في كل مرة تصدر فيها المندوبية السامية للتخطيط مذكرة جديدة حول تطور الأسعار، تتسابق الحكومة إلى استغلال بعض الأرقام لتبرير “نجاحات” مزعومة في التصدي للتضخم، دون أن تعير اهتمامًا للواقع اليومي الذي يعيشه ملايين المغاربة في الهامش الاجتماعي والاقتصادي.
الرقم الاستدلالي للأثمان عند الاستهلاك انخفض، تقول المندوبية، بنسبة 0,3% خلال أبريل 2025. ويفهم من ذلك، وفق الخطاب الرسمي، أن القدرة الشرائية شهدت بعض التحسن. لكن المتأمل في تفاصيل التقرير يدرك أن هذا “التحسن” لم يشمل المواد التي يعتمد عليها المغاربة في غذائهم اليومي. فالخبز، الحبوب، الخضر والفواكه، إما شهدت ارتفاعًا في الأسعار أو لم تنخفض إلا بنسب هامشية، لا تنعكس فعليًا على جيوب المواطنين.
الأكثر من ذلك، تُظهر الخريطة المجالية تفاوتات صارخة بين المدن. فبينما سجلت بعض الجهات انخفاضًا طفيفًا، عرفت أخرى زيادات واضحة، كما في فاس وطنجة و الحسيمة. ما يطرح السؤال من جديد: أين العدالة المجالية؟ وأين أثر مشاريع تقليص الفوارق التي رُصدت لها الملايير؟ بل أين أثر النموذج التنموي الجديد الذي بُشّرنا به؟
المقلق أيضًا، هو أن مؤشر التضخم الأساسي، الذي يُستعمل غالبًا كمؤشر “معدل ومصفّى”، يظهر ارتفاعًا سنويًا بنسبة 2,1%. وهو ارتفاع صامت، لا يراه المواطن في نشرات الأخبار، لكنه يحسه في ثمن كل قفة، وفي كل زيارة للصيدلية، وفي كل فاتورة ماء وكهرباء.
في واقع الأمر، لا يمكن فهم خريطة الفقر في المغرب من خلال الأرقام المجردة فقط، بل من خلال الواقع المعاش. ففي القرى البعيدة والأحياء الشعبية، لا يعني انخفاض الأرقام شيئًا حين يظل المواطن عاجزًا عن اقتناء الضروريات، وحين تنعدم فرص الشغل وتُستنزف الأسر في مواجهة تكاليف المدرسة والدواء والنقل.
لقد أصبح واضحًا أن هناك مسافة شاسعة بين لغة الإحصاء ولغة المعاناة. فخلف كل رقم “إيجابي”، تختبئ قصة أسرة تكافح من أجل البقاء، وشباب بلا أمل، وفئات اجتماعية تشعر بالتخلي والنسيان.
إن مواجهة الفقر لا تكون بالتقارير الشهرية، بل بإرادة سياسية حقيقية، تستثمر في الإنسان والمجال، وتعيد توزيع الثروة بعدالة، وتكفّ عن صناعة المغرب في طبعتين: واحدة تلمّعها المذكرات الرسمية، وأخرى تطبعها قسوة الواقع.
تعليقات
0