قامت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، طبقا للفقرة الأولى من المادة 4 من القانون رقم 46.19، التي تنص على أن الهيئة تضطلع بمسؤولية “اقتراح التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته، وكذلك الآليات والتدابير الكفيلة بضمان تنفيذها”، بإعداد هذه التوجهات بشكل نهائي، وتستعد لإطلاق عملية واسعة للتشاور وتعميق المعرفة والتعزيز مع السلطات والمؤسسات العمومية المعنية، مع إشراك ممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني. وتهدف هذه العملية إلى تحقيق تملك جماعي وإطلاق استراتيجية جديدة للوقاية من الفساد ومكافحته للفترة 2025-2035.
وحسب ما جاء في رسالة النزاهة التي أصدرتها الهيئة، فإن التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة المقترحة، تعد ثمرة التقدم والإنجازات التي تم تحقيقها خلال العقدين الماضيين، مع إجراء تعديلات وإعادة توجيهها لتجاوز الاكراهات المستمرة التي تم تحديدها. وقد تم تعزيزها بنتائج أكثر من أربعين ورشا فتحتها الهيئة خلال السنوات الست الماضية حول مواضيع أساسية وذات أثر كبير، بهدف تطويق ممارسات الفساد بمختلف أشكالها والحد منها بشكل أكثر فعالية.
وتمت هيكلة هذه التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة حول ستة أبعاد رئيسية، تتكون من ثلاث ركائز تهم التوعية والوقاية والردع، وثلاثة مجالات تعتبر عالية المخاطر تشمل الخدمات العمومية والاقتصاد والحياة السياسية. ويتم دعم هذه الأبعاد بثلاث دعامات أفقية تعزز فعالية البرامج والمشاريع والإجراءات، من خلال معرفة موضوعية ومعمقة للظاهرة ومن خلال الاعتماد التلقائي على الابتكار والتحول الرقمي في تصميم وتنفيذ ونشر وتقييم هذه البرامج والمشاريع، وفي الأخير باعتماد تواصل تعبوي ومنسق وموجه يهدف إلى ضمان تملك واسع للمضامين والإنجازات وتعزيز الالتزام وتوسيع نطاق العمل.
ويمكن تلخيص التوجهات الكامنة وراء هذه الأبعاد والدعامات كما يلي: ثلاث ركائز تنهض على التوعية والوقاية والردع، من خلال ترسيخ قيم النزاهة والأخلاقيات والحكامة المسؤولة الإعادة بناء المرجعية الاجتماعية على أساس مجموعة من القيم التي تتماشى مع هويتنا، وتعزيز انتمائنا ومصيرنا المشترك. ولتحقيق هذا الترسيخ، تم إعداد وتحديد توجهات استراتيجية التنشئة التربوية والاجتماعية، موجهة بشكل محدد لكل فئة مستهدفة. بالاضافة إلى تجفيف بؤر الفساد بجميع أشكاله من خلال تعزيز التشريعات الوطنية المتعلقة بمجال الوقاية من الفساد ومكافحته، مما يقلل بشكل كبير من فرص الممارسات غير القانونية ويجعل الأهداف الأخرى سهلة التحقيق. وقد تم فتح العديد من الأوراش في هذا الصدد، بدءًا بإعداد خريطة لأفعال الفساد وتصنيفها، وتحليل حالة التشريعات الوطنية ذات الصلة، وصولا إلى تقديم توصيات مستهدفة ومفصلة حسب الأولويات. وتهدف هذه التوصيات إلى سد الثغرات القائمة وتمكين بلادنا من الامتثال أكثر للمعايير الدولية في هذا المجال، وبالتالي الوفاء بالتزاماتها المترتبة عن الاتفاقيات المصادق عليها.
أما الركيزة الثالثة فتتمثل في إنفاذ القانون ومكافحة الإفلات من العقاب، وتعد هذه العناصر أساسية لتعزيز دولة القانون وإضفاء المصداقية اللازمة على المقاربة الجديدة، مما يتيح دعم رافعات الوقاية من خلال الردع. وهذا يؤدي بدوره إلى تعزيز الانضباط الذاتي وإحداث تغييرات في السلوك تجاه ممارسات الفساد. كما أنه يتم تعزيز هذه المصداقية والتعبئة المجتمعية ضد الفساد، من خلال مكافحة الإفلات من العقاب التي تعتمد بدورها على عدة أدوات، منها التبليغ عن الفساد وتوفير الحماية الفعالة للمبلغين وتطوير الإجراءات الجنائية بما يتماشى مع متطلبات وخصوصيات مكافحة الفساد وتحقيق التكامل بين سلطات إنفاذ القانون. وقد عملت الهيئة على هذه المحاور، حيث قدمت آراء وتوصيات لتعزيز هذه الإجراءات بما يضمن مكافحة الفساد بفعالية أكبر.
وبخصوص المجالات العالية المخاطر، فإن الخدمات العمومية الموجهة أساساً نحو تلبية احتياجات المواطنين، وبالتالي القائمة على احترام الحقوق والشفافية والمساواة والجودة بما يترجم القيم المعمول بها في الحياة اليومية للمواطنين والفاعلين. ولهذه الغاية، فقد تم القيام بجهود كبيرة لتحديد المقاربة والإجراءات الواجب اتخاذها على المدى القريب والمتوسط بخصوص مجموع المشاريع المتعلقة بهذا المجال الأساسي لبناء علاقة رضا وثقة بين الإدارة والمرتفقين المواطنين والفاعلين الاقتصاديين وغيرهم)، بهدف تعزيز وتقوية الإنجازات وتجاوز القيود ونقط الضعف. والحكامة المسؤولة والأخلاقيات في عالم الأعمال، ركيزة للتنمية المستدامة والشاملة ومحفزة للفاعلين والفرص المتاحة في البلاد، مما يجعل من الاقتصاد الوطني فرصة مفتوحة للمستثمرين ورصيدا مشتركا للجميع وفي خدمة الجميع. وبالإضافة إلى البرنامج متعدد الأبعاد وطويل الأمد، فقد تم تنفيذ مشاريع رائدة ناجحة في بعض القطاعات الأكثر نضجا، مثل القطاع المالي بمكوناته الثلاثة: القطاع المصرفي والتأمين والاحتياط الاجتماعي وسوق الرساميل، وتخليق الحياة السياسية والعامة من أجل تعزيز الديمقراطية والعمل على جميع مستويات هذا البعد الأخلاقية والتنظيمية والتأطير والردع، في إطار مقاربة تضمن إنخراطا واسعا ومعززا بالثقة في المؤسسات وتجاه السياسات العمومية.
وبخصوص الدعامات الأفقية كما وردت في رسالة النزاهة، لا يمكن تحقيق هذه الأهداف في مجملها وبالنظر للعلاقة القوية بينها، من حيث الفعالية وإنتاج الأثر في إطار دينامية التغيير المتوقعة، بمنأى عن التعميق المستمر للمعرفة حول ظاهرة الفساد ومظاهره المختلفة وتطوره، والتي تستفيد بشكل خاص من التقدم التكنولوجي وتطور الشبكات المالية. ويهدف ذلك إلى تحديد أثر الفساد والعوامل الرئيسية الكامنة وراءه. والتحول الرقمي، كمقاربة مهيكلة مبنية على مبدأ دمج أسس الثقة الرقمية والبنى التحتية التي توفر الترابط والسيولة في التبادلات وفي تقديم الخدمات وفي المعالجة والرصد والكشف والتنبؤ، مع الاستفادة من جميع التطورات والابتكارات الـ التطورات والابتكارات التكنولوجية والتنظيمية. والتواصل التعبوي والمنسق والهادف بشأن قضايا وأهداف التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، والتقدم المحرز والتحديات التي يتعين مواجهتها، على أن يكون ذلك مصمما خصيصا لكل فئة مستهدفة وباستخدام أنسب القنوات بالإضافة إلى التواصل الشفاف والموثوق به، مما يمكن من تعزيز مصداقية مبادرات مكافحة الفساد وبناء ثقة الجمهور وجميع الأطراف المعنية تدريجيا في جهود مكافحة الفساد، وبالتالي تشجيع التعبئة الجماعية القادرة على تعزيز نطاق الإجراءات وتعزيز التغيير الدائم في الممارسات والسلوك.
وحلصت الرسالة، إلى أن التنفيذ الفعال للتوجهات الاستراتيجية، يتطلب حشد وتوحيد جهود جميع الأطراف المعنية والقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والجامعات، ولهذا يشكل تنفيذ مقاربة تشاركية ومنفتحة على المجتمع عنصرا أساسيا في مقاربة الهيئة والتي عملت على إعدادها للعمل بها مع بداية سنة 2025. وينبغي أن تشمل هذه المقاربة مراحل تقديم المقترحات والتشاور والنقاش المفتوح وتنظيم عملية التفاعل والإثراء والتحسين، بهدف تحقيق تملك جماعي وضمان التعبئة والتنفيذ السلس والفعال.
تعليقات
0