“الملتقى الوطني للتراث” يختتم دورته الثانية في خنيفرة بالدعوة إلى تثمين الموروث الثقافي وتحصين المواقع التاريخية
أنوار بريس
الأحد 18 مايو 2025 - 20:59 l عدد الزيارات : 3361
أحمد بيضي
في ختام “الملتقى الوطني للتراث”، الذي نظمه “مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام”، بخنيفرة، أوصى المشاركون برؤية استراتيجية تستثمر في غنى الموروث وتعزز إشعاع مجاله حضاريا وسياحيا، وتضمنت التوصيات الدعوة إلى نسج شراكات وتوأمات مع مدن تشترك مع المدينة في الذاكرة التاريخية والهوية الثقافية، وكذا إطلاق مهرجانات محلية (من قبيل مهرجان الأرز والزربية الأطلسية..)، كما تم التشديد على أهمية إدماج السياحة الثقافية ضمن مشروع النهوض بالتراث، من خلال تنظيم جولات استكشافية، ولم تغب عن التوصيات مسألة التنسيق بين جمعيات المجتمع المدني بهدف توحيد الجهود وجعلها قوة اقتراحية فعالة في مسار صون التراث وتثمينه.
لماذا الملتقى الوطني؟
وكانت فعاليات “الملتقى الوطني للتراث”، في نسخته الثانية، قد انطلقت بخيمة “مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام”، بخنيفرة، ودامت على مدى يومي 15 و16 ماي 2025، حيث التأم ثلة من الباحثين والمثقفين والمهتمين بالشأن التراثي في موعد بات تقليدا راسخا للاحتفاء بالتاريخ واستحضار مآثره ومعالمه، وقد افتتح ذ. المصطفى تودي الجلسة الأولى بكلمات تنم عن وعي عميق بقيمة هذا اللقاء، مستحضرا النسخة الأولى التي شهدت حضور أسماء وازنة في المشهد الإعلامي والثقافي، من بينهم الإعلامي الراحل محمد الحجام، الذي خلد حضوره ومداخلته القوية في الذاكرة الجمعية للملتقى، كما شارك في الزيارة التأملية للزاوية الدلائية.
وتوقف المتدخل عند أهم التوصيات التي صدرت عن الدورة السابقة، وعلى رأسها الدعوة إلى تحصين وتثمين التراث المحلي، الذي يقابله الكثير من التهميش من قبل الفاعلين والمؤسسات المعنية على السواء، ومن جانبه، عبر ذ. مولاي إدريس أشهبون، باسم مركز روافد، عن “اعتزازه بهذا اللقاء الذي يشكل لحظة ثقافية بامتياز للتعريف بالمخزون التراثي للمنطقة”، مؤكدا أن هذا الرصيد “لا ينفصل عن الذاكرة الجماعية، وأن صيانته هي صيانة للهوية في شموليتها”، كما شدد على أهمية المعمار العسكري التاريخي، باعتباره جزء لا يتجزأ من السياق السياسي والعسكري والاجتماعي الذي ميز مراحل حاسمة من تاريخ البلاد.
أما ذ. حسن بلكبير، مدير المركز الثقافي أبو القاسم الزياني، فلم يفته التقدم بكلمة عقب الافتتاح، مركزا فيها على “ما تزخر به منطقتي زيان وتادلة من قلاع وحصون وأسوار ظلت تؤدي أدوارا استراتيجية في حماية السكان وضمان استقرارهم وعيشهم وأمنهم”، واعتبر أن “هذا الموروث المعماري لا يمثل مجرد بقايا مادية، بل هو شاهد على سيرورة تاريخية غنية ينبغي فهمها وإعادة قراءتها بمنهج علمي وتربوي”، كما تساءل عن وظيفة التراث اليوم، في ظل التحولات المتسارعة، مشددا على “ضرورة صونه لا بوصفه ماضيا منتهيا، بل باعتباره ذاكرة البلاد الحية ورمزا لهويتها التاريخية والحضارية”.
القصبات، المواقع والمعالم المهملة
افتتحت الجلسة العلمية الأولى بورقة تأطيرية للباحث ذ. حوسى جبور، انطلق فيها من جرد أولي لعدد من المعالم المهملة التي لا تقل أهمية عن قلعة الباشا حسن بأقلال، قلعة فزاز، موقع إغرم أوسار، قصبتي أدخسال والبرج، فضلاً عن القناطر التاريخية، ولم يفت المتدخل إبراز الإكراهات المنهجية التي تواجه الباحث في مجال التاريخ وتوثيق التراث المادي، حيث تظل قلة المصادر وندرة المعلومات عقبة حقيقية تتطلب جهدا مضاعفا، وأشار إلى اكتفاء الكتابات التاريخية الرسمية على مرويات السلاطين والمدن العواصم، في تغييب شبه تام للمناطق الجبلية، مستعرضا أدوار القصبات كأدوات لإبراز هيبة الدولة وتحصيل الضرائب والأعشار وضمان استمرارية الحاميات العسكرية.
واستأثر موضوع قصبة موحى وحمو الزياني بحيز مهم من مداخلة ذ. جبور الذي تتبع إشاراتها الأولى منذ العهد المرابطي إلى ترميمها في عهد المولى إسماعيل سنة 1688، بعد استقباله للقائد موحى وحمو، حيث استقدم لها حرفيون وأدوات زخرفية من فاس، وقد ركز الباحث على عناصر بناء هذه القصبة، مشيرا إلى التصميم الدفاعي الذي طبعها، معتبرا أن “إهمالها بعد انتقالها إلى ورثة القائد، يعكس تغول المصلحة الخاصة على حساب الذاكرة الجماعية، حتى بعد تصنيفها تراثاً وطنياً سنة 1933″، كما عرج ذ. جبور على تاريخ قلعة فزاز، داعيا إلى ضرورة إحداث مندوبية للثقافة والسياحة وإلى إدماج المعالم ضمن مخططات التهيئة، واستثمارها كرافعة للسياحة الثقافية.
أما ذة.رشيدة اليعقوبي، فقد أثرت الجلسة بمداخلة تناولت من خلالها تطور وظيفة القصبات في التاريخ المغربي، مبرزة دورها الحيوي كتحصينات دفاعية منذ القدم، حين ارتبط وجودها بمراقبة الطرق الحيوية، وتحصين المدن، وصد الهجمات الخارجية، وانطلقت في عرضها من فهم معمق لبنية القصبات وتقنيات بنائها، سواء من حيث المواد المستخدمة أو التصاميم المعمارية، إذ غالبا ما تم تشييدها على هيئة حصون، ضمن ما يمكن تسميته بـ”رباط القصبات”، في مواقع استراتيجية محصنة، كما أبرزت المتدخلة الوظائف المتعددة التي أدتها هذه البنايات عبر العصور والمراحل والظروف التاريخية.
وتوقفت المتدخلة أمام موضوع القصبات التي منها ما خصصت للسكن العائلي، وأخرى بمثابة ثكنات أمنية، في حين شيد بعضها كملاجئ مؤقتة للسكان خلال فترات الاضطراب، كما أن عددا منها شكل النواة الأولى التي انطلقت منها عملية التعمير، ولم تغفل ذة. اليعقوبي الإشارة إلى أن “بعض القصبات بنيت على عجل، نتيجة ظروف أمنية أو سياسية طارئة”، كما أولت المتدخلة أهمية خاصة للمخازن المرتبطة بهذه القصبات، والتي “لعبت دورا أساسيا في تخزين الحبوب والسلع المعدة للتصدير أو لتلبية حاجات السكان المحليين”، واستحضرت عددا من القصبات المنتشرة ببلادي زيان وتادلة، مبرزة خصائصها البنيوية، ومنبهة إلى وجود مغارات وسراديب بأسفل بعضها.
ومن جهته، ركز الباحث ذ. لحسن رهوان في مداخلته على قلعة فزاز، متناولاً أصول التسمية ودلالاتها، انطلاقا من ورودها في مصادر موحدية، لا سيما لدى المؤرخ البيدق في كتابه “أخبار المهدي بن تومرت”، حيث أشار إلى هذا الموقع الممتد على مساحة تفوق 35 هكتارا، والذي “تجاوز مجاله حدود جبال الأطلس ليشمل مدائن مكناسة”، قبل تدخله عن نسب فزاز إلى شخصية المهدي بن توالا اليخفوشي الزناتي، وعن تعدد التسميات التي ارتبطت بها عبر الحقب، وخص الباحث بالتحليل مقاومة القلعة الشهيرة للحصار الذي فرضه عليها المرابطون في عهد يوسف بن تاشفين، لمدة تسع سنوات.
كما استعرض المتدخل أبرز المصادر التاريخية والجغرافية التي أرخت لأحوال فزاز، بينما أشار إلى ما أكده المؤرخون بخصوص “التواجد المكثف للطائفة اليهودية بهذه المدينة”، وما مارسته من أنشطة حرفية وزراعية وتجارية، كما سلط الضوء على ما شهدته المدينة من غزوات وحرق وخراب، مشيرا إلى تضارب التفسيرات حول معنى اسمها، بين “من يربطه بالصخر الخشن، ومن يرى أن الاسم مشتق من أحد بطون قبيلة زناتة”، وتوقف الباحث أيضا عند ما كشف بها من لُقى وأدوات فخارية وقطع نقدية ثمينة، منقوشة بعبارات دينية ورسوم سلطانية، منها نقش “لا إله إلا الله محمد رسول الله” و”أمير المسلمين وناصر الدين علي بن يوسف”، المؤرخة بسنة 1107م.
النهر، الموروث والأدب الأمازيغي
وبخصوص الجلسة العلمية الثانية، فقد تميزت بتسيير ذ. محمد عياش الذي افتتح أشغالها بإشارة ذات دلالة رمزية إلى شخصية أسطورية، استحضارا لروح الحكمة والتبصر، قبل أن ينتقل للحديث عن خصوصية الأطلس المتوسط وبلاد زيان، وما تزخر به من موروث حضاري وثقافي يقابله، في المقابل، واقع من التهميش، واليوم يحق للجميع الافتخار بوجود باحثين وأكاديميين وإعلاميين، يضطلعون بدور أساسي في رد الاعتبار لذاكرة المكان والإنسان، وشدد ذ. عياش، في سياق مداخلته، على “أن أي مشروع تنموي حقيقي لا يمكن أن يُكتب له النجاح دون أن يستند إلى مدخل ثقافي يكون بمثابة القاعدة الصلبة لأي نهضة مجتمعية”.
من جهتها، اختارت الشاعرة المغربية، ذة. نعيمة قصباوي، أن تساهم في الجلسة العلمية الثانية بقراءة نقدية في كتاب “أم الربيع: الذاكرة والتاريخ” للباحث ذ. لحسن رهوان، حيث انطلقت من تحليل مكونات الغلاف كمدخل دلالي وبصري لفهم روح الكتاب، متوقفة عند تصميمه الذي أبدعه الزجال ذ. توفيق لبيض، والصورة المرافقة له بعدسة ذ. محمد أباحسين، والمقدمة التي صاغها الروائي المغربي ذ. عبد الكريم جويطي، والتي اعتبرتها قصباوي مفتاحا رمزيا يهيئ القارئ لرحلة في ذاكرة نهر أم الربيع، وفي قراءتها، انطلقت قصباوي من مركزية النهر في تشكيل الهوية المحلية للمنطقة باعتبارها المنبع.
وأبرزت قصباوي، انطلاقا من محتوى الكتاب، كيف أن تاريخ المجال الزياني “لا يمكن فصله عن هذا المجرى المائي الذي ظل على مر العصور شاهدا على تحولات بشرية وعسكرية واجتماعية واقتصادية”، وقد رصدت ما أثير حول أسماء النهر، الأمازيغية والعربية منها، واختلاف الباحثين بشأنها، كما أبرزت ما لعبه هذا النهر من أدوار استراتيجية، سواء من حيث انتشار الزوايا والأضرحة على ضفافه أو من حيث تموقع المواقع والمعالم التاريخية التي باتت تعاني اليوم من الإهمال، ووصفت نهر أم الربيع بأنه “أشهر خزان مائي على المستوى الوطني”، مستعرضة التهديدات البيئية التي تطاله، وكذا المؤلفات التي تناولته ضمن مقاربات تاريخية وجغرافية.
بدوره، استهل د. جواد التباعي مداخلته بتشخيص نقدي لوضعية الكتابات التاريخية ومدى هيمنة الرواية الاستعمارية عليها، لا سيما في “ما يتعلق بالمناطق الجبلية والهوامش التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي من طرف الجامعة المغربية التي ظلت منسجمة مع أنماط الكتابة التقليدية القائمة على التاريخ السياسي والسردي”، وانتقل التباعي إلى مساءلة مفهوم “التاريخ المورنوغرافي”، مركزا في هذا السياق على منطقة زيان، التي “تعد مجالا استثنائيا يجمع بين تضاريس السهل والجبل”، ونبه إلى “الحاجة الملحة لجمع وتوثيق الثروة الثقافية اللامادية للمنطقة، والاعتماد على المنسجم والمشترك في الرواية الشفاهية”.
واستحضر التباعي واقعة المؤرخ بلقاسم الزياني، الذي “اضطر إلى التخلص من صندوق وثائق ثمينة بإلقائه في مياه النهر خوفا من وقوعه في يد المستعمر”، ليتوقف عند العديد من المعالم التاريخية بالمنطقة، ومنها قصبة موحى وحمو الزياني بالقول إنها “لم تشيد من طرف هذا القائد، بل تم ترميمها في عهد المولى إسماعيل”، كما أشار إلى أن أكثر من 25 % من القناطر التاريخية بالمغرب تتواجد ببلاد زيان، فيما أبرز أهمية الموروث الفلاحي والصناعات التقليدية، متوقفا أيضا عند المخازن الجماعية، المدارس العتيقة، والأسواق الأسبوعية، وكذا خصوصيات اللباس النسائي التقليدي، فنون الوشم، الحلي، والأدب الشعبي، قبل استعراضه لجملة من التوصيات.
وبذات الجلسة، انطلق د. سعيدي المولودي في مداخلته من عنوان كتابه الصادر قبل سنوات “مداخل إلى الأدب الأمازيغي بالأطلس المتوسط”، ليقر بجرأة فكرية “أن بعض فصوله قد باتت متجاوزة اليوم، وهو ما يعتزم تداركه في طبعة ثانية مزيدة ومنقحة”، فيما استعاد تجربته الشخصية مع اللغة الأمازيغية، التي نشأ عليها وتشربها في محيطه القروي، دون أن يجد لها مكانا في الكتاتيب ولا في المدرسة العمومية، ما شكل أول “أشكال الإقصاء الرمزي لهذه اللغة”، واستحضر العراقيل التي صادفها، والتي ازدادت حدتها حين “قرر الاشتغال على موضوع الشعر الأمازيغي، فلم يجد حينها داخل الجامعة من يقبل الإشراف عليه، ما اضطره إلى التخلي عن الموضوع”.
كما لم يفت المتدخل أن يروي حادثة “تنحيته من الإشراف على صفحة أمازيغية بجريدة وطنية، وذلك بإيعاز من شخصية تتبوأ اليوم منصبا داخل مؤسسة تعنى بالثقافة الأمازيغية”، وانتقل بعد ذلك إلى تقديم مضامين كتابه، الذي قسمه إلى أربعة مداخل رئيسية تناول فيها الأدب الأمازيغي من زوايا النشأة، الخصائص، الإيقاع والجمالية، وقدم مقاربة ترصد التراكمات الإبداعية واللغوية لهذا الأدب وأصنافه من أفرادي إلى إزلان، تماوايت وثيفارث أو ثمليازت،مبرزا ما أسماه بـ “المدخل الأجناسي”، ليتوقف عند الإهمال الذي يطال بعض الأنماط الشعرية رغم أهميتها القصوى، منها “تامديازت” و”تماوايت” و”تيفيرين” باعتبارها تختزن ثراء فنيا وجماليا.
جولة ميدانية وتكريم عدسة
وبعد قيام المشاركين بجولة عبر بعض المعالم التاريخية التي تزخر بها المدينة، جرى تتويج الملتقى بتكريم الإعلامي والفاعل المدني محمد أباحسين الذي تميزت مسيرته بحضوره الدائم خلف عدسة ترصد أهم اللحظات التربوية والثقافية، وقد جعل من الصورة فعلا إبداعيا ومن التوثيق البصري رسالة إعلامية ملتزمة، وقد استعرض القاص حميد ركاطة فصولا من سيرة هذا الرجل، إعلاميا، جمعويا، فاعلا مدنيا، ومعتقلا سابقا خلال سنوات الجمر، كما شاركه في الحديث عنه كل من زميله ذ. محمد عياش، وابن قريته ذ. محمد زكري، بكلمات تفيض وفاء واعتزازا في لحظة اختلط فيها التأثر بالتصفيق، فيما ألقى المحتفى به كلمة حملت الكثير من الأمل… والكثير من الألم.