
محمد رامي
في مغرب يتغنّى بالمناصفة والحماية الاجتماعية، ويضع في ديباجة دستوره الكرامة والعدالة والمساواة، ما زالت نساء يُنقلن إلى العمل كما تُنقَل المتاع. لا مقاعد، لا حماية، ولا ضمان لبلوغ الطريق سالماً. فقط “بيكوب” متهالكة تقل أربع عشرة امرأة، محشورات كما تُحشر السلع، في اتجاه الحقول.
فجأة، تنفجر إحدى العجلات. يفقد السائق السيطرة، وتنتهي الرحلة باصطدام عنيف مع سيارة أخرى. الحصيلة ثقيلة. أربع نساء فارقن الحياة في الحال، وخمس أُخريات يصارعن الموت، بينما يخلف الحادث جروحاً واضحة في الأجساد، وأخرى صامتة في الأرواح.
ما وقع لا يمكن اعتباره مجرد حادث سير. هو نتيجة حتمية لإهمال مزمن، ولسياسات عمياء تجاه نساء يشكلن ركيزة الاقتصاد الفلاحي، دون أن توفر لهن الدولة أبسط شروط السلامة والكرامة. فهذه المأساة لم تكن الأولى. من يتذكر شهيدات مولاي بوسلهام؟ من لا يزال يحمل في ذاكرته أسماء العاملات اللواتي رحلن في البراشوة؟ من يذكر الحادثة التي أودت بحياة إحدى عشرة عاملة بعد أن اصطدمت سيارتهن بجذع شجرة نتيجة انفجار إطار آخر؟
نحن لا نعدّ القتلى، بل نشهد على استمرار نزيف يستبيح أجساد النساء العاملات. نشهد على عجز دولة تفتخر بدستورها وقوانينها، لكنها لا تحمي طريق العمل. عجز لم يعد مقبولاً ولا مبرَّراً.
نتحدث كثيراً عن النموذج التنموي، عن العدالة المجالية، عن تمكين النساء اقتصادياً. لكن كيف نُقنعهن بكل ذلك، حين تكون كلفة العمل هي الحياة نفسها؟ أي تنمية تلك التي تنتهي عند مشرحة، لا عند باب بيت؟
من سبت الكردان تبدأ معركة النساء. لا تُخاض داخل المؤتمرات، بل تُخاض في مركبات مهترئة، وعلى طرق موحلة، وفي صباحات لا يعرفن إن كن سيعدن منها سالمات. تُخاض من أجل مقعد لا يُقتل فيه الإنسان، ومن أجل طريق لا يتحول إلى مقبرة مفتوحة.
هذه معركة الكرامة. كرامة لا تُكتب في شعارات، بل تصان عبر قانون نافذ، ومحاسبة لا تتأخر، وإرادة سياسية لا تتهرب. تعبنا من دفن النساء في صمت، ومن اختزالهن في أرقام باردة على صفحات البلاغات الرسمية. نريد وطناً يشبه وعوده، لا يعاكسها.
ما حدث في سبت الكردان ليس استثناءً، بل استمرار لمسلسل مأساوي يعرف الجميع بدايته، ويغضّ الطرف عن نهايته. أما الاستثناء الحقيقي، فهو أن تنتهي هذه الحلقة المفرغة بقرار شجاع: لا عمل دون نقل آمن، لا اقتصاد دون كرامة، لا تنمية تنجح فوق أنقاض الأجساد.
من تموت وهي في طريقها إلى لقمة العيش، لم تمت صدفة. لقد قُتلت، بتواطؤ الإهمال، وصمت الدولة، واستقالة الضمير العام.
تعليقات
0