سعيد الخطابي
منذ اللحظة التي قرر فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية التقدم بملتمس رقابة ضد الحكومة، كان واضحا أن المعركة ليست مجرد تمرين دستوري داخل البرلمان، بل محطة نضالية واجبة ومسؤولة تهدف إلى كشف الأعطاب البنيوية التي تطبع أداء حكومة فقدت البوصلة وتخلت عن التزاماتها الاجتماعية أمام المواطنين . لقد أدرك الاتحاد منذ البداية أن ميزان القوى العددي داخل المؤسسة التشريعية لن يسعفه في إسقاط الحكومة، لكن الرهان لم يكن رقميا، بل أصبح سياسيا وأخلاقيا. والهدف الأسمى هو تفجير لحظة وعي وطني شامل تعيد الاعتبار للفعل السياسي الملتزم، وتخرج النقاش العمومي من حالة الصمت الممنهج التي تفرضها حكومة انغلقت على نفسها، وفقدت القدرة على التواصل العرضاني، وعلى قراءة نبض الشارع.
إن الحكومة الحالية، التي رفعت شعار الكفاءة والتكنوقراط، أصبحت عاجزة مع طبيعة الأحداث والمتغيرات التي تعرفها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة ومؤشرات التنمية المتهاوية وهول أرقام المديونية الصادمة ، سرعان ما كشفت عن جوهرها الحقيقي، حيث أضحت أمام الرأي العام حكومة بلا مشروع وطني، بلا رؤية اجتماعية، بلا إحساس بالألم الجماعي، تدبر الشأن العام بمنطق المقاولة لا الدولة، تحرر الأسعار وتنسحب من دعم المواد الأساسية، تسوق لانخراطها في إصلاحات كبرى بينما تضرب في العمق ما تبقى من مكتسبات الطبقات الوسطى والفقيرة. حكومة استسلمت لاملاءات السوق وارتضت أن تكون أداة تنفيذية لمصالح الأقلية، بدل أن تنحاز للغالبية التي تئن تحت وطأة الغلاء والبطالة والإقصاء.
وفي قلب هذه الأعطاب، يبرز فشل المخطط الأخضر الذي روج له طويلا كاستراتيجية وطنية لإنعاش الفلاحة وتحقيق الأمن الغذائي، لكنه انتهى إلى تعميق الفوارق وتكريس تبعية البلاد للأسواق الخارجية. لقد أُنهكت الموارد المائية في خدمة زراعات تصديرية تستهلك الماء أكثر مما تنتج الغذاء، وتم توجيه الدعم العمومي لفائدة كبار المستثمرين في سلاسل التصدير، فيما ترك الفلاح الصغير يواجه سنوات الجفاف وحده بلا تأطير ولا حماية ولا دعم . وموازاة مع هذا الفشل، نجد الحكومة تتبجح بمخططات لدعم القطيع وشراء الماشية، وهي سياسات تسند عمليا إلى لوبيات تحتكر الدعم، بينما تهمل المناطق القروية المهمشة وتقصى من حقها في العدالة المائية والغذائية. إن هذا النموذج الفلاحي المختل ليس سوى انعكاس آخر لمنطق التمييز المجالي والاجتماعي الذي يحكم اختيارات هذه الحكومة، ويجعل من التنمية ريعا موجها لا حقا مشروعا.
وفي مواجهة هذا الوضع، كان لملتمس الرقابة الاتحادي لحظة فضح ومساءلة، خطابا مباشرا إلى الشعب المغربي، نداء للمقاومة السياسية والمؤسساتية. وليس مجرد رد فعل على الأزمات المتلاحقة، بل كان تعبيرا عن تصور واضح للدور الذي ينبغي أن تلعبه المعارضة الجادة في زمن تغولت فيه السلطة التنفيذية، وابتلعت فيه الحكومة كل آليات التوازن الدستوري، واستقوت فيه الأرقام على القيم. لقد قدم الحزب من خلال هذه المبادرة تشخيصا دقيقا للاختلالات البنيوية، وفضح سياسات التفقير الممنهج، وسعى إلى بناء جبهة وطنية لمساءلة حكومة فقدت الشرعية الشعبية بعد أن تنكرت لوعودها، وامتنعت عن الإنصات، وأغلقت قنوات الحوار.
لكن حين سقط الملتمس برلمانيا وارتأى الحزب توقيف عملية التنسيق في هذا الصدد لغياب الجدية والمصداقية في تنزيل هذا الملتمس الرقابي من طرف بعض أحزاب المعارضة، لم ينته الأمر، بل انخرط الاتحاد في تدشين فصل جديد من المعركة، الانتقال من الرقابة المؤسساتية إلى الرقابة الشعبية. فحين تعطل الأغلبيات الميكانيكية دور البرلمان، يصبح من حق المجتمع أن يستعيد صوته، وأن يطالب بحقه في مساءلة من يحكمه. من هنا، يطرح الاتحاد الاشتراكي، بكل وضوح، أن الرقابة الحقيقية تبدأ حين يشعر المواطن بأن ما يعيشه ليس قدرا بل قرارا، وأن ارتفاع الأسعار ليس حتمية بل نتيجة خيارات اقتصادية منحازة، وأن الأزمة التي يعيشها الشباب والفلاحون والأساتذة والأطباء والمتقاعدون…. ليست ظرفية بل بنيوية، سببها الرئيسي حكومة فاقدة للإبداع وإيجاد حلول بنيوية من أجل إقلاع تنموي استراتيجي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات مشلولة، وتحالف سلطوي غير عابئ بالمجتمع.
لذا فالرقابة الشعبية هي دعوة صريحة للتأمل في الاختيارات والممارسات اللاشعبية لهذه الحكومة وليست دعوة للفوضى، ودعوة لإعادة الاعتبار للفعل السياسي النبيل .
هي نداء إلى التنظيم، إلى التعبئة، إلى الحضور في النقابات والجمعيات والجامعات والفضاءات العمومية، حتى لا تبقى السياسة حكرا على الأغلبية المصطنعة، وحتى لا تظل الحكومة في منأى عن المحاسبة. إنها معركة من أجل استعادة المواطن لمكانته، وتحويل الغضب الاجتماعي إلى طاقة تغيير ديمقراطي. وهنا، لا يمكن إلا أن نؤكد أن الاتحاد الاشتراكي، بانحيازه التاريخي للفئات الشعبية، وبعمقه النضالي، وبخبرته في التدبير، يملك مشروعية هذا النداء.
إن الأغلبية الحكومية الحالية، برهنت من خلال تواطئها الصامت، على أنها تعيش حالة ارتباك، وأنها بلا مشروع، بلا جرأة، بلا قيادة سياسية حقيقية تستمع لنبض الشارع ومرارة الواقع، لقد تركت الشعب يواجه مصيره، بينما انشغلت بتدبير حملات تواصلية إذاعية فارغة، أو بتوزيع الأدوار داخل منظومة حزبية هجينة. حكومة تغولت لأنها لم تجد من يردعها. وفي هذا السياق، يشكل موقف الاتحاد الاشتراكي لحظة فاصلة، لأنه أعاد السياسة إلى جوهرها الأخلاقي، وربط بين المعارضة البرلمانية والمعارضة المجتمعية، بين النقد والمبادرة، بين المرافعة والتنظيم.
من هنا، فإن الملتمس الذي تقدم به الحزب، وإن أُسقط رقميا، فإنه نجح رمزيا وسياسيا، لأنه طرح الأسئلة الحقيقية، وحرك المياه الراكدة، وكشف حدود التحالف الحكومي، وأعاد الاعتبار لوظيفة البرلمان كفضاء للنقاش العمومي. وها هو يتحول الآن، بوعي جماعي متنام، إلى ملتمس رقابة شعبي، يحمل في طياته صوت الفئات المتضررة، واحتجاجات المتقاعدين، وغضب المهنيين، وتطلعات الشباب الذين باتوا يعيشون تحت ضغط يومي خانق، في ظل غياب أي أفق سياسي بديل.
الاتحاد الاشتراكي، وهو يخوض هذه المعركة، لا يدعي امتلاك الحقيقة، لكنه يمتلك الشجاعة. لا يزايد على معاناة المغاربة، لكنه ينحاز لها. لا يركب الأمواج، بل يصنعها بالوضوح والجدية. لقد اختار طريق الصدق، وهو الأصعب، في زمن اختلطت فيه الأوراق، وتوارى فيه الكثيرون خلف الصمت أو التبرير. واختياره هذا، هو جزء من مسؤولية وطنية ممتدة، ترفض التطبيع مع الفشل، وتؤمن بأن المغرب يستحق أكثر، وأن الدولة الاجتماعية لن تبنى على أنقاض الكرامة، ولا على حساب العدالة، ولا على أنين الفئات المنسية.
إننا في مرحلة دقيقة، وليس الرهان له إسقاط حكومة، بل على إعادة بناء علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، منطقها المساءلة والمحاسبة وبين المؤسسات والمواطنين، على أساس الثقة والعدالة والمشاركة. وهذا هو جوهر الملتمس الاتحادي، أن نحاسب لا لنسقط فقط، بل لنصلح، لنقنع، لنحرك الإرادة الشعبية نحو التغيير. وهذا ما نؤمن به، وسنواصل النضال من أجله.
الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالحسيمة – عضو المجلس الوطني للحزب
تعليقات
0