في ليلة رمضانية من ليالي الحي المحمدي، حيث تنبض الذاكرة الثقافية بألقها، التأم محبو الشاعر الراحل محمد عنيبة الحمري، يوم الجمعة 7 مارس 2025، في حفل تأبيني مفعم بالمشاعر والوفاء، كان الموعد في دار الشباب الحي المحمدي، تلك الدار التي شهدت صوته مرارا وهو يصدح بقصائده، والتي عادت لتحتضنه، هذه المرة، بروح الاحتفاء والاستذكار، حيث “جمعية الشعلة للتربية والثقافة”، التي كانت رفيقة دربه الثقافية لأكثر من خمسة عقود، نظمت هذا اللقاء التأبيني، بمشاركة نخبة من الأدباء والنقاد والشعراء والفنانين والرياضيين، إلى جانب أفراد عائلته، وجيرانه، وأصدقائه الذين تقاسموا معه شغف الحروف ووهج الإبداع.
انطلق اللقاء باستعادة ذكريات الطفولة الأولى للفقيد، حين كان صبيا هادئا في أزقة الحي المحمدي، تفتحت عيناه على سحر الحروف، وكانت كلماته الأولى تنسج عالما خاصا به، في المدرسة الابتدائية، كان يخط بواكير كتاباته، يغوص في عوالم الأدب منذ سن مبكرة، حتى بدا واضحا أنه لا يشبه أقرانه؛ فهو يقرأ بنهم، يلتقط المعاني، وينحت الكلمات كما ينحت الصانع تمثاله الأول، وفي المرحلة الإعدادية، تحول ذلك العشق للحروف إلى فعل إبداعي، حيث كتب أولى محاولاته الشعرية، وألقاها بثقة أمام أصدقائه، لم يكن يخشى النقد، فقد كان يدرك أن داخله نهرا متدفقًا من الشعر لا يمكن إيقافه، ومنذ ذلك الحين، صار الشعر هويته الأولى، ووسيلته للتعبير عن رؤيته للعالم.
ومع انتقاله إلى مرحلة الشباب، تزايد ولعه بالكلمة، فراح يحفظ أشعار كبار الشعراء، يغوص في أمهات الكتب، ويستلهم من الرواد رؤيتهم للحياة والأدب، لم يكن يكتب لمجرد الكتابة، بل كان يسعى إلى منح القصيدة روحا جديدة، لتكون صوته الداخلي، ونافذته على العالم، وعندما صدر ديوانه الأول، شعر كما لو أنه ولد من جديد، في شهاداتهم المؤثرة، تحدث الحاضرون عن الشاعر الذي لم يكن مجرد كاتب عابر، واستعادوا حواراته العميقة، ومواقفه النضالية في سبيل قصيدة تحمل همّا إنسانيا، لا مجرد كلمات منمقة على الورق، أشاروا إلى التزامه، ورهافة إحساسه، وسعيه الدائم إلى توسيع أفق القصيدة، لجعلها أكثر قربًا من نبض الحياة.
أجمعوا في الحفل أن محمد عنيبة الحمري لم يكن شاعرا فقط، بل كان ذاكرة ثقافية، وإنسانا يرى في الكلمة فعلًا مقاوِما، ورحلة بحث لا تنتهي، كان صديقا داعما للعديد من الشباب في الحي المحمدي، يشجعهم على التحصيل العلمي والإبداع، لم يبخل بنصائحه، وكان حاضرا في مختلف مراحل الحركة الثقافية، سواء داخل جمعية رواد القلم في الستينيات أو في اتحاد كتاب المغرب، حيث شغل منصب الكاتب العام، بالإضافة إلى دعمه المستمر لجمعية الشعلة في مختلف محطاتها، ليختتم اللقاء بكلمة مؤثرة من عائلة الفقيد، حملت في طياتها امتنانا عميقًا لكل من حضر، واعتزازا بإرث الشاعر الذي كان جزءً من عائلة الشعر والإبداع التي لا تعرف الغياب.
لم يكن الموت، في تلك الليلة الرمضانية، سوى فاصلة في قصيدة لم تنتهِ بعد، قصيدة ستظل كلماتها شاهدة على حضور شاعرٍ ظل وفيا لقيم الكلمة النبيلة، وبمشاركة نخبة من الأساتذة، من بينهم: أحمد قبيل، أحمد الرضواني، عبد الحميد جماهري، أحمد جاريد، عادل حجامي، سعيد منتسب، أنس الرافعي، وحسن نرايس، وغيرهم كما كان لكلمة العائلة أثر عميق في قلوب الحاضرين، حيث لم يكن اختيار جمعية الشعلة لهذا التكريم اعتباطيا، بل كان تجسيدا لقيم الوفاء وتكريسا لثقافة الاعتراف بمن منحوا حياتهم للكلمة النبيلة، ففي ذكراها الخمسين، تؤكد الجمعية مرة أخرى أنها كانت وستظل حاضنة للثقافة والمثقفين، وملتزمة بتكريم الرواد الذين صنعوا الأمل بفيض الإبداع.
وبينما تم التذكير بإسهامات الفقيد في الأدب المغربي، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على إرثه الشعري وإيصاله إلى الأجيال القادمة، لضمان استمرار تأثيره في الساحة الأدبية، اختتمت الأمسية في أجواء مفعمة بالمشاعر بين الحزن على الفقدان والتقدير لمسيرته الزاخرة بالإبداع، كما شهدت الفعالية حضور شخصيات بارزة في الحقل الثقافي والإعلامي، إلى جانب أعضاء جمعية الشعلة الذين أكدوا جميعا على أهمية هذا التكريم كخطوة للحفاظ على ذاكرة واحد من أبرز الأصوات الشعرية في المغرب، دون أن يفوت حسن نرايس اقتراح على المسؤولين إطلاق اسم الشاعر محمد عنيبة الحمري على المركب الثقافي بالحي المحمدي.
يذكر أن الشاعر الحمري، كان قد توفي، يوم الأربعاء 25 دجنبر 2024، عن عمر ناهز 78 عاما، تاركا خلفه إرثا شعريا، منذ أول أعماله، الحب مهزلة القرون (1969)، ليواصل مكانته في المشهد الشعري من خلال مجموعة من الدواوين، منها الشوق للإبحار (1973)، مرثية للمصلوبين (1977)، داء الأحبة (1987)، رعشات المكان (1996)، سم هذا البياض (2000)، تكتبك المحن (2013)، وترتوي بنجيع القصيد (2019)، الذي توّج بجائزة المغرب للكتاب في فئة الشعر عام 2021، لم تقتصر إبداعاته على الشعر، إذ أثرى المكتبة النقدية والأدبية بعدد من الدراسات، مثل في الإيقاع الشعري، دراسات عروضية، إعدام الشعراء، وحين يخطئ الموت طريقه.
تعليقات
0