دلالة المكان في قصائد الشاعر المغربي عبد السلام مصباح

أنوار بريس الأربعاء 4 ديسمبر 2024 - 23:35 l عدد الزيارات : 44398
  • حميد ركاطة (°)

تبرز دلالة المكان في قصائد الشاعر عبد السلام مصباح في ديوانه “تنويعات على باب الحاء” (1) من خلال ثلاث قصائد “بطاقات حب إلى أبي الجعد” و”الحسيمة المدينة الفنيق” و”بطاقات حب إلى العراق” وقصيدة أخرى “شفشاون…بستان للعشق ونافذة للحزن” غير مدرجة في هذا الديوان، بل في الديوان الأول “حاءات متمردة” (2) حيث يظهر من عتاباتها الإشارة الواضحة إلى مشاعر تكشف نوعا من العشق الضارب في عمق المجال الذي يتم النظر إليه من زوايا متعددة، وبعاطفة خاصة. وهي مدن شكلت مجالات متعددة السمات، والخصائص ، في الشمال ، ووسط المغرب، وخارجه.

لكن هل يجعلنا هذا الأمر ندرج هذه القصائد ضمن شعر المدينة ،باعتباره شعر “يغطي مساحة واسعة الدلالات، واحتمالات المعنى.. فهو الشعر الذي يصف مدينة واقعية وصفا مباشرا، أو البشر الذين تتأثر حياتهم بتجربتهم في تلك المدن تأثرا واضحا ”كما جاء في بعض التنظير الغربية الحديثة .” (3).

يشير الأستاذ عبد النبي ذاكر إلى كون الفضاء هو “الهنا وإلهنا، الداخل والخارج بالمعنين السكولوجي والمرجعية، والآن، والماضي، والمستقبل” (4)

ربما من خلال تحليل مضمونها، سنلمس ان الإشارات إلى المجال الجغرافي قد تلازم مع الإشارة إلى أشخاص بعينهم سواء في الإهداء، أو من حيث التميز الشعري، أو الإحالة الدالة، كما في مقطع من إحدى قصائد الشاعر فؤاد لكحل، في قصيدة.”بطاقات الى المدينة الفنيق” الحسيمة المهداة إلى الشاعر محمد أعشبون، أو في قصيدة بطاقات حب إلى العراق مع الشاعر محمود درويش، قصيدة “ريتا والبندقية”، المهداة إلى الشاعر العراقي فراس عبد المجيد ، أو من خلال الإهداء للشاعر الكبير عبد الكريم الطبال في قصيدة أربع قصائد إلى شفشاون، باعتباره نهر شفشاون الخالد، لنلمس أن الذات هي الأخرى ستضع إحدى مكونات هذا الفضاء، ومحلية عليه بحكم الانتماء، وهو نفس الأمر الذي تكرر في قصيدة بطاقات حب إلى أبي الجعد”جموع الأحبة” في إشارة إلى الجهة المنظمة للملتقى الشعري .

فالإشارات الملتقطة سواء من خلال العتبات، أو الاهداءات، تحول الشاعر عبد السلام نفسه أيقونة أخرى دالة على انتماء مخضرم كذلك ، وموحية على مجالين: شفشاون، والدار البيضاء الدي كتبت فيها أغلب القصائد ما بين سنتي 1990 و2011 كما للتخليل داخل وخارج حدود الذات الشاعرة الأكثر رحابة في الواقع.

فما يجعل المكان “جغرافية الإنسان، وركنه الرصين في هذا العالم الذي نعيش جميعا تحت سقف ، علاقته به علاقة وجدان، ورسوخ، وتأثيثا على ذلك كان المكان حاملا لمعنى، خادما لأبعاد، فلا يوجد مكان فارغ أو سلبي ، فالمكان دون سواه يثير إحساسا بالمواطنة، وإحساس آخر بالزمن ، والمحلية، حتى لتحس الكيان الذي لا يحدث شيء بدونه” (5) لنتساءل كيف نظر الشاعر عبد السلام مصباح إلى أمكنة بعينها، وكيف تجلت في قصائده ؟

ف ”شفشاون” بدت كبستان للعشق، امرأة شامخة النهدين ، ومغسولة باللبن البارد ، والمسكونة بالزمن المترسب والهم اليومي. وهو ما سيدفعه إلى رصد معطياتها الطبيعية الجغرافية وأنشطة السكان المحليين المرتبطين أشد الارتباط بالمجال الزراعي والفلاحي، كتميزها ببعض الأغراس “أشجار الزيتون، والتوت، وبحقول الريحان، وأحواض النعناع…ويمارسون الرعي، وتربية المواشي ما جعلها منطقة تعتمد على التساقطات المطرية “تزرع ما بين” المائين”.ولم تفت الشاعر الإشارة، إلى المناخ المميز للمنطقة الجبلية، باعتبارها ذلك طقس بارد، تغطي قمم جبالها الثلوج.”

شفِشاون*

شفشاون هذي الشامخة النهدان

المغول باللبن البارد

والمسكونة بالهم اليومي

والزمن المترسب

والإيقاع البدوي

تخلع عنها ثوب الأزمنة المنخورة

والحلم الناعم

والهَدْرَة “**

فالمدينة حاضرة “على المستوى السياسي، والاقتصادي، والتاريخي، وعلى المستوى الشعري.إن انسجام المدينة كموضوع للكتابة الشعرية استمع لنبض المرحلة، ولطبيعتها، وخصوصيتها لذلك شكلت بلبوسها، وضعت لنفسها”(6)

فالإشارات إلى المكان بقدر ما تبرز من عتبات القصائد، تتحول إلى منفذ نحو النص بتحول القصيدة ذاتها إلى مكان راصدة لأمكنة أخرى موشومة في ذاكرة الشاعر، عبر الكشف عن خصوصيتها من خلال أوصاف من قبيل المدينة الفنيق، أرض بهية ، طيبة مفعمة بأريج التاريخ، اسكنتني عينيها، قيدتني بالهوى، تعانق أحزانها، الأرض الخزامى، بوابة أنوال، سوسنة، سنبلة، موغلة بين تضاريس الريف (القصيدة).

وتتوزع هذه الأوصاف في دلالتها حسب قواميس مختلفة لكنها تكشف في الواقع عن طبيعة العلاقة مع المكان في شموليته : اسطوريا، وتاريخيا، وجغرافيا، ونفسيا. فالقصيدة، بقدر ما تشيد بالماضي العريق، تنكا جراح القلب بالكشف عن الأم سكانها بالإشارة إلى زلزال الحسيمة عبر إشارات متفرقة كمدينة تعانق أحزانها .

تعانق أحزانها

وجراحها

والليل المتراكم

وأخرى ممتطية صهوة الليل

كأنها صوت بحر نازف فوق مساحات الليل، عبر استرجاع مآسي الماضي، وبطولاته والحاضر دهشته.

يا وجوها

تشرع لي بوابة ”أنوال

كي أعبر الخطابات المزوقة اللعينة

إلى حيث ينتشر الليل أشرعته

لنوقد للعابرين الشموع

ولكل الحالمين بالرجوع

انه فضاء الذاكرة وفضاء المرجع، وتبين التفضية في فضاء الملفوظ، ويسمى أيضا ملفوظه الملفوظ ، وملفوضية الملفوظ …وتطرح قضية الفضاء إشكاليتي المرجع والمرجعية، أي مسألة الموضوع…الذي تحيل عليه العلامة..فالمكان هو الذي يمنح الخيال مظهر الحقيقة حسب تعبير هنري متيران”(7)

فالحسيمة جسد مثقل بأوزار ثقيلة ، وبالخيانة من الخارج، لكنها استطاعت التخلص جزئيا من تبعات ذلك الإرث الثقيل، لتبعث من جديد كعنقاء من رمادها شامخة. وهنا يرسم لها الشاعر صورة بهية، ومشرقة يقول:

تنهض

مفعمة بالفرح

في عينيك وهج راشح

وفي اليمنى صورة عبدالكريم

وفي اليسرى التحدي

وسنبلات للقلب

والشعر

وللصباحات الأنيقة

الإشارة إلى بعض مكونات الغطاء الطبيعي والنباتي من قبيل :

الصنوبر، الصفصاف، سوسنة، سنبلة

اعتماد القصيدة على تشكيل بشري من خلال الارتكاز على التقطيع المشهدي عبر لوحات مرقمة ، بالإضافة إلى تقطيع اسم الحسيمة إلى احرف بشكل تنازلي من الأعلى إلى الأسفل كما في اللوحة الثالثة ،فتشكيل الفراغ المكاني جزء لا يتجزأ من ايقاع القصيدة ، فهو مستوى ايقاعي يفصح عن حركة الذات الداخلية، ويتسم بالصراع الذي يقوم بين اللون الأسود (الكتابة) واللون الأبيض (فراغ الورقة)…وهذا الصراع الخارجي لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا مباشرا، أو غير مباشر للصراع الداخلي الذي يعيشه ” (8) كما نلمس الارتكاز على دلالة كل حرف من احرف المدينة لإبراز بعض من خصوصياتها :

الحاء: حياة ، السين : سوسنة، سنبلة ، الياء : يمامة، الميم : موال ، التاء : تباشير .

وبالانتقال من شمال المغرب إلى وسطه نحو السهول الامتدادات ستر صورة أبي الجعد بتاريخها العريق، عبر بوابة مهرجانها. “جموع الأحبة” المحيلة على المكان من خلال أصحابه. يقول الشاعر :

هنا

هنا في ابي الجعد

أوقدتُ مِصباح شعري

فأبصرت في كل وجه انا

وتبرز أبي الجعد كحاضنة للشعراء ،و مكان لأحلامهم، ولألفتهم، ومرتعا لجنونهم، يقول الشاعر :

هنا في ابي الجعد

تفتح احرف الشعراء

جداول للحلم

وللألفة الباسقة

فينساب إيقاعها

بسمة خافقة

فتنتفض جرحا

وتنشر نورا

وتنشر فرحة

فالمكان في النص محيل على خصوصيته، باعتباره مكانا للالتقاء الشعراء، وبالتالي الإشارة إلى مهرجان شعري ، فأبي الجعد ملتقى الشعراء “جموع الأحبة” كذلك، ومكان للحلم، الذي يولد فيها ضوء النهار، ويحلق فيها الشعراء من خلال قصائدهم.

في حين اقترنت ابي الجعد باسم وليها الصالح ”سيدي بوعبيد الشرقي” كمحج لآلاف من أتباع طريقته، وزواره، والمتبركين تيمنا ببركته كل سنة.

في “بطاقات حب إلى العراق” تبرز دلالة المكان عبر العديد من القرائن منها المكون الطبيعي من قبيل النخل ، عشب البراري ، الفصول الخصيبة، في إشارة إلى منطقة ما بين الرافدين منطقة الهلال الخصيب .كذلك المكون المدني عبر رصد مجموعة من المدن: بغداد، الكوفة ، كركوك، البصرة، الفلوجة، والنجف..أو من خلال المكون الأسطوري “عشتار آلهة الخصب من خلال الواقع المعاش إبان حرب الخليج يقول الشاعر:

عِـــرَاقُ

سَلاَمـاً

سَلاَمــاً…سَلاَمـاً… سَلاَمـاً

سَلاَمــاً مِــنَ الشِّعـــرِ وَالشُّعَـَــرَاءِ

لِنخل

يغازل فجرا

على ضفتيك

لطفل يخاتل دبابة

لِشَيْــخٍ يَهُــزُّ جُــذُوعَ النَّخِيـلِ

فَتُرْسِــلُ أَوْرَاقَهَـا طَلْقَـةً

وَزُغْرُدَتَيْــنِ

في حين يبرز المكون البصري عبر التشكيل الفضائي، (فضاء النص)، الذي يتخذ أسلوب قصيدة النثر في ارتكازها على الحذف، والاضمار، وكذلك التقطيع إلى وحدات نصية (لوحات)، تبدأ كلها بالإشارة الصريحة إلى المكان (عراق) وهو المكون الذي سنلمس تقطيعه إلى أحرف نازلة من الأعلى إلى الأسفل، كصرخة وتمزق يعقبه سلام (النص)

أو من خلال الاعتماد على جمالية التكرار التي لا تفيد التأكيد؛ بل الكشف عن البناء الدائري في القصيدة.من هنا يبرز النص الشعري “كساحة للتجاذب بين الفضاء الداخلي المتمثل في المضمون، والمرتبط أساساً بحركة الذات والفضاء الخارجي المتمثل في الشكل ، والمرتبط أساسا ببنية الواقع الثابتة “(9)

على سبيل الختم

لقد برز المكان في هذه القصائد من خلال المكون الطبيعي، والجغرافي، والحضاري، والثقافي، والديني، والتاريخي..كما برز من خلال عتبات النصوص والاهداءات الخاصة، وكذلك من خلال اللغة ، وإيقاع النصوص وما برز فيها من تداعيات نفسية ودلالة. “فهناك صلة جدلية بين الفضاء الخارجي والفضاء الداخلي، وكلاهما يقوم على إحداثيات سيكوزمكانية حسب ما ذهب إليه جان وايسجيربر – من أن الفضاء طريقة لعيش الوسط (..) وتجربة الفضاء تختلط بتمثيليته المحسوس، المركبة والملموسة، والمسموعة “(10) وهو ما جعل القصائد المدروسة فاضحة عن مشاعر الذات الداخلية ، ومحيلة بشكل مباشرة على خصوصية المكان، ورصد مختلف مكوناته.

أو من خلال التشكيل البصري، والتي الحذف والتكرار اللذين عملا على نقل الصورة الفنية من مجالها الخيالي إلى حيز ها الواقعي، عبر الوصف، والالتقاط ، ناهيك عن التقطيع المشهدي، والكلمة الدالة على المكان إلى احرف عبر تجزئ الكلمة المبرز لحيز المجالي إلى أحرف السبت معاني عديدة، وهذا اشتغال تم لمواجهة الحيز المكاني الفارغ، وهو ما نقل التشكيل البصري الجديد للكتابة حول المجال “من حيز الثبات أو الحركة النسبية المتمردة إلى فضاء الحركة التعبيرية الدرامية الواسعة” (11).

(°) روائي، قاص وناقد

/// مراجع واحالات

1 –  عبد السلام مصباح، “تنويعات على باب الحاء” شعر دار القرويين 2011

2 –  صدر عن دار القرويين سنة 1999

3-  د. عبد الله بن عتو، القصر الكبير تاريخ المكان وتاريخ الشعر مجرة العدد10 المدينة في الأدب 2005

4-  د. عبد النبي ذاكر، الصورة الأنا الآخر ص 133 سلسلة شرفات منشورات الزمن 2014

5 –  د. جمال بنسليمان المدينة في أشعر العربي بالمغرب 1912/1956 ص108مجرة العدد 10 خريف 2007

* شفشاون: مدينة تقع في شمال المغرب، وهي مسقط الشاعر

** الهَدرة : الكلام الفارغ

6-  عبد النبي ذاكر، الصورة الأنا الآخر ص 134 مرجع مذكور سابقا

7-  عبد الله بن عتو، المدينة في الأدب ص 110 مرجع مذكور سابقا

8-  علوي الهاشمي، “تشكيل فضاء النص الشعري بصريا”ص 84 الوحدة العدد82/83 الكويت 1991

9- علوي الهاشمي ، تشكيل فضاء النص الشعري الوحدة مرجع مذكور سابقا ص 84

10 – عبد النبي ذاكر، الصورة الأنا الآخر ص 134مرجع مذكور سابقا

11 – علوي الهاشمي، تشكيل فضاء النص الشعري الوحدة ص 90

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 13:34

استكتاب مفتوح أمام الباحثين للمشاركة في مشروع تاريخي حول “بلاد تادلا وزيان بين 1912 و1956”

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 12:45

لقاء بالرباط لتعزيز التعاون بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية والمركز القطري للإعلام

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 10:51

المجلس الأعلى للسلطة القضائية يناقش مستقبل التكنولوجيا الحديثة في المجال ‏القضائي

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 06:41

يحيى الفخراني شخصية العام الثقافية بالمملكة المغربية

error: