: هو أن يدعي نظام الجيران “الدفاع عن الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن وجهود الأمم المتحدة”، ويرفض في نفس الوقت دعم هذه الجهود ويستمر في التشبث بمنطق العرقلة.
التناقض الثاني هو في طريقة التعبير عن ذلك، بحيث إن عدم المشاركة تعني في أدبيات الأمم المتحدة أن البلد يعتبر نفسه معنيًا مباشرة بالموضوع ولم يحصل فيه على ما يريد!
لم يكن موقف الجزائر، وهي داخل – خارج مجلس الأمن، هو الصورة الوحيدة عن عزلتها وارتباكها الدولي المشهود، بل يمكن إضافة طريقة التدخل التي اعتمدها ممثل الجزائر في مجلس الأمن، وهو يستعد للمغادرة بعد شهور قليلة. فقد صدق أنه قوة ضاربة يمكنها أن تفرض على مجلس الأمن وحاملة القلم فيه، ما يشاء من مضامين، وأبدى غضبة ضرية على واشنطن لأنها تركتها تنتظر نص القرار، وفيه التعديلات التي جاء بها.
ختامًا، لا بد من التأكيد أن المضامين الشاملة للقرار استجابت للاءات الثلاث للمغرب:
- لا حل إلا الحكم الذاتي.
- لا بديل عن الموائد المستديرة بمشاركة الأطراف المعنية.
- لا مسلسل سياسي سليم مع تواصل عمليات إطلاق النار من طرف ميليشيات البوليساريو.
ونعتقد بغير قليل من الجزم، أن البصمة الفرنسية كانت حاضرة في القرار ولعلها تجلت أكثر في الإضافة الثانية أو التطور الثاني، الذي يفيد أن هناك تطورات إيجابية لا بد من البناء عليها، وهو نفس المضمون الذي تم التعبير عنه من طرف مندوب فرنسا، الذي أعاد تأكيد الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه…
تعليقات
0