ثلاث سنوات كاملة احتاجها البرلمان فقط لإعلان تشكيل لجنة موضوعاتية لتقييم مخطط “الجيل الأخضر” الذي كلف ميزانية الدولة الملايير، واستنزف الأمل في تحقيق السيادة الغذائية، وساهم – بوعي أو بسوء تدبير – في إغراق البلاد في مزيد من التبعية الغذائية.
ثلاث سنوات من الانتظار، من العرقلة الممنهجة، من الصمت المتواطئ، لأن الأغلبية المسؤولة عن إخراج المخطط إلى الوجود كانت ترفض، وبعناد، أن يُفتح أي ملف تقييم حقيقي. فالمحاسبة ليست في قاموسها، والشفافية تُربك توازناتها السياسية.
نحن هنا لا نتحدث عن لجنة تقصي حقائق – رغم أن الفضيحة تستحقها – بل عن لجنة موضوعاتية يفترض أنها تقنية واستشارية، تهدف فقط إلى الوقوف على الحصيلة، لكن حتى هذه كانت ثقيلة على ميزان التوازنات الحزبية. وكأننا أمام منظومة تخشى الحقيقة، وتهاب النقد، وتخنق أي صوت يذكرها بأن المال العام ليس غنيمة.
لكن دعونا نسمي الأشياء بمسمياتها: كل المبررات التي سوّقت للمخطط تهاوت على أرض الواقع. لم نحقق أية تنمية في العالم القروي، استمر نزيف الهجرة الداخلية نحو المدن، وهاجر من استطاع إلى الخارج، زادت معاناة المواطن المغربي مع شح الإنتاج، واختفت من الأسواق مواد فلاحية كنا نفخر بها. زيت الزيتون – رمز الفلاحة المتوسطية – أصبح يُستورد من الخارج بالعملة الصعبة، بأقل من كلفة إنتاجه محلياً، بينما تضاعف سعره عندنا ثلاث مرات حتى النحل فر من البلاد ومازال البحث عنه في الغابات والصحاري .
القمح، المواشي، الأغنام، الأعلاف… كلها تحوّلت من خيرات وطنية إلى أعباء استيرادية. أين هي السيادة الغذائية؟ بل أين هي الفلاحة أصلاً؟
نحن أمام ما يمكن وصفه بالمفهوم الأكبر للفراقشية، حيث يُصرف المال دون أثر، ويُنفذ المشروع دون مساءلة، ويُحتفى بالفشل كأنه إنجاز. لم يجد الملف طريقه لا للمحاسبة القضائية ولا المؤسساتية، بل صعد بعض المشرفين عليه إلى قمة هرم الحكومة، وتحوّل منفذوه إلى وزراء ونواب وناطقين باسم “التنمية”.
الرسالة كانت صادمة: موتوا غيظاً، نحن هنا باقون، والمحاسبة إلى الجحيم!
لقد عشنا فعلاً مأساة مغربية مكتملة الأركان: بعض الإعلام كتب عنها بصدق، لكن بعضه طبل وهلل، وبلغ حد الدمج بين وزارة الفلاحة والإعلام، باعتبار أن وزارة الفلاحة أضحت “أم الوزارات”، بل وربما “أبوها”، فهي التي تتحكم في التمويل، وتستقطب الولاءات، وتوزع المشاريع كأنها صكوك غفران.
جيل قادم سيدفع ثمن هذا الانحباس الفلاحي، وسنجد أنفسنا – نحن البلد الفلاحي – بلا فلاحة، بلا تغذية، نستورد كل شيء، وأهم شيء. سنستورد الخضار والفاكهة والزيوت والماء أيضاً، لأن الفلاحة التي تم اعتمادها لم تكن موجهة لخدمة المواطن، بل لخدمة التصدير، وصناعة الأرقام، وملء تقارير المنظمات الدولية.
فهل يُعقل أن نصبح بلداً زراعياً بلا فلاحين؟ أن نصبح أمة تتفرج على منتوجاتها في رفوف المتاجر الأوروبية، بينما لا تجدها في أسواقها الشعبية؟
هل المطلوب منا أن نُصفق للجنة تأخرت ثلاث سنوات؟ أم نطرح السؤال الحقيقي: لماذا تأخرت؟ ومن كان يعرقلها؟ وهل ستكشف فعلاً شيئاً… أم أنها مجرد لعبة جديدة في مسلسل طويل عنوانه “لا محاسبة بعد اليوم”؟
سنكون قساة على البرلمان خاصة ادا علمنا كم من الجهود بدلت ومن المساعي والضغوطات لاجل الوصول في منتصف او مشارف نهاية الولاية الى لجنة لوصف الحال على الاقل .
ملف “مخطط المغرب الأخضر” الذي أشرف عليه رئيس الحكومة “عزيز أخنوش” عندما كان وزيرا للفلاحة، ليثير جدلا واسعا في الأوساط الحقوقية والاقتصادية بالمغرب، وسط مطالب بفتح تحقيق شامل في مصير الأموال الضخمة التي رُصدت لهذا المخطط منذ إطلاقه قبل أكثر من عقد. ويُعتبر هذا البرنامج من بين أضخم المشاريع التنموية التي راهنت عليها المغرب لتطوير القطاع الفلاحي وتحقيق الأمن الغذائي،
غير أن الشكوك تتزايد بشأن شفافية تدبير موارده المالية ومدى استفادة الفلاحين الصغار مع ان أموالًا طائلة خُصصت لدعم مشاريع فلاحية، إلا أن أثرها على تحسين ظروف الفلاحين الصغار ظل محدودًا، بينما استفادت شركات ومجموعات استثمارية كبرى من امتيازات مالية كبيرة.
وتشير معطيات غير رسمية إلى أن أكثر من 60% من الدعم المالي تم توجيهه إلى مشاريع كبرى تابعة لشركات استثمارية، في حين لم يتجاوز نصيب الفلاحين الصغار 15% من إجمالي الميزانية المرصودة التي تجاوزت 34مليار دولار، وتكشف تقارير أخرى أن بعض المشاريع المدعومة لم تحقق الأهداف المرجوة، حيث بقيت العديد من الأراضي غير مستغلة رغم حصولها على تمويلات ضخمة وهناك من يتحدت عن تحويل امكانات لغير مجالها الفلاحي والترابي وربما شبهة تهريب اموال .
تعليقات
0