-
د. عبدالإله حبيبي (°)
تلميذ المرحلة الابتدائية كائن بسيط في تركيبته النفسية والبيولوجية والاجتماعية، شخص قريب جدا من الطبيعة، بعيد كل البعد عن لغة المؤسسات والقوانين والنظريات والدروس النظرية، هو كائن يحب أن يكتشف في المدرسة الكلمات والتصنيفات والترتيبات التي تساعده فقط على تنظيم جديد لما راكمته حواسه من إدراكات وصور وتمثلات.
ومن ذلك احتكاكه المباشر بالأشياء والناس والحيوانات والنباتات والجبال والوديان، وبالرعود والأمطار والفيضانات والمظاهرات وحوادث السير والأمراض، والأعراس ومباريات كرة القدم وبرامج الإعلام ومحتويات وسائل الاتصال التكنولوجية المعاصرة…لكن في العمق هو كائن لم ينفصم بعد عن الخيال الطفولي الشغوف بالحكي والانبهار واللغة البسيطة والمشاعر الهادئة…بنيته الرمزية لا تزال تتشكل ببطء شديد…
في البوادي تحقق بعض محتويات الكتب المدرسية شبه قطيعة مع الوسط الطبيعي للتلاميذ،حيث تقلهم في حافلات خيالية مصنوعة من قماش نصوص منتقاة من كتب عامة ليغادرون، وإلى الأبد، وسطهم الحيوي في رحلة لا تتوقف نحو اقتحام فضاءات غريبة، لكنها مركبة صورا وبيانا، إضافة إلى كونها كيانات ذات وجاهة بحكم أنها ترتبط بالمدرسة والمعلم والسلطة وبالتالي تحيل على قدسية أرضية قاهرة، أي الدولة…إنها أماكن جديدة، وحقول مستجدة، تتشح بحلة مزركشة بأواني بلاغية بدورها غريبة عن ذوق وذهن المتلقي الصغير…
لهذا عندما يفشل تلميذ البادية في العثور على شغل لا يفكر أبدا في العودة إلى البادية لتوظيف معارفه ومكتسباته، لأنه يعتقد أن مكانه الطبيعي أصبح هو المدينة والعمل الذي يناسبه هو عمل القدرات العقلية العالية، أما الأرض والحيوان والشجر والسواقي والمعطيات الطبيعية أصبحت بالنسبة له مصدر تعاسة لا مصدر معرفة وشغل وتحويل… وهذه من مفارقات منتوج مدرستنا الحالية…
قد لا يعي المخطط البيداغوجي أن هناك خيال سابق على المدرسة وجب، أولا، التحاور معه، والتواصل مع ما يحتويه من صور ومدركات ومشاعر وتمثلات، وذلك لجعله معبرا رفيعا منه ستمر تلك الحافلات النصية المعدة لنقل الصغار من عالمهم الطفولي الواقعي نحو عوالم ذهنية تفترضها الدروس التي لها علاقة بالتربية الدينية والوطنية والجغرافية والتاريخية والجمالية وغيرها…
إن تجاهل ما يتوفر عليه التلميذ من قوى متخيلة طبيعية هو سبب حرمان الدروس من إمكانيات ضخمة بإمكانها تحقيق دعامات نفسية وحسية ضرورية لجعل المفاهيم المدرسية المقترحة تأخذ طابع الكائنات المشتقة من متخيل طفولي لا مناص من الاشتغال معه والاشتغال عليه كوسيلة لحماية المتلقي من واقع الغربة والتباعد مع البرامج والمقررات الدراسية…
ولعل هذا المعطى البيداغوجي هو الذي يسميه عالم النفس الروسي ‘فيكوتسي” بالميتا – معرفي، أي القدرات فوق عقلية التي يشغلها التلميذ أثناء تلقيه معارف نظرية وهندسية محاولا وضعها في خانات ذهنية صورية يوظفها لتسهيل عملية استرجاع هذه المكتسبات المدرسية في مراحل لاحقة خاصة خلال عملية التقويم وإعادة الاكتشاف….أي أنه يتوفر على بنيات قبلية شبه عقلية يوظفها بشكل تلقائي في تلقي وتخزين المعرفة المدرسية وغيرها من المعارف المنظمة…
المدرس في هذه الرؤيا هو الوسيط البيداغوجي النشيط بين التلميذ ووسطه الحيوي من جهة، ثم هو المحفز لخياله الطفولي لجعله يشتغل بموازاة العملية التعليمية من جهة ثانية، لهذا فالطفل لا يمكنه التعلم والتطور في مساره المدرسي في غياب مدرس وسيط يساعده على التنقل بين الدروس ومعطيات واقعه، والتواصل بين الحقائق المدرسية ومعطيات خياله الطفولي…دون قطيعة عنيفة مع خياله الخصب وواقعه الغني والمتنوع والحامل لقيمة معرفية لا تقل عن قيمة الموضوعات التي تقترحها النصوص المدرسية…
من الفوائد الكثيرة لنظريات التعلم أنها تساعدنا على مساءلة البرامج التعليمية على ضوء خصوصية الطفولة ومراحل النمو العقلي، ثم أنها تنير طريق المخطط والمدرس والمشرف على العملية التربوية عموما على فهم آليات عملية التعلم في علاقتها بمتغيرات مركبة ومقعدة التفاعل والتقاطع… لهذا باتت مراجعة البرامج عملية مستعجلة لخلق التواصل والتناغم بين التلاميذ والمقررات من جهة وبين هذه الأخيرة والقواعد البيداغوجية والسيكولوجية التي تؤطر علمية التعلم والتعليم دون اختلالات في البناء والوظائف والرهانات من جهة أخرى…
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
تعليقات
0