في السنوات الأخيرة، أصبح مشهداً مألوفاً أن يسوّق بعض من يطلقون على أنفسهم صفة “السياسيين” لصورتهم عبر استعراض شهاداتهم الأكاديمية ومساراتهم المهنية، وتوظيف جيش من “المطبلين” لنشر سير ذاتية مبهرة مليئة بـ”الديبلومات” والإشادات المنمقة. هؤلاء يعتقدون أن تكديس الشواهد والمؤهلات الورقية كافٍ ليجعل منهم رجال دولة، بل ويحاولون فرض هذه الصورة على الرأي العام باعتبارها معياراً وحيداً لشرعية الترشح وتدبير الشأن العام.
يختار بعض المرشحين، ممن فشلوا في كسب ثقة ساكنة المدن التي ينتمون إليها، الهروب نحو القرى والمناطق النائية للترشح هناك، متذرعين برغبتهم في تنمية تلك المناطق واستثمار علاقاتهم ومستواهم التعليمي لخدمة الساكنة المحلية.
لكن الحقيقة المؤسفة أن أغلبهم لا يحمل مشروعاً تنموياً حقيقياً، بل يهربون من بيئة تعرفهم جيداً وتدرك محدودية كفاءتهم، إلى فضاء مجتمعي محافظ وبسيط، يتطلع بصدق إلى تحسين ظروفه.
فيستغلون طيبة هؤلاء السكان، ويبيعون لهم الوهم بعبارات منمقة ووعود فارغة، ليحصدوا أصواتهم، ثم ما يلبثوا أن يعودوا فور نجاحهم إلى مدنهم ، منتشين بانتصار سياسي زائف، بينما تبقى تلك القرى على حالها، تنتظر وعوداً لا تتحقق، وتنمية لا تأتي.
ليس من الخطأ أن يفتخر الإنسان بكفاءاته ومهاراته، ولا أن يُبرز مؤهلاته عند الترشح لمنصب عمومي. لكن الإشكال يكمن حين تتحول هذه المؤهلات إلى برنامج انتخابي في حد ذاتها، وكأن وجود شهادة عليا يخول لصاحبها بالضرورة القدرة على قيادة الشعوب وتدبير الأزمات. هذه مغالطة كبرى تسقط فيها العديد من “النخب الانتهازية” التي تسعى إلى مواقع السلطة عبر بوابة الواجهة الأكاديمية فقط، لا عبر الميدان أو خدمة المواطن.
تاريخ السياسة في العالم، بل حتى في منطقتنا، مليء بأسماء زعماء صنعوا تحولات كبرى وتركوا بصمات لا تُنسى، رغم أنهم لم يكونوا حملة شهادات عليا أو خريجي جامعات مرموقة. بل إن كثيراً منهم لم يُكمل تعليمه الرسمي، ومع ذلك، قاد دولاً، وخاض حروباً، وكتب التاريخ.
هذه النماذج تقف دليلاً دامغاً على أن القيادة والحنكة السياسية لا تُقاس فقط بعدد الشهادات، بل بقدرة الفرد على التفاعل مع قضايا مجتمعه، واتخاذ القرارات الحاسمة، وتحمّل مسؤولية الوطن.
أما أولئك الذين يسعون إلى مناصب التمثيل الحكومي فقط من بوابة الديبلومات، ويبشرون أنصارهم مسبقاً بـ”مناصب وزارية” في حكومة لم تتشكل بعد، فإنهم يفرغون العملية السياسية من مضمونها، ويجعلون الانتخابات مجرد مسرحية هزلية لا أكثر.
بل إن المنطق الذي يسيرون به يدفعنا إلى طرح سؤال ساخر وجدي في آنٍ واحد:
لماذا لا تُعلن الدولة ببساطة عن “مباراة” لولوج المناصب السياسية، وتضع شروط الولوج بناءً على الشهادات المطلوبة فقط؟!
هكذا، تصبح السياسة وظيفة إدارية كغيرها، وتنتهي المسرحية.
تعليقات
0