سرديّة الجبل وسؤال الهويّة في رواية: “حين يزهر اللّوز” لمحمد أبو العلا

أحمد بيضي السبت 5 ديسمبر 2020 - 14:41 l عدد الزيارات : 22777
  • المصطفى فروقي (°)

تقديم:

تعتبر رواية “حين يزهر اللّوز”* الصّادرة، حديثا، عن منشورات دار الفاصلة، طنجة ، المغرب، أوّل عمل روائي في السجلّ الإبداعي للناقد المسرحيّ المغربي محمد أبو العلا الذي دأبت مؤسسة الأدب على تصنيفه ضمن قائمة الباحثين والنقّاد .

وبانتقال المؤلف، محمد أبو العلا ،عبر هذا المنجز السّرديّ من عالم النّقد إلى عالم السّرد يكون كما قال ” أمبيرتو إيكو، متحدّثا عن تجربته الخاصّة، مثل ” حالة ذلك النّاقد المسرحيّ الذي يجد نفسه فجأة تحت أضواء الخشبة أمام كلّ هؤلاء الذين كانوا ، إلى عهد قريب ، شركاء له خارج الخشبة ” (1) مع فارق جوهريّ مكمنه أنّ صاحب “حين يزهر اللّوز” ناقد مسرحيّ فعلا وممارسة وليس افتراضا، وبالتّالي فإنّ فعل الانتقال لديه يصبح مثالا حيّا لتشخيص ما افترضه “أمبيرتو إيكوعلى سبيل التصوّر ، أو المثال ، لتوضيح حالته، كفيلسوف عاش تجربة العبور المتأخر إلى عوالم السّرد الرّوائي بعد مسار طويل في مجالي النقد والبحث السيميائي ، وهي التّجربة التي تجعل صاحبها ممثّلا يشخّص الأدوار المسندة إليه على الأركاح بعدما كان متتبّعا وفاحصا يتأمّل المشاهد و الفرجات من بعيد وينتج حولها خطابا واصفا يغني عبره تجربتي الإنتاج والتّلقي .

حين يزهر اللّوز” فرجة معرفية وسؤال عميق في معنى الهويّة :

إنّ المتأمل لعوالم رواية “حين يزهر اللوز” يجدها عبارة عن فرجة معرفية تتمظهر من خلال محكيات موزّعة بين السّارد (ادريس الفاكتور) وشخوص تخييليّة أخرى ( الجبلي ، العالية، العربي ساتيام ، موحى الدرامي، السهلي، المقدم علي، استاتي الجبل ،رحال ، القائد ،. ..) تشاركه نفس الفضاء الذي تجري فيه الوقائع وهو فضاء الجبل الذي سيصبح في الرّواية منبعا” سرديّا ” مركزيّا تنبثق عنه كلّ “المجاري” الحكائية في النص التي جعلت من تاريخ الأعالي تاريخا قابلا للمعاينة والتّحديد وذلك من خلال تشخيص مفصّل ودقيق للتحوّلات والحالات التي مرّت منها قرية منجميّة هي بمثابة عنوان هذا الجبل القاسي ، جبل الرواية، وذلك في سعي للإمساك بما لا تمسك به الكتابة التّاريخيّة .

إنّنا لا ننكر حقائق التّاريخ ، ولكن بمقدورنا إعادة كتابته خارج رقابة المؤرّخين” (2) ولعلّ ذلك ما تطمح إليه رواية حين يزهر اللّوز” وهي تخوض ، تخييليا ، في كتابة تاريخ الجبل المغربيّ من زاوية مغايرة تروم إضاءة التّفاصيل والجزئيات المهملة وإنارة المغاوير المنفلتة من أضواء التاريخ المفهومي ومحاولة الإمساك بالخبايا الممتدّة في أعماق الذّات البشرية وفي وجداناتها وفي أحلامها وانكساراتها وذلك عبر المزج بين “الواقع “و”الخيال” بحثا عن الحقيقة الغائبة التي تستوعب حياة الأفراد والجماعات على حدّ سواء .

إنّ العمليّة السّرديّة في الرّواية لا تفكّر موضوع الجبل من خلال محكيات تعرض تفاصيل الحياة فيه محتفية بالهويّات الذّاتيّة والاجتماعيّة للشخوص ،فقط، بل أنّها تعمد بين الفينة والأخرى بدعم ما تسوقه من مضامين بوقائع او مقولات تاريخية مستمدّة من مدوّنات حقيقية (مذكّرات اوغسطين ليون كيوم ص 32، تقرير الجنرال كاترو ص 32 ، ليوطي ص 184، كباء العنبر لاحمد المنصوري ص ص 142و 143..) ، ان هوية الجبل والحالة هاته تتشكّل في خضمّ المزج بين “الحقيقة” كما يعرضها علينا التاريخ المفهومي و “الخيال” كما تشخصه محكيات الرّواية .

إنّ هويّة الجبل الحقيقيّة لا يمكن حصرها في موقعه وفي درجة علوّه عن سطح البحر أو في طبيعته الجيولوجية ونوعيّة غطاءه النّباتي وفصائل الوحيش فيه او في أنشطة القاطنة في مجالاته كما انه لا يمكن حصرها في سلسلة الأحداث التي عرفها وهو ما يمكن ان تقدمه لنا الموسوعة “ضمن ما يمكن تصنيفه في عوالم “الحقيقة” بل أن هويّته ، كما الهويات الأخرى، موزّعة بين الحقيقة والمجاز أو ما يطلق عليه “التّاريخ الشّامل” أو ما سمّاه بّول ريكور” : ” الهويّة السّرديّة” (3) وهي الهويّة التي انشغل السّارد في الرّواية بالبحث عن شظاياها في المدوّنات التّاريخيّة التي يذكّرنا بها من حين لآخر..

كما بحث السارد في الجزئيات العالقة بتفاصيل حياة الشّخوص (الجبلي ، العالية، السّهلي، موحى الدرامي، العربي ساتيام ، علال المينيرو، فقيه القرية، المقدم علي …) التي منحها الجبل ، كصوت سردي، الكلمة، في الرواية ، لتعبّر نيابة عنه عن بطولاته كما عن انتكاساته وانكساراته التي جعلت منه هامشا ينطق بكلّ أشكال القسوة بعدما كان في الماضي ، كما جاء على لسان بعض الشّخوص، يرفل في الرّخاء، خصوصا لمّا كانت القرية المنجميّة تعيش زمن ازدهارها قبل أن يتم إغلاق المنجم ويزحف الكساد على كل شيء..

حيث ستتوقف عقارب ساعة الحياة في القرية التي أتاها السّارد من السّهل ليشتغل بها بريديّا فوجدها قاعا صفصفا تئنّ تحت وطأة الفقر والصّقيع والقمع المسلّط عليها من لدن السلطات وأعوانها كلّما نبض فيها ما تبقّى من حسّ احتجاجيّ موروث عن تاريخ المنجم العتيق للمطالبة بفكّ العزلة عن القرية بتوجيه من “الجبلي” حارس المنجم الذي لا يتعب من حكي بطولاته كما لا يتعب من التعبير عن آماله في عودة عقارب الساعة إلى الوراء وعودة المنجم للحياة من جديد كما وعده بذلك أحد الأطر المنجميّة من الأجانب الذين غادروا القرية الى بلدانهم بعدما أغلق المنجم أبوابه .

إنّ الجبل ، في الرّواية ، يعيش ” الدّوام في الزّمن ” بتعبير ” بّول ريكور” من خلال أفعال دالّة على الصّمود ضدّ كلّ أشكال المحو والمسخ ، أفعال تم تشخيصها عبر ملفوظ سرديّ اعتمد أشكال أسلوبيّة مختلفة حسب ما يمليه سياق الأحداث وما يقتضيه إيقاع الحكي” و يتطلبه ” نفس السّرد ” من انفتاح أو انكفاء ، حيث أنّ السّرد في حالات الانكفاء على الذّات ” يأكل من نفسه ” ويستمدّ كامل ممكناته من مرجعيات تستمدّ مقوّماتها من طاقات انفعاليّة لا من وقائع موضوعيّة. ” (4) ، ممّا يسمح للسّرد الشّاعريّ بالطّفوّ على السّطح وتصبح الطّاقات الانفعاليّة للسّارد موردا لتشكيل العالم الحكائي بعيدا عن الوقائع الخارجيّة ..

ويحدث ذلك في الرّواية كلّما ضاقت أحياز المساحات التي تتحرّك فيها الشّخوص او كلّما “تعب” السرد من النّظر الى الخارج او كلّما انشغل السارد بالغوص في دواخل الشخوص حيث يصبح الشعر “سيّد الكلام ” ( جاكبسون ) وتصير الاستعارة نافذة للتعبير عن مأساة ” هذه الجموع المنحدرة من بياض القمم أو الصّاعدة من سخم المناجم ” ( الرواية ص 119)، كما تصير أداة لتوصيف المحكيات، يقول السارد وقد انبهر بحكي ” العالية ” كثير من الحكي يتبخّر في الهواء إلاّ هذا المثخن بالموت فقد كان يعبر بي إلى عوالم غامضة مشرعة على سؤال كينونة تتداعى هنا كلّ لحظة أمام حتف داهم كما يتداعى للسيل جرف هار ، حكي يحرّض على تحبير ما يعبر الدّماغ من وميض قد يخبو للأبد ما لم يدوّن على التّوّ ، أليست الكتابة قيد صيد كما يقولون ” ( الرواية ص 43).

وفي مقابل أسلوب “التمطيط ” توظّف الرّواية أسلوب “التّحقين السردي”، حيث تتكاثف الأحداث ويرتفع إيقاع السرد كما حدث وقت هجوم قوات القمع على القرية وفي اثناء وصف حدث اعتقال الجبلي و أثناء عرض سيناريو احتجاز وفد السلطة وسط المنجم المهجور بتدبير من “العالية” زوجة “الجبلي” أو خلال وصف الزّحف الجماعي لسوق الأعالي أو للحظة اعتقال “العالية” والإفراج عن “الجبلياو عندما ساقت مياه النهر الغاضب جثة “علال المينيرووغيرها من الاحداث التي ارتجت القرية المنجميّة البئيسة تحت وقائعها ومعها باقي أطراف الجبل المعزول بفعل التهميش واستبداد السلطة وبفعل قساوة المناخ حيث يتسيّد الصّقيع في أرجاءه و يجثم الثلج على عروشه وقت الشتاء ليعيش الجبل يوميات  الحصار الأبيض” كما سمّاه السّارد في النص ّ الرّوائي .

وهي “احتقانات” يكسّر السّارد سطوتها و”رهبتها الفنَيّة”، إن صحّ التّعبير ، بين الفينة والأخرى عبر توظيف ما أطلق عليه “أمبيرتو إيكو ” ، مستعملا معجمه الذي يمتح كعادته من الاستعارات الغابويّة : ” النّزهات الإستدلاليّة” (5) ويقصد به الحكي خارج القصة الأصلية حيث يعمد السارد في كل مرّة تقترب فيها الأوضاع من الانفجار الى مغادرة ” غابته السّردية ” للولوج بالقارئ الى فسحات جمالية تقطف تارة من الشعر (درويش في : “كيف يشعّ اللوز في لغتي أنا وأنا الصّدى” . ص130، والمتنبي حول “الموت الجبان” ص 160، ونصوص من روائع زوربا ص 129 ، رائعة الحبّ في زمن الكوليرا لماركيز)، وتارة أخرى من الادب المسرحي (شكسبير : الحياة مسرح كبير ، ص 202 ، )..

كما يقتطف من التراث الغنائي الشعبي(عيوط امباركة البيهشية ص 34 ، وخالدة ايناس ايناس لمحمد رويشة ص 206) أو من التاريخ ( ليوطي ص 184 في وصفه لمغاربة الجبال ب “البحر الهائج” ص 184 ، أحمد المنصوري في كباء العنبر ،ص 142و 143 ) ، وأحيانا أخرى عبر الارتكان لأسلوب الوصف الدّقيق للحالات والاشياء والأمزجة كما قام بذلك السارد عندما زار سوق الأعالي حيث وصف الوجوه الجبلية بدقة متناهية، كما وصف منتوجات الجبل من الغلال والثمار البرّية والأعشاب الطبية ووجوه النساء والرجال وهم “يتصافحون بودّ ويضربون مواعيد قريبة لن يحول دون تحققها هذه المرة حائل ، بعد أن ذاب الثّلج وازهر اللّوز وجرى الماء نميرا في الحقول ” ( الرواية ص 136.)…

وقد يختار السارد في مواقع اخرى النزول إلى غور الأعماق البشرية أسلوبا للتّهدئة وهو ما تحقق في الرواية عبر محكي الرسائل المنسية في مركز بريد القرية حيث كان السارد وهو بريدي القرية يفتح اكواما منها ،ضلت الطريق ، للاطلاع على ما تحبل به من أسرار كان كشفها اسلوبا مموها لتبديد كثير من الالغاز التي قد يصادفها قارئ النص الروائي (الصفحات 161- 164- -168- 169- في الرواية )..

ان الجولات الاستدلالية ” كما وقفنا عليها في النص الروائي جاءت لتحقق ما سماه امبيرتو ايكو” ” التّهدئة السّرديّة ” وهي أسلوب سردي وظّفته الرواية بذكاء لافت جعل حكاية الجبل في النص مندرجة بسلاسة ضمن محكي كبير عنوانه مفارقات الجبل كما يحكيها التاريخ وكما تقرّه الجغرافيا وكما يرسّخه المجاز عبر محكيات الشخوص في الرواية وهو ما يشكل في التئامه الهوية السّردية ” للجبل كهوية مركبة، كما أسلفنا الذّكر ،تجمع بين الواقع والخيال .

خاتمة

وأخيرا فإنّ رواية “حين يزهر اللّوز” للكاتب والمبدع محمد أبو العلا الذي أدمنّا صورة البحّاثة فيه تعتبر في تقديري نموذجا للانتقال المبدع والخلاّق في الكتابة من لغة المفاهيم إلى لغة التّخييل والتّشخيص، إنّها تحقّق إبداعي يمكن أن ينافس بقوة صفة الناقد المسرحي للكاتب وهي الصّفة أو العلامة التي ميّزته على امتداد عقدين من الزمن كما انها عمل إبداعي سيمنحنا لا محالة صورة مغايرة عن كاتبها كمروّض جديد وبارع للّغة السّرديّة كلغة مطلوبة لتشييد الهويات الضّائعة التي يبدو ، حسب ما تبشر به الرّواية ، انها تشكّل إحدى الأحلام التي يطاردها الكاتب .

* “حين يزهر اللّوز” ، رواية ، محمّد أبو العلا ، دار الفاصلة للنّشر ، طنجة ، المغرب ، ط 1، 2020.
(1)  أمبيرتو إيكو ، آليات الكتابة السّرديّة ( نصوص حول تجربة خاصّة ) ، ترجمة وتقديم : سعيد بنكراد ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، ط 1 ، 2009 ، سورية ، ص 37.
(2) سعيد بنكراد ، الزّمنيّة واحتمالات السّرد ، مجلة علامات ، عدد 52، 2019 ، ص 07.
(3) بول ريكور ، عن سعيد بنكراد في :
–  السيرة الذاتية ، التاريخ وممكنات الهوية السرديّة ، سعيد بنكراد ، مجلة علامات ، عدد 38 ، 2012.
–  شخصيات الرواية وأشباح التّاريخ ، سعيد بنكراد ، مجلة علامات ، عدد 43 ، 2015.
(4)  سعيد بنكراد ، السّرد و التجربة الحسّية ، مجلة علامات ،عدد 22 ، 2004، ص 11.
(5)  أمبيرتو إيكو ، تأملات في السرد الروائي ( ست جولات في غابة السرد ) ، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد ، المركز الثقافي العربي ، البيضاء ، ط 02، 2015.

(°) باحث في التراث الثقافي

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 10:51

المجلس الأعلى للسلطة القضائية يناقش مستقبل التكنولوجيا الحديثة في المجال ‏القضائي

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 06:41

يحيى الفخراني شخصية العام الثقافية بالمملكة المغربية

الإثنين 21 أبريل 2025 - 17:33

الداكي يزور رواق رئاسة النيابة العامة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط

الإثنين 21 أبريل 2025 - 10:55

وفاة الفنان المغربي محسن جمال…

error: