ظل «المنفذ إلى الأطلسي»، مقولة هيكلية في فهم الصراع على الأقاليم الجنوبية، ومنبع الاستفهامات التي تعززت لدى أطراف النزاع، منذ أيام الاستعمار الإسباني. بل لعله تحول إلي نقطة تمركز مرضية لدى الجيران، والمدخل الإجباري في فهم تصرفاتهم وقراءة تحركاتهم وفهم عقيدتهم في تدبير العلاقة مع المغرب نظاما وكيانا.
لقد أدرك الجغرافيون والمؤرخون المتتبعون للوضع السياسي منذ بداية استقلال، بأن الجزائر، تجد نفسها، بدون بحر، اللهم إلا من شريط ساحلي متوسطي، هو عبارة عن بحيرة، إذا ما قورن مع الزرقة المترامية الأطراف للأطلسي، وهي تهم الجزائر الشمالية منها، في حين أن باقي البلاد الشاسعة وساكنتها تعيش تحت حصار جغرافي بدون منفذ على الأطلسي.
في المقابل، يطل المغرب على بحرين، أحدهما المحيط الأطلسي بجغرافيته الزرقاء الذاهبة عميقا في غرب العالم، وهو ما يعطي للمغرب شعورا متناميا بالحرية، مقابل الشعور الملازم للجزائر بوجودها تحت الحصار، الذي زاد من حدته وعنفه الحصار السياسي المضروب على الشعب الشقيق شرقا (انظر كتاب العروي الأخير).
خارج هذا المعطى القائم، أنتجت نخبة الجزائر عقيدة لا واقعية، مفادها تارة، أن الجزائر هي .. «بروسيا» الإفريقية. وهي تارات أخرى »يابان إفريقيا«. وهي العقيدة التي طورها عبد السلام بلعيد، أبو الصناعة الجزائرية، (تقلد العديد من المناصب السامية منها رئيسا للوفد الجزائري المفاوض مع الطرف الفرنسي بخصوص ملف الطاقة، مديرا عاما لشركة «سوناطراك» (1964-1965)، وزيرا للصناعة والطاقة (1965-1977)، وزيرا للصناعات الخفيفة (1977-1979) ورئيسا للحكومة (1992-1993).
والعقدة في حقيقتها موروث استعماري باعتبار أن الجزائر الفرنسية كانت تعتقد بأنها ستبقى إلى الأبد، وبالتالي عملت على ضم الصحاري كلها في مشروعها، ومن تم لا بد من قص صحراء المغرب حتى يتحقق حلم الأطلسي.
مع إعلان استرجاع الصحراء، تجددت هذه العقدة بشكل بارز، وبلغت أبعادًا لا يمكن تصورها، وهنا تعود الذاكرة إلى 14أكتوبر 1975، اليوم الذي نشرت فيه يومية «المحرر»، وثيقة كنزا كشفت عن المؤامرة. وهي وثيقة أعلن عن وجودها القائد عبد الرحيم بوعبيد أمام اللجنة الإدارية، وكشف معها «المؤامرة الجهنمية»، كما سمتها المحرر، التي تحاك ضد المغرب».
هذه الوثيقة هي بيان تم توجيهه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، السيد كورت فالدهايم، موقع من «مجموعة لكويرة»، وهم من بين عناصر البوليزاريو المؤسسين، والذين فروا إلى دكار، العاصمة السينغالية، بعد مجزرة شنيعة تعرض لها تيارهم، بعد استيلاء المخابرات الجزائرية على التنظيم، جريمة تم خلالها اغتيال 37 عضوا من أعضاء المجموعة، وتم طرح جثثهم للذئاب». كما ورد في البيان/الوثيقة.
وأول ما كشفته الوثيقة هو أن الجزائر «الثورية» أيام هواري بومدين ووزير خارجيته عبد العزيز بوتفليقة، كانت وقعت اتفاق تعاون مع إسبانيا الفاشستية ضد .. المغرب الذي دعم حرب تحريرها!
البقية ص041
وفي ربط إجرامي، كان الاتفاق من شطرين، عسكري واقتصادي.كشفت الوثيقة بنوده و التنازلات الاقتصادية الواردة فيه.
في النقطة الأولى، كان أهم ما وعدت به الجزائر هو السعي إلى خلق مناورات عسكرية في شمال المغرب، في حالة تأزم وضع وموقف الجيش الإسباني المحتل في الصحراء المغربية، مع إعلان المسيرة! على أن تتسلم الجزائر كل التركة العسكرية في الصحراء بعد «إقامة الحكم الجديد».
أما في الجانب الاقتصادي فقد تم الاتفاق على استغلال المعادن الموجودة بالصحراء، وفيه كذلك «يسمح للجزائر بتشييد ممر نحو المحيط الأطلسي يعبر ترب الساقية الحمراء (خط السكك الحديدية) ، مع إقامة صناعة للفولاذ والحديد ولتحويل المعادن الموجودة في الجزائر والصحراء، ويكون مركزها … مدينة العيون !
داء الممر قديم ومزمن!
وقد تأسس السعي إلى الأطلسي، في الوعي السياسي والعسكري للجزائر، على مسلمة تفترض حتميا محاصرة المغرب! أي أن فكها للحصار الجغرافي عليها، في تقدير فهمها العدائي، لا يقوم إلا بمحاصرة المغرب وفصله عن صحرائه وبالتالي عن عمقه الإفريقي..
هاته المعطيات الجغرافية الثابتة والخالدة، تريد الجزائر حلها على حساب المغرب وبالصراع الدائم، العسكري حينا والديبلوماسي دوما..
لقد عاشت أوروبا محنتها السياسية بسبب الجغرافيا، ووجدت الحل، في التكتل الكبير.
وهو ما يسعى المغرب إليه، عبر التوجه الإفريقي الأطلسي.
ولا حاجة إلى تغيير الجغرافيا أو البحث في الدين واللغة والماضي المشترك عن بدائل لها، أي تراب من حنين بدل الوقائع والحقائق العصية.. ما يمكن القيام به هو إيجاد الأجوبة على متطلبات واشتراطات الجغرافيا بواسطة السياسة وبوسائل غير العدوانية..
وفي هذا السعي الرزين والصارم في الوقت ذاته، وضع الملك الإطار الصحيح الذي يجب أن يضبط الاستفادة من المنفذ إلى الأطلسي عبر الصحراء المغربية. وهو موضوع، لطالما شكل مادة سياسية واقتصادية وعسكرية، وزاوية نظر في تحديد المواقف… وصار اليوم محكوما بالاستراتيجية المغربية المبنية على سيادة البلاد على صحرائها التي تعتبر الوضع الطبيعي للاستفادة من الاطلسي ومن الامتداد الافريقي في نفس الوقت.
لقد أفشلت الجزائر الأفق المغاربي لهذا المنفذ، ولما قد يجنيه المغرب الكبير من ذلك.
كما أفشلت الاستفادة منه عبر تعاون ثنائي. أتاح المغرب لها فيه فرصة لا تعوض، بتشكيل لجنة ثنائية تعمل تحت إشراف رئيسها وبجدول أعمال تحدده هي.. وهو ما لم تكن تقبله نظرا لجنون العظمة.
لقد تحول المنفذ الأطلسي إلى عقدة مستحكمة، أدت في نهاية خمسين سنة إلى تطوير آليات نفسية مرضية. تقتضي عند الجيران خنق المغرب، حتى يمكنهم أن يكونوا دولة حية!
هذه العقدة من مظاهرها نكران الواقع، والعيش في .. مقبرة الماضي.
تعليقات
0