بنعليلو: منازعات الدولة تؤثر على الأداء الاقتصادي والتحكم فيها مسألة حكامة رشيدة تتطلب إصلاحات تنظيمية

أنوار التازي الأربعاء 16 أبريل 2025 - 17:40 l عدد الزيارات : 24184

قال محمد بنعليلو رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، إن منازعات الدولة في أصلها تعبير عن قصور في “عقلانية العلاقة المفترضة” بين أطراف الارتفاق العمومي، بسبب ضعف “الوعي الارتفاقي” في أبعاده “التبادلية” المحكومة بثنائية الحق والواجب، فإن تدبير هذه المنازعات، لن يخرج في جوهره عن كونه عملية إعادة صياغة محددات هذه العلاقة، فتصبح تسوية النزاع، سواء كانت طوعية أو مفروضة، هي جوهر هذه العلاقة في شكلها الجديد، ويصبح التعويض، سواء كان متفقًا عليه أو مفروضًا بقوة الحكم، هو الثمن المدفوع عن الضرر الناتج عن عدم الانضباط للقواعد والمبادئ الناظمة لهذه العلاقة.

وأكد بنعليلو في كلمته بمناسبة المناظرة الوطنية حول “تدبير منازعات الدولة والوقاية منها، مدخل لصون المشروعية  واستقرار الاستثمار وترشيد النفقات العمومية”، أن العديد من منازعات الدولة، (سواء بين المواطن والإدارة أو بين الإدارات نفسها)، تشكل تجليا واضحا لتركيز الإدارة على الدفاع عن قراراتها بدل تحسين أدائها والتركيز على مشروعية قراراتها، مما يجعلها سببا مباشرا لآثار سلبية تنطلق في أبسط صورها من ضعف جودة الخدمات العامة لتصل إلى فقدان الثقة في الإدارة وتراجع مصداقية المؤسسات العامة (ولو في الإدراك العام للمواطن)، مرورا طبعا بمجموعة من الآثار الاقتصادية والتدبيرية التي تؤثر على قطاعات أخرى من قبيل الاختناق القضائي الناتج عن تزايد القضايا الإدارية.

وسجل المتحدث، أنه في كثير من الأحيان نقف على ممارسات إدارية آخذة في الانتشار تجعل من “المصلحة الإدارية” أحد المبررات الجاهزة للعديد من القرارات، حينما تمنح الإدارة لنفسها صلاحية تقدير هذه “المصلحة” خارج القانون، بل أصبح الأمر علنيا ويتم تبنيه بشكل رسمي بلغة “معك الحق ولكن …”. ولأن هذا السلوك يُعتبر أحد الأسباب الجوهرية لخلق المنازعات الإدارية، ارتأيت الإشارة إليه لخطورته ليس فقط على موضوع الحكامة، ولكن أيضا لتعارضه مع أسس دولة القانون. لأن التقديرات والاجتهادات الشخصية خارج الإطار القانوني لا يمكن أن تعتبر إلا تجاوزا للسلطة وخرقا لمبدأ الشرعية ومسا بمبدأ الحياد الارتفاقي، بل وإضعافا لثقافة المسؤولية والمحاسبة داخل الإدارة، لأن السماح بهذا النوع من السلوك في مستويات معينة يُضعف الرقابة الداخلية ويشجع على انتشار الارتجال الإداري. وبالتالي يشكل مسا بالمصلحة العامة نفسها التي يفترض أن يؤطرها القانون لا تقديرات أشخاص تكبد الدولة خسائر مالية وتضعف الثقة في أدائها. يقول بنعليلو.

وتابع المتحدث، أن الإشارة إليه أمر بالغ الأهمية وهو المتعلق بممارسة الوظيفة الإدارية “بمنطق السلطة” بدلًا من ممارستها “بمنطق الحق”، ففي الوقت الذي يفترض فيه أن تمارس الوظيفة الإدارية بمنطق الحق، ووفقًا للقانون ومبادئ العدالة والإنصاف، نجد بعض الإدارات تميل إلى ترجيح منطق السلطة، في اتخاذ القرارات وتنفيذها، دون مراعاة للضمانات القانونية. فيستعاض في مرجعية القرار عن قوة القانون والمصلحة العامة، بقوة السلطة وتقدير الإدارة، وتهيمن في طريقة اتخاذه أساليب الأمر الواقع عوض الشفافية واحترام المساطر وتعليل المقررات، وتختلط في أهدافه متطلبات تحقيق الإنصاف الارتفاقي وضمان الحقوق بفرض سيطرة الإدارة، وهو ما يمس مباشرة بحقوق المواطنين وينمي فرص رفض السلوك الإداري، ويعزز النزعة العدائية لديهم تجاه الإدارة بسبب فقدانها في نظرهم لدورها في خدمة الصالح العام، وكلها مقدمات مناسبة لزيادة مخاطر إضعاف الشرعية القانونية للإدارة ووسم مصداقيتها بالتآكل، وجعل المواطنين أكثر ميلًا للطعن في القرارات بدلًا من قبولها.

وأكد على أنه، قد لا نختلف في كون “منازعات الدولة” هي في ذاتها معطى صحي وتعبير عن بيئة حقوقية شفافة تتيح حق التظلم والطعن في تصرفات الإدارة، غير أنه عندما تتحول المنازعات إلى نهج تدبيري للسياسات العمومية، وتوجه استراتيجي يرتكز على إدارة “الصراعات القانونية” بشكل ممنهج، فإن الأمر ربما يشكل إعلانا مستترا من الإدارة عن عدم سعيها بالضرورة إلى الامتثال المسبق للقانون، من خلال تفضيلها التعامل مع النزاعات بعد نشوئها، عبر استراتيجيات دفاعية أمام القضاء بدلاً من اعتماد نهج استباقي للحد منها وتلافي وقوعها، فيصبح اللجوء إلى القضاء جزء من تدبير العلاقات مع المرتفقين أو الفاعلين الاقتصاديين، بدلًا من اعتبار القانون مرجعًا توجيهيًا مسبقًا لهذه العلاقة. وهو توجه يؤدي بالضرورة إلى توظيف القضاء كأداة تفاوضية من خلال استخدام المنازعات كوسيلة لتأخير تنفيذ بعض الالتزامات أو لفرض شروط معينة على المعنيين، ويحول القضاء بشكل ما إلى ساحة للتفاوض غير المباشر بدلًا من كونه آلية للإنصاف.

وأشار بنعليلو، أن صورة أخرى لا بد من طرحها للنقاش خلال هذه المناظرة، وهي تلك المتعلقة بما يمكن أن أسميه ب”التدبير التفاعلي للمنازعات” كمحاولة لتغطية الضعف التدبيري للإدارة، باعتباره نهجا إداريا يقوم على التعامل مع النزاعات بعد نشوئها، بحيث لا تتحرك الإدارة في هذا النموذج، إلا بعد وقوع النزاع، ثم تتفاعل معه بردود أفعال غالبًا ما تكون متأخرة وغير كافية لمعالجة الإشكالات البنيوية التي أدت إلى النزاع في المقام الأول فيكون تدبيرها أقرب إلى ردود أفعال متأخرة بدلًا من حلول حقيقية لأسباب النزاع.

وجاء في كلمة بنعليلو، “إن كانت هذه هي الصورة الغالبة لمنازعات الدولة، فإنها لا تخلو من مظاهر الضعف، بسبب افتقارها إلى استراتيجيات وقائية وإجراءات استباقية لمنع النزاعات، بحيث تكتفي الإدارة في هذه الصورة بردود أفعال تتخذ فيها الإدارة غالبا موقف المدافع عن قراراتها (وإن كانت خاطئة) بدل تصحيحها والاجتهاد في إيجاد حلول عادلة لها، بل وترفض بعض الإدارات الاعتراف بأخطائها حتى بعد انتهاء مساطر المنازعة محاولة فرض قراراتها بقوة الأمر الواقع حتى لو كانت غير قانونية.”

وأكد أنه ي غياب شفافية تدبير هذه المنازعات والمساءلة وأحيانا سيادة منطق التستر على الأخطاء بدل معالجتها سنجد أنفسنا أمام تكرار نفس الاختلالات في إطار حلقة مفرغة تعيد إنتاج نفس النزاعات. مشيرا أنه دون الحديث عما يسببه ذلك من استنزاف للموارد المالية والبشرية للدولة، وتأخير في تنفيذ المشاريع والسياسات العمومية، وتأثير على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، معتبرا أن صورة التدبير التفاعلي للنزاعات يشكل مجالا خصبا لتكريس صورة الإدارة “المرتبكة” وبيئة ملائمة لزيادة الاختناق القضائي. ناهيكم عن تزايد الشعور بعدم الأمان القانوني لدى المواطنين.

وشدد على أن اعتماد المنازعات كنهج للتدبير (في صورتيه الاستراتيجي كما التفاعلي) يعكس دون شك ضعفًا في التخطيط الإداري، مما يتطلب إصلاحات جوهرية تعزز المناعة القانونية للإدارة عبر اعتماد آليات أكثر نجاعة في تدبير الخلافات، بما يحقق التوازن بين احترام القانون وضمان الفعالية الإدارية ورسالة خدمة المواطن. موضحا أن التدبير الاستباقي للمنازعات، القائم على نموذج الوقاية وتحسين أداء الإدارة وتعزيز الشفافية والمساءلة، سواء عبر آليات تشريعية وتنظيمية واضحة تقلل من التأويلات التي قد تؤدي إلى النزاعات، أو عبر قرارات إدارية معللة بشكل شفاف ومدروس، وخاضعة للرقابة القبلية لتجنب الطعون المحتملة، أو عبر تواصل معزز مع المواطنين يقلل من سوء الفهم لديهم لما تصدره الإدارة من قرارات، أو عبر تفعيل آليات الوساطة المؤسساتية والإدارية لحل النزاعات وديًا قبل اللجوء إلى القضاء، هو تدبير يعكس دون شك قوة الإدارة الشفافة القائمة على مبادئ الحكامة الجيدة، وتشكل لا محالة مداخل مهمة للتحكم في واقع منازعات الدولة.

وأكد على أن هذه الآليات التي يقوم عليها التدبير الاستباقي تشكل منطلقات نموذج أكثر فعالية في موضوع المنازعات لما يترتب عنها من تحسين لأداء الإدارة، ومنع للنزاع قبل وقوعه، وتقليل من تكلفته الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والسياسية أيضا. هذا إن لم أقل إن هذه المبادرات هي السبيل إلى التركيز على خدمة المواطن بدل الانشغال بالدفاع عن قرارات معيبة في مواجهته. فالإدارة القوية لا تنتظر وقوع النزاع لتتحرك.

وذكر بنعليلو، أن “التدبير الشفاف” يعد مكونًا آخر في مناقشة موضوع منازعات الدولة، باعتبار الشفافية ضابط توازن العلاقة بين الإدارة والمواطن، لما لها من آثار على نزاهة الحياة العامة، والثقة في الإدارة، واستقرار العلاقات الإدارية، وكفاءة الأداء المؤسساتي، لذا فهي تشكل أحد المواضيع الأكثر تحديًا أمام الإدارة، لأن شفافية الارتفاق العمومي، تعتبر مدخلا أساسيا لتقليل المنازعات عبر تفادي اللبس والغموض اللذين يؤديان إلى الطعون والشكايات، وبالتالي المساهمة في تقبل القرارات الإدارية والحدّ من التأويلات الخاطئة والطعون غير الضرورية.

وشدد على أن تعزيز آليات الشفافية والمساءلة داخل الإدارة، من قبيل إلزام الإدارات بنشر قراراتها المبدئية وسياساتها المهيكلة بشكل علني، وإحداث آليات مستقلة لمراقبة أداء الإدارات لضمان عدم تعسفها في استعمال السلطة، وربط المسؤولية بالمحاسبة عبر إقرار جزاءات على المسؤولين الذين يتمادون في إصدار قرارات تعسفية أدت إلى نزاعات إدارية قال القضاء كلمته فيها. موضحا أنها كلها معطيات تجعل السياسات الحديثة لتدبير منازعات الدولة معتمدة على الوقاية بدل المواجهة، والوساطة بدل التصعيد، والتبسيط بدل التعقيد، والشفافية بدل الغموض، هذا النهج يساهم في تقليل النزاعات، وتجعل العلاقة بين المواطن والإدارة، أكثر كفاءة وعدالة.

وأشار بنعليلو، أن العلاقة بين المنازعات الإدارية وجودة الخدمة الارتفاقية والثقة في الأداء الارتفاقي هي علاقة متشابكة، فكلما ضعفت جودة الخدمات العمومية ارتفع عدد النزاعات الإدارية، وأثر سلبًا على ثقة المواطن في الإدارة؛ وفي المقابل، كلما تحسنت الجودة، كلما قلَّت النزاعات وزادت الثقة في الإدارة. مضيفا أن الوقت قد حان لإرساء ما يمكن أن أسميه باستراتيجيات الربط الإيجابي بين هذه العوامل مجتمعة، فبها وحدها يمكن أن نجابه النمو المضطرد لثقافة المنازعة أو سيكولوجيا المنازعة، وأن نقلص الهوة الواقعة بين الحاجة إلى الإنصاف ومأزق تآكل الثقة في الأداء الارتفاقي، وما يترتب عن ذلك من إرهاق للقضاء الإداري وتعطيل للعمل الإداري في سياق ساهم فيه التطور الذي شهدته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بقسط وافر في تسليط الضوء على حالات اعتبر فيها المواطن ضحية لقرارات غير مفهومة أو متناقضة وفي بلورة فهم إدراكي لنوع من الظلم الإداري، يتطور في الغالب إلى منازعات إدارية.

وأكد بنعيلو، أن منازعات الدولة تشكل أحد العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على الأداء الاقتصادي، فبالإضافة إلى التكاليف المالية المرتبطة بالتقاضي وما ينتجه ذلك من ارتفاع الضغط على المالية العامة، تؤدي هذه المنازعات إلى تعطيل المشاريع، وزيادة المخاطر الاستثمارية، وتراجع ثقة الفاعلين الاقتصاديين في الإدارة. وتجعل بالتالي البيئة الاستثمارية أقل جاذبية، لذلك، فإننا نعتقد أن تقييم التأثيرات الاقتصادية لهذه النزاعات أصبح ضرورة لضمان استدامة المالية العامة وتحقيق فعالية الحكامة الاقتصادية.

وخلص، الى أن تحليل السياسات العمومية في مجال تدبير المنازعات اليوم، يقود إلى الحديث عن تقييم مدى فعالية هذه السياسات، خاصة وأن مجموعة من مؤشرات التقييم تتأسس في الغالب على معطيات كمية ترتبط تارة بعدد المنازعات المسجلة سنويًا ومتوسط مدة الفصل فيها وتكلفتها على الميزانية العامة، وتنبني تارة أخرى على مدى تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الدولة، باعتبار ذلك أحد المواضيع الإشكالية في كل السياسات المتبعة لتدبير المنازعات، ولارتباط “مراحل التقاضي” بمستوى شفافية إجراءات انتقاء القابل للتنفيذ منها، في سياق يجسد بالملموس إمعان الإدارة في فرض سلطتها حتى في مواجهة أحكام نهائية، وحرص المواطن على ممارسة حقه المشروع في التنفيذ دون أي اعتبار للإكراهات العملية للإدارة، وبالتالي زيادة الضغط على المرافق العامة.

وشدد على أن التحكم في منازعات الدولة، ليس مجرد قضية قانونية، بل هو مسألة حكامة رشيدة تتطلب إصلاحات تنظيمية وثقافية مستمرة، تعزز الحوار، الشفافية، وترسخ الوسائل البديلة لحل النزاعات قبل اللجوء إلى القضاء، وتعزيز ثقافة المصالحة واعتماد آليات لتقليل الاحتكاك المباشر بين المواطن والإدارة، و حان الأوان للحديث عن استراتيجية عمومية معلنة لتدبير وإدارة المنازعات القضائية للدولة تجعل من الوقاية من المنازعات، والحلول البديلة لتسويتها، وتقييم المخاطر، موجهاتها الأساسية.

وشدد على أنه حان الأوان للدعوة إلى التفكير في اعتماد آليات الإنذار المبكر للنزاعات، (من خلال وضع بارومتر قياس الرضى والجودة وإقرار ثقافة الاعتراف بالخطأ الإداري)، وإلى إلزام الإدارات بتقوية أجهزتها القانونية لتدقيق قراراتها الحساسة قبل إصدارها، لمنع الأخطاء التي قد تؤدي إلى منازعات مستقبلية.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الإثنين 21 أبريل 2025 - 08:21

توقعات أحوال الطقس ليوم الاثنين: أجواء غائمة وضبابية مع طقس حار نسبياً جنوباً

الإثنين 21 أبريل 2025 - 03:44

النصب والاحتيال يطيح بمستشار جماعي بالحاجب

الإثنين 21 أبريل 2025 - 03:44

القضاء في خنيفرة يرسم ملامح نزاع عقاري مشترك بين تعاونيتين، ويدرج ملفه بجلسة الثاني من يونيو المقبل

الإثنين 21 أبريل 2025 - 00:11

المتقاعدون يحتجون أمام مقر البرلمان يوم الجمعة المقبل للمطالبة برفع المعاشات

error: