كشفت وزارة الاقتصاد والمالية، في تقريرها حول وضعية التحملات وموارد الخزينة حتى متم أكتوبر 2024، عن استمرار التحديات الهيكلية التي تواجه المالية العامة. ورغم التحسن الملحوظ في المداخيل العادية، التي سجلت ارتفاعًا بنسبة 14,4% لتصل إلى 290,75 مليار درهم، إلا أن هذه الدينامية الإيجابية لم تكن كافية لتغطية ارتفاع النفقات، مما أدى إلى تفاقم عجز الميزانية ليصل إلى 47,3 مليار درهم، مقارنة بـ37,5 مليار درهم في نفس الفترة من العام الماضي.
ارتفاع المداخيل، المدفوع بالأداء الجيد للإيرادات الجبائية، يعكس نجاحًا في تحصيل الضرائب بنسبة إنجاز بلغت 85,6% مقارنة بتوقعات قانون المالية. إلا أن هذا الإنجاز اصطدم بارتفاع النفقات العادية التي بلغت 256,9 مليار درهم، بزيادة قدرها 14,8 مليار درهم، وهو ما يبرز تحديًا مستمرًا يتمثل في عدم قدرة المداخيل على مواكبة تصاعد الإنفاق.
هذا التدهور المالي يُعزى إلى مجموعة من العوامل، أبرزها ارتفاع نفقات السلع والخدمات بمقدار 16,6 مليار درهم وزيادة فوائد الدين بقيمة 1,4 مليار درهم. كما شكلت البرامج الاجتماعية، مثل الحماية الاجتماعية وصندوق تدبير آثار زلزال الحوز، عبئًا إضافيًا على الميزانية، حيث استلزمت تمويلات ضخمة لتلبية الاحتياجات الطارئة.
وفي الوقت الذي سجلت فيه تكاليف المقاصة انخفاضًا بمقدار 3,3 مليار درهم نتيجة تقليص دعم غاز البوتان والدقيق، إلا أن هذه السياسات أثارت جدلًا حول تداعياتها الاجتماعية. تقليص الدعم الموجه للمواد الأساسية خفف الضغط على الميزانية، لكنه أثر سلبًا على الفئات ذات الدخل المحدود التي باتت تواجه ارتفاعًا في تكاليف المعيشة.
الديون العمومية تمثل بدورها تحديًا بارزًا، مع ارتفاع فوائدها إلى 1,4 مليار درهم ومعدل إنجاز بلغ 83,2%، مما يعكس زيادة الأعباء المرتبطة بخدمة الدين. الاعتماد المفرط على الاقتراض لسد العجز المالي يهدد استدامة المالية العامة، خاصة في ظل تقلبات الأسواق العالمية وارتفاع أسعار الفائدة.
أما على مستوى الاستثمار، فقد ارتفعت نفقات هذا البند إلى 79,4 مليار درهم، بزيادة قدرها 7,2 مليار درهم مقارنة بالعام الماضي، مع تحقيق معدل إنجاز بلغ 79,1%. ومع ذلك، يظل العائد الاقتصادي والاجتماعي لهذه الاستثمارات محدودًا، إذ يعاني تنفيذ المشاريع من بطء واضح وسوء استغلال الموارد، مما يقلل من تأثيرها الإيجابي على التنمية.
إجمالًا، تسلط هذه الأرقام الضوء على اختلالات هيكلية تتطلب إصلاحات جذرية لضمان استدامة المالية العامة. غياب التحكم في تصاعد النفقات، مقابل الاعتماد الكبير على المداخيل الضريبية، يعكس هشاشة التوازن المالي. كما أن التحديات المرتبطة بارتفاع الدين العمومي والضغوط الاجتماعية الناتجة عن تقليص الدعم، تزيد من تعقيد المشهد المالي والاقتصادي.
في ظل هذه المعطيات، تبدو الحاجة ملحة لاعتماد رؤية استراتيجية لإعادة هيكلة النفقات، تعزيز كفاءة الإنفاق العام، وتحسين إدارة الموارد المالية. الحكومة مطالبة اليوم باتخاذ خطوات جريئة لاحتواء عجز الميزانية وتخفيف العبء على الاقتصاد، مع ضمان حماية الفئات الهشة من تداعيات أي إصلاحات مالية مقبلة.
تعليقات
0