تعيش واحات الجنوب الشرقي للمغرب لحظة فارقة بين البقاء والانقراض، إذ سلطت مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” في عددها الصادر يونيو 2025 الضوء على الأزمة المتصاعدة التي تهدد مستقبل هذه النظم البيئية النادرة، التي لم تعد فقط عنوانًا للخصب والجمال، بل أصبحت ساحة مواجهة مفتوحة مع التغيرات المناخية، واستنزاف الموارد، والزحف الصحراوي، ومخاطر الهجرة الجماعية من القرى إلى المدن.
في محاميد الغزلان، الواقعة على وادي درعة، لم تعد النخيل تغطي الأفق كما اعتادت الأجيال السابقة أن تراها. الرمال تتقدم كل عام، وقنوات الري التقليدية المعروفة بـ”الخطارات” بدأت تختفي تدريجياً تحت طبقات الغبار والحرارة. السكان المحليون يتحدثون عن تراجع مقلق في مستوى المياه الجوفية، وعن آبار ضحلة تحولت إلى حُفر عميقة لا يصلها الماء إلا نادرًا. في واحة الزاكورة، تتكرر نفس المشاهد؛ نخيل يحترق صيفًا، وحقول هجرتها الزراعة، وقصور طينية تهددها التصدعات بعد أن هجرها شبابها نحو المدن الكبرى.
تشير تقديرات رسمية إلى أن درجات الحرارة في المنطقة مرشحة للارتفاع بما يزيد عن 5 درجات مئوية بحلول نهاية القرن، في وقت تراجعت فيه التساقطات المطرية بأكثر من 40% خلال العقود الأخيرة. هذا التحول الحاد في المناخ يضع الواحات في مواجهة مباشرة مع خطر التصحر الكامل، خاصة في واحات ك ،تودغا، فركلة، الجرف و كلميمة، التي تُعد من أبرز مواقع التوازن البيئي جنوب شرقي المملكة.
في ظل هذا الواقع، بادرت الدولة، عبر مجموعة من الفاعلين العموميين والخواص، إلى إطلاق سلسلة من المشاريع والمخططات لحماية الواحات وضمان استدامتها البيئية والاجتماعية. فقد فعّلت “الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان” برامج تهدف إلى تثمين الموارد المحلية والحد من الضغط على المياه الجوفية، من خلال إدماج المضخات الشمسية الجماعية وتقنيات الري بالتنقيط، وتوفير دعم مباشر للفلاحين الصغار لتحديث أدواتهم الزراعية دون الإضرار بالفرشة المائية.
في محاميد الغزلان مثلًا، تأسست مدرسة محلية باسم “جذور الصحراء”، تجمع بين التعليم الموسيقي التقليدي والتربية البيئية، في محاولة لربط الأجيال الجديدة بثقافتها الأصلية وتثبيت سكان المنطقة في أرضهم. هذه المبادرة الثقافية ليست معزولة، بل تواكبها مبادرات أخرى لإعادة ترميم القصور الطينية، وتحويل بعضها إلى وحدات سياحية بيئية صغيرة تتيح مداخيل جديدة للسكان دون التأثير في البنية الهشة للواحات.
كما أطلقت وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، بشراكة مع منظمات دولية، مخططًا يُعنى بزراعة الأصناف المقاومة للجفاف وتطوير سلاسل إنتاج التمور المحلية، خاصة صنف “المجهول”، بما يضمن بقاء هذا القطاع كرافعة اقتصادية محلية رغم التحديات المناخية. في طاطا وفركلة، يُسجل الفلاحون المشاركون في هذه البرامج تحسنًا تدريجيًا في الإنتاجية، وتراجعًا في كلفة الري.
ورغم صعوبة الظرفية، لا تزال واحات المغرب تقاوم بعناد هادئ. فالمعرفة التقليدية في تنظيم المياه، وصيانة الواحة كمجال بيئي واجتماعي متكامل، تبقى أدوات ثمينة لمواجهة التغيرات. في المقابل، تتطلب المعركة الكبرى ضد التصحر والاندثار تعبئة وطنية ودولية مستمرة، تدمج السياسات العمومية بالمعرفة المحلية، وتربط التنمية بحماية التراث الطبيعي والإنساني.
اليوم، لم تعد واحات المغرب مجرد مناظر خلابة تتغنى بها القصائد والصور السياحية، بل أصبحت جبهات أمامية في الحرب ضد التغير المناخي، وفضاءات اختبار حقيقي لقدرة البشرية على العيش بتناغم مع بيئتها. فإما أن تنجح هذه التجربة المغربية في إنقاذ الواحات، أو نكون أمام خسارة لا تعوّض لنمط عيش عمره آلاف السنين.
تعليقات
0