ملحمة بدو سهل تادلة من خلال رواية “أتربة على أشجار الصبار” لعبد الواحد كفيح
أحمد بيضي
الثلاثاء 16 نوفمبر 2021 - 19:57 l عدد الزيارات : 24585
حميد ركاطة (°)
لعل قيمة الكتابة الروائية تتجلى في قدرتها على التعبير عن قضايا الواقع، وتطلعات أفراد المجتمع من خلال رصد معاناتهم، والكشف عن أحلامهم، وآمالهم، والتي من خلالها يحاول الروائي تقديم منظوره الخاص، ورؤيته النافذة لواقع مجتمعه. باعتباره شاهدا على مرحلة، ومعبرا عن أحوالها، وقضاياها الشائكة. و”الكاتب حين يتخذ طريقة أو أسلوبا ما في كتابة الرواية، فإنه لا يفعل ذلك بناء على اختيار عفوي يجري بمقتضاه التمييز بين التقنيات تبعا لبساطة بعضها أو تعقيد بعضها الآخر، أو أن بعضها يحقق جمالية من نوع وبعضها الآخر يقدم جمالية مخالفة.
إن ممارسة أسلوب ما في الكتابة تعبير عن رؤية جمالية وفكرية واجتماعية معا. ” فالكتابة في حد ذاتها، تضحى وسيلة لتحقيق أهداف، وليست مجرد ترف فكري، أو نزوة عابرة، كما تعتبر شهادة على مرحلة، وظرفية. فهي ليست تاريخا للوقائع، بقدر ما هي تعبير عن موقف ورؤية من زاوية ما، يرصد من خلالها الكاتب العديد من الوقائع دون إسقاط، أو ترف فكري، بل بواقعية وجدية، يطرح من خلالهما بموضوعية، رؤاه ومواقفه ضمنيا على لسان شخصيات، وأبطال عمله الإبداعي.
“فالروائي اليوم، بدافع أنه يتفاعل مع عصره، وأن وعيه مرتبط بتثقيف بيئته على الأقل، لا يمكنه أن يقف موقف الحياد من واقعه… فلا بد “أن نتساءل عن موقف الروائي وهو يتجاوز واقعه ليشكله على نحو محتمل. نؤكد هنا أن هذا الموقف، هو ما يتوج سمة الواقعية الروائية، والعمل الروائي بإمكانياته اللامتناهية، في قابليته للتحليل يتيح فرصة لا تضاهى في اتخاذ الموقف الاجتماعي إجمالا وتفصيلا، متعرجا مع تعرجات الذات- الموضوع، إن هذا بالتالي يعني أن الموقف في الواقعية الروائية ضروري لأنه يكمل صورة( المثال) الممكن المحتمل والمتخيل”
من هنا يمكننا مقاربة رواية” أتربة على أغصان الصبار” للروائي المغربي عبد الواحد كفيح، الذي حاول من خلالها توظيف مجال بدوي فسيح ،متمثل في سهل تادلا، ودواويره وقراه، لتوطين أهم أحداث روايته، مع انفتاحه على مجال حضري تمثل في مدينة ظلت مجهولة” المدينة الغول”. ظلت شخوص هذا العمل خائفة، ومتوجسة منها في البداية لكنها تبددت بشكل غريب في النهاية.
ولعل “سحر الرواية أنها تبحث عن الممكن والمحتمل، الذي بينه وبين ما نرى سعة لا تكاد ترى. وفي هذا السياق، تطرح الرواية العربية وضمنها المغربية على قارئها، في كل لحظة ، أسئلة مرتبطة بالذات والمجتمع، وهو أفق تشترك فيه غالبية النصوص المميزة. لكن لكل نص هويته في تشكيل النسيج الجمالي للقول السردي، يثري الكتابة باعتباره حقلا مشتركا لتشكل التخييل والبناءات المعرفية، ولكل روائي استراتيجيته في الكتابة، تعكس خصوصيته الفنية والأسلوبية.”
تادلة المجال والإنسان
تم التركيز في تشييد المعمار الروائي على المقارنة بين القرية والمدينة، وبقدر ما حاول السارد تثمين فضاءات القرية وأبرزها بشكل إيجابي، للكشف عن تفاعل الذات مع الأرض المعطاء، والكريمة، سيقدم لنا صورة مغايرة عن المدينة، باعتبارها وحشا إسمنتيا، يرتحق من القسوة والعنف، وهي السمة التي ستشكل القاسم المشترك مع البادية التي بدت أشد قتامة من المدينة،
ونفتح هنا قوسا للتنبيه، بأن” المكان من حيث هو كيان مادي يشكل جزءأ هاما من التاريخ الخاص (للعمل الروائي)، أي أنه ليس الأرضية التي تتوزع على خارطتها الأحداث، وليس هذا الشكل… المبني من الطوب والحجر والقصب.. وإنما هو ذلك الذي سيستحيل الفن بدونه أن يسمى فنا “فالسارد يكشف عن بساطة الحياة بدوار مريم وعن نسيج علاقات إنسانية لأفراد،” .. عاشوا حياة بسيطة، حيث الناس هناك كانوا كالصوف يدفئ بعضه بعضا… لا يبالون بالزمن.. متآلفين متعاونين.. راضين بما أفاء الله عليهم من نعم.. يعاقرون الأشغال المضنية بحماس.”
كما يصور جغرافية القرية من الأعلى، واصفا إياها بنوع من الحسرة ” السهول الخصبة التي ضاعت في لمح البصر، بعدما بقيت تضيق وتضيق إلى أن أصبحت على شكل مربعات ومستطيلات في حجم لوحات المسيد إلى أن التهمها الزعيم جملة وتقسيطا” ويقدم الشرقاوي صورة مثالية عن دوار أيت الربعي الذي نزل به بعد افتراقه عن عائلته، والذي يتشابه مع دوار مريم، حيث الناس يعيشون حياة ميسورة، وكل يمتلك حسب مؤهلاته وإمكانياته، و”من الله على أهله بوافر عطائه في أرض والضرع والزرع. أرض سقوية يعيش أهلها في سعة من غلال وإنتاج وفير من خضر وفواكه وثمار، بعدما استصلحوا الأراضي والفدادين، فصار خاصتهم وعامتهم من المزارعين الأثرياء، وزادت محاصيلهم الزراعية واستلذوا المكننة.. وأضحى لهم جميعا خدم وحشم وخماسون ورباعون، ورعاة لمواشيهم.
“ولعل سحر الرواية أنها “تبحث عن الممكن والمحتمل الذي بينه وبين ما نرى سعة لا تكاد ترى. وفي هذا السياق، تطرح الرواية العربية وضمنها المغربية على قارئها، في كل لحظة، أسئلة مرتبطة بالذات والمجتمع، وهو أفق تشترك فيه غالبية النصوص المميزة. لكن لكل نص هويته في تشكيل النسيج الجمالي للقول السردي، يثري الكتابة باعتباره حقلا مشتركا لتشكل التخييل والبناءات المعرفية، ولكل روائي استراتيجيته في الكتابة، تعكس خصوصيته الفنية والأسلوبية.”
في حين تقدم المدينة في صورة بشعة كوحش كاسر يأتي على الأخضر واليابس. خصوصا بعد الانتقال التدريجي من البادية نحو هوامش المدينة، ومن تمة نحو المدينة. ومن خلال استعراض مواقف شخصيات الرواية حول المدينة كمكان للعيش سنجد أن “الميلودية” كانت مترددة في البداية ومتوجسة من سفر ابنها محمد للمدينة” كانت …(تحثه) على البقاء معها وبناء بقعة الأرض التي احتلتها بالقوة، في حين كان هو يحبذ الاشتغال في أطراف المدينة ويحافظ على مهنته الجديدة” قرب باب السينما”.
وذلك راجع لكونها “عاشت في زمن ما كانوا يعترفون فيه بحياة المدن لما يسمعونه عنها من قبح وفساد وتهتك وضرب للسلوك الأخلاقي” وكانت تقارن بين المدينة والقرية، ” فوجدت نفسها في حيص بيص من سطوة المدينة. ففي باديتها العامرة كانت تعرف الكبير والصغير وسلالة هذا وقبيلة ذاك، بل وتعرف كل فروع شجرة الأنساب حق المعرفة. أما هنا فقد ألفت عالما من الإثنيات والسلالات والألسن المختلفة، كل يرطن بلسان” لم تتأقلم هي نفسها مع هذا التغيير الجذري”..
ونفس الأمر حدث مع ابنها محمد الذي عاد بعد غيبة طويلة في المدية ليخبر أمه وزوجته “أنها غول كبير يلتهم البشر من أمثالهم”، “وشعر بالرهبة تسكن في كل زاوية من زوايا (تلك) الغابة الإسمنتية المخيفة، وبين كل حي من أحيائها المتعددة” ومع ذلك رفض البقاء طوال حياته في أزقة الحي الصفيحي، وسيختار العمل بالمدينة رغم خوفه من المجهول يقول الراوي” لن أقبل أن أقدم نفسي لقمة سائغة تزدردها وحوش المدينة، وحتى إذا متنا من سيدفننا؟ بل لا مكان للدفن هنا.. هذا المكان أدنى بكثير من بيت كلب لأسرة متوسطة الحال”، ورغم أن الميلودية نفسها كانت تحثه على البقاء فإننا نلاحظ أنها كانت منبهرة من المدينة، وهو موقف لم لتفصح عنه لابنها ” يقول الراوي” أريد أن أقتحم تلك الأسوار العالية، وأعرف ما بداخلها”.
نفس الدهشة سيكشف عنها الراوي بالنسبة لمحمد الذي ظل “مندهشا بعدد النساء اللواتي تحررن من جزء كبير من ملابسهن… مستعرضات ممتلكاتهن الفاتنة بسخاء لزبون مرتقب.. وقد أشعلن السجائر ونفثن الدخان في حالات من النشوة…”، وبداخل نسيج الحياة المدينية، ومع مرور الزمن بدأ محمد “يسلك رحلة أخرى، من نوع آخر في عالم عدائي، لا مكان فيه للعواطف والبراءة والمشاعر الإنسانية”.
ونفس الأمر سيحدث بعد انتقال أمه من المزبلة إلى الجوطية، ثم نحو أزقة المدينة، للبحث عن عمل قار في ليلة ما قبل عيد الأضحى، رفقة ابنها وزوجته للقيام بعملتي نحر الأضاحي وسلخها صباح يوم العيد الكبير، فغنموا “بذلك مكاسب كثيرة”. وهي اللحظة سيحدث فيها تحول كبير في حياة هذه الأسرة، وستتمكن بعد ذلك من بناء بيت من الإسمنت، تناسلت قربه الأحياء العشوائية التي استفاد منها مقتنصو الفرص من أعلى سلطة في المدينة إلى آخر مسؤول في آخر درجة سلم المسؤولية” ” ودخل محمد غمار المضاربات العقارية ومشاريع البناء العشوائي وشجع غيره من السكان بتحويل براريكهم لمنازل صالحة للسكن.
بعد ذلك انتقلت الأسرة إلى المدينة، في قفزة نوعية وانضمت لركب الأسر الراقية. من هنا يمكننا النظر إلى المكان بوصفه “شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائي الذي ستجري فيه الأحداث. فالمكان يكون منظما بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر الأخرى في الرواية، لذلك فهو يوثر فيها ويقوي من نفوذها كما يعبر عن مقاصد المؤلف، وتغيير الأمكنة سيؤدي إلى نقطة تحول حاسمة في الحبكة وبالتالي في تركيب السرد والمنحى الدرامي الذي يتخذه”.
تكيفت الميلودية مع أسلوب الحياة بالمدينة بشكل سريع و”تمكنت بمعية يزة من اختراق جدار الصمت والحواجز والحدود المضروبة على ما جاورهما من بنايات باذخة، وفيلات فخمة، ونسجتا علاقة وطيدة مع سيدة من طراز، ومستوى رفيع الشأن.. الحاجة زبيدة البيضاوية”.. وتحول الخوف من المدينة، ومن محو الهوية القروية، وانسلاخ الذات من انتماءها الجغرافي، وطبيعتها الأصلية إلى تماه داخل الفضاء المديني القاسي، تبددت معه المخاوف والهواجس وتحولت إلى جرأة مكنتهم من المواجهة والصمود، لاحتواء وفرض السيطرة بالقوة مع توالي الزمن، انتقاما للذات الجريحة، وتنكرا للماضي القاسي بنوع من السادية الرهيبة. ليتم تصريف الألم للآخرين والتلذذ بعذابهم ومآسيهم.
يقول الراوي” اقتلعتهم الأقدار من جذورهم بعنف، واقتصت أوصالهم من قريتهم الهادئة المسالمة، وجرفتهم لحزام البؤس، تخلقت حياة أخرى أقسى وأمر، لتنبت لهم بعد ذلك أجنحة كواسر، ومخالب صقور جارحة، وغيروا جلودهم وتغيرت حالهم من حال لحال، فسلبوا كما سلبوا، واغتصبوا كما اغتصبوا واحتلوا بالقوة مدينة بأكملها كانت إلى عهد قريب ترهبهم. كل هذا في لعبة شد وجذب وابتلاع تناوبي لا متناه”.
ولعل هذا الاختراق على مستوى بنية الرواية ومعمارها، والتي حسب جورج لوكاش هي ملحمة بورجوازية، سيتغير مع عبد الواحد كفيح الذي سعى إلى ترييف الرواية، وتحويلها لملحمة لفقراء، وسكان الهوامش من بدو سهل “تادلا”، بحيث ظلت المواقف من المدينة تتباين حسب شخوص الرواية، وتختلف وتتضارب، حتى الأنفاس الأخيرة. فالكتابة “تخلق دائما مساحات للمعرفة والتواصل من أجل الفهم، لأن كل كتابة في جوهرها بحث بطريقة ما للتعبير والكشف عن شيء، أو اشياء متصلة بما هو ذاتي أو اجتماعي أو تاريخي”.
الاستبداد المبرر(كذبة الطاعون)
اقترن تأزم الأحداث بالرواية، بتحول الأوضاع بقرية مريم الهادئة، بعدما تمكن الداهية بوعزة من استمالة رجال السلطة، والسيطرة على السكان، فنصب نفسه حاكما فعليا علها. نهب خيرات أراضيها، واستغل ممتلكاتها العقارية، وفسح المجال لنزواته الجنسية مستهدفا بناتها ونسائها. وقد تمكن فعليا من ذلك بعد اخترع كذبة الطاعون، التي تمكن من الترويج لها بمساعدة حوارييه، وفقيه الدوار امديديش. وهي القضية التي ستحدث تحولا على مستوى بنية السرد، ومساراته داخل الرواية. وكانت من بين الأسر المستهدفة، أسرة الميلودية زوجة الفيكيكي، وابنه محمد وزوجته يزة، وانهما الشرقاوي. و من خلال هذه الأسرة ستنفتح أحداث الرواية على ثلاث مسارات يمكن إجمالها فيما يلي:
تداعيات الصراع مع الداهية بوعزة داخل دوار مريم
كان الفقيه مديديش يواجه شكاوى الناس بمبررات لا علاقة لها بواقعهم، معتبرا أن متاع الدنيا مآله الزوال، وأن الدنيا فانية بما رحبت. خطاب مكنه من أن يصبح فقيه القبيلة بامتياز. وبالتالي ساعد ولي نعمته، بمعية الأتباع، من أن يصير ملما بعوالم الغيب، فجعلوا له كرامات عديدة وبوأوه مقام الأولياء والصالحين وتحولت وجهة الناس من التبرك بالأضرحة إلى زيارة الولي الحي” لم تعد أضرحة الأولياء والسادات والصالحين والمزارات قبلة للمولعين بالتضرع والابتهال لهذه المدافن الباردة الصامتة” (ص 18). فقام زبانية الزعيم بنسج حبكة محكمة لترهيب الناس وتخويفهم بكون الطاعون يزحف كتنين نحو القرية معززين ادعاءاتهم بالعديد من الشهادات، والحكايات، التي تصف ثقل الطاعون وتداعياته.
وكان الهدف من هذه المناورات هو ترسيخ فكرة الموت في نفوسهم بشكل رهيب. للسيطرة على القرية، وسلب السكان كل ما يملكون، ليتمكن من إدلالهم. فهدد محمد العسري، الملقب بأزلماظ، ومنعه من استغلال فدادين المرس الفوقاني بدون إذن منه. وذهبت كل محاولات محمد ولد عباس سدى، لإقناع لحضور ورجال السلطة ببهتان ادعاء السي بوعزة ومناورته. وهو ما شكل بالنسبة إليه انتكاسة بالرغم من مآزرته من طرف احميدة بنداوود، ولكبير السالمي. فاضطر ولد عباس أن يصفي ما تبقى في حوزته من ممتلكات بسيطة وأثاث، ورحل عن القرية.
الرحلة الكبرى للأسرة البدوية
وسيبرز الراوي المعاناة الكبيرة للأسرة أثناء الرحلة، بحيث ستمنع من ولوج القرى والدواوير المجاورة بسبب تسريب إشاعة إصابة دوار مريم وقرى أخرى بالطاعون. وباءت كل محاولاتها للكشف عن حقيقة الطاعون بأنه مجرد حيلة التي استعملها الفقيه بوعزة لإغلاق منافذ قرية مريم ليتمكن من السيطرة على سكانها، بعدما أصدر أوامره بإغلاق كل منافذها. يقول الراوي” أصبحوا بعد تطواف طويل كالغجر لا أرض لهم، ولهم الأرض كلها بما رحبت” (ًص 60) وسيفترق الشرقاوي عن أسرته خلال الرحلة بعدما استقل عربة فلاحية نحو مكان مجهول، في حين واصل محمد العسري الرحلة مع زوجته وأمه الميلودية. إلى أن وصلوا للمدينة فاستقروا بحزام من أحزمة البؤس بها، فاستقطعت أمه من ذلك “الخلاء الشاسع ساحة فسيحة كومت فيها الصرر والقلل ومدلجات”.
ومن هناك ستبدأ حياتها الجديدة، بدءً من التنقيب في القمامة، إلى بائعة الخردة في الجوطية وبعد ذلك ستنتقل نحو المدينة. بحيث اهتدت في ليلة ما قبل عيد الأضحى إلى فكرة أن تقوم هي ومحمد بعملية الذبح والسلخ صباح العيد، وتغنم بذلك مكاسب كثيرة” (ص 109) وقد تمكنت من ذلك.
حياة الشرقاوي داخل قرية أيت الربعي
حلول الشرقاوي بدوار أيت الربيعي، شكل المسار الثاني الذي أنعش الرواية، وساهم في تناسل أحداثها وتطورها من جديد، من خلال تفاصيل قصة الحب المحرم التي بدأت تنمو من طرف الصالحة، والغيرة التي اتقدت في أحشاء زوجها الحاج حمادي الذي أحس بتورطها إلى حد أصبح من المستحيل عليه كبح نزواتها المرضية. وهو ما سيدفع به للتفكير في التخلص من الوافد الجديد بأساليب عديدة. لكن دون جدوى. فتأمزت علاقته بزوجته، في الوقت الذي أصبحت هي فيه مهووسة بالشرقاوي.
وذات خلاف صوبت نحوه فوهة بندقية وأردته قتيلا. لتسجن بعد ذلك وتصاب بالجنون في الوقت الذي ووري فيه جثمان زوجها التراب. وبقيت ممتلكات كبيرة في مهب الريح. وأصبح الشرقاوي المستفيد الأكبر من ثروة الحاج وزوجته الصالحة، غير أنه كان مهددا على الدوام بعلال الراعي وزوجته هنية.
وقد جسد انتقال الميلودية وابنها محمد من الحي الصفيحي نحو المدينة، المسار الثالث للرواية، وبدأت ملامح ذلك تبرز مع قرار الميلودية بتحويل البراكة إلى بيت من الإسمنت. بحيث كشف الراوي عن ما كان يخالج أفراد الأسرة من طموح وآمال. فالابن محمد كان يعتريه طموح كبير لامتلاك بيت كسائر الخلق، في حين كانت الميلودية ترغب في التخلص من عبء رفاة زوجها، وقد تمكنت من ذلك بعدما دفنته في أساسات المنزل الجديد. “دفنت الميلودية الرفات النخرة عميقا في الأسس قبل البناء وغطته بأمداد من تراب.. وتكون بذلك قد ودعت الفيكيكي إلى الأبد” (ص 272).
وبدأنا نلحظ نوعا من التحرر التدريجي على شخصيات الرواية ومكنهم، من التكيف مع ظروف الحياة الجديدة ومشاكلها الخاصة. فاقتنص محمد العديد من الفرص من خلال المضاربة في السكن العشوائي، وأصبح يعيش في بحبوحة بعدما ” توسعت مملكته “وطغى سلطانه وتجبر واتسعت رقعة نفوذه، سواء في بيت الحاج أو في قاعة السينما، أو الحارة وما وسعت، فبدأ يصول ويجول.. كانت له اليد الطولى للحاج عيسى الروبيو في الصفقة المناورة، بما لديه من وسائط في الإدارات ومعارف وسماسرة الربا ودهاة العقار”. فاستلذ حياة الربح السريع فازدادت لهفته لعالم المال وتحول لوحش كاسر بعد دخوله تجربة الانتخابات ونجاحه فيها ليتوغل في دواليب السلطة.
وهو الأمر الذي ساعده على تغيير النظرة السلبية للأسرة فالميلودية ستنزع عنها لقبها القديم”الميلودة التقشيرة” بالتفكير في الذهاب إلى الحج، ليتحقق لهم في النهاية الارتقاء الاجتماعي والتحول الطبقي والجمع بين المال، والسلطة والنفوذ، والمكانة الاعتبارية والقداسة.
وبالرجوع إلى الأسباب التي دفعت هذه الأسرة من الرحيل عن القرية فإننا سنجد أنها لم تختلف في سلوكها وممارساتها عن بقية الشخوص الأخرى بدوار مريم” كالزعيم بوعزة، والفقيه مديديش، “وهو ما يكشف عن الوجه البشع للجشع، وحب السلطة والمال، والجاه، وأن المجال مهما أثر في صاحبه فإن نوازعه العدوانية وتوقه للسلطة والجاه والمال يظل مستحضرا على الدوام، ويبرر ممارساته الاستبدادية في أيشع تجلياتها.
توظيف تقنيات الميتاسرد
الرواية العربية الجديدة “أصبحت… ورشا مفتوحا على التجريب، ولم تعد ذلك الخطاب الصافي الذي يحكي فقط أو يروي أحداثا واقعية أو متخيلة تقوم بتجسيدها بشكل من الأشكال شخصيات قد تكثر أو تقل بحسب طبيعة الرواية والرسالة المبتغات بل أصبحت خطابا منفتحا يتسع أفقه لاستضمار خطابات أخرى تقترب من السرد أو تبتعد عنه “” والكاتب حين يتخذ طريقة أو أسلوبا ما في كتابة الرواية، فإنه لا يفعل ذلك بناء على اختيار عفوي يجري بمقتضاه التمييز بين التقنيات تبعا لبساطة بعضها أو تعقيد بعضها الآخر، أو أن بعضها يحقق جمالية من نوع وبعضها الآخر يقدم جمالية مخالفة.
إن ممارسة أسلوب ما في الكتابة تعبير عن رؤية جمالية وفكرية واجتماعية معا. “وسيلمس متلقى رواية أتربة على أشجار الصبار بصمة الكاتب الفنية في مجال الكتابة، كشف من خلالها عن مخزونه القرائي الذي مكنه من خوض تجريب وتوظيف تقنيات الميتاسرد بشكل سلس في العديد من المقاطع التي كانت تحجم السرد بل توقفه بغتة ليتحول لحوار مباشر بين القارئ والكاتب. مع تغييب كلي للسارد، بل يتم إقصاؤه بشكل تعسفي، ليفسح الكاتب المجال لنفسه للتعبير عن مواقفه الخاصة، وإخبار المتلقي بالرغبة في تغيير مسار الحكاية أو عدم رضاؤه عن تطورات جديدة لا يرغب في أن تطال مصائر باقي شخوص عمله.
ولعل تكرار هذا الأمر له ما يبرره وسنقدم مجموعة من القرائن الدالة على هذا الأمر ، يقول الكاتب: “تخيل معي عزيزي القارئ، لو انفلت حيط السرد من يد الراوي، لا قدر الله وتشعبت الأحداث..” و” كان بالإمكان، وخلافا لكل التوفعات، أن نشعل حربا شرسة بين العجوز وطاقم أسرتها من جهة، والحكيم الفقيه من جهة ثانية، .. إذا لا حاجة لنا بحروب سرود استنزاف لا طائل من ورائها” .” ما أقساك من سارد أجلف، أحقا رأيت بأم عينيك كل هذه الأفعال الشنيعة؟ أم أنك تفتري عليهم دون أن يرف لك جفن؟” و”من أين له يا ربي بكل هذا المكر والخداع؟ من أين له بهذا القلب الرصاصي الحقود؟ من أي شيطان رجيم استوحى هذا العمل الشنيع؟…. لن تكوني يا الصالحة أقل منه أو أضعف منه”،
ويتكرر هذا الأمر ليصبح حديثا حميميا، دافئا، ملتحفا بجمالية تكرار رهيبة” ها هو عمر الرماش يدس في قلبه مكيدة، والحاج يدس في صدره مكيدة، والصالحة تدس في صدرها مكيدة، والشرقاوي .. هل تعلم أنني أنقب في كل زاوية مظلمة وفي ثنايا ذاكرة وقلب رحيم عن مكيدة، شيقة لا مجال فيها للصدفة- مستغلا كل لحظة شرود منك- حتى أوقع بك في شرك المكائد السردية الجميلة” .
فالقراءة المتفحصة توهم صاحبها بأن الرواية لا تصدر عن سارد خارجي وغيري للحكاية، ولكنها تصدر عن ساردين من صنف الحاكيين الداخليين، بل الحاكيين الذاتيين، ولعل ذلك الوهم ينجلي بمجرد ما نتملى النصوص المنتمية لذات غير معلنة، تخلق المحفز الأول لكل فصل، ثم تختفي تاركة الكلمة لشخصية من الشخصيات”.
توظيف المحكي الحلمي
يتساءل الأستاذ عبد الفتاح كيليطو في كتابة من شرفة ابن رشد” أليست رواية حلم هي سلفا تأويله، أي تحريفه؟ … هكذا إذن أنا أختلق وهما ! أحتمي وراء حلم لم أحلمه، بزعمكم، لكي أطالب بعدم المسؤولية والإفلات من غضبكم ! الحلم مغفور، إنه من عمل اللاوعي، ولا يعاقب الناس بسبب أحلامهم. ومع ذلك.. هناك أحلام لا تروى، تحت طائلة الموت، الحلم ” ركام من ليل قديم” كما يقول إله الغاب عند مالارمي ( الحق أنه قاله بصدد الكذب) يعامل بتسامح. يغض الطرف، هذا هو التعبير المناسب، على هذه الانحرافات. شريطة أن يكون الحالم… عن حسن نية”.
ولإضفاء مزيد من الواقعية عن العمل الروائي، فإن التركيز على الجانب النفسي لشخصيات الرواية يظل مطلبا أساسيا بل ملحا، من هنا لجأ الكاتب إلى الكشف عن نفسياتها وانفعالاتها، وأحاسيسها الحاصة بل عن قلقها، وهواجسها، وأحلامها وكوابيسها. والتي لا محالة كانت لها دلالتها الخاصة وبصمتها المثيرة المحملة بالعديد من الإشارات التي تدفع بفضول المتلقي لتكوين نظرة استباقية، أو البحث عن تأويل للأحداث. و”الحلم كتفجير وطاقة تدمر الواقع وتعيد بناءه وتشكيل ملامحه عبر اللغة والتخييل، وهي تجليات لتحقيق اشتغال المخيلة الروائية وتأسيس منحنى خاص في البناء والدلالة عبر الاستذكار والتشخيص، فالعلامات المكانية وإن كانت تحيل على مرحلة من مراحل التاريخ الوطني وعلى الذات الجماعية، فهي ذات الآن تؤشر على قلق فردي ومساءلة غير بريئة للذات والتحولات والمواقع والاختيارات.” يقول الراوي:” رأت الحاج في منامها يخرج من مهبل بقرتهم الصفراء براسه الأصلع … وعيناه كجمرتين ملتهبتين جاحظتين في الأرض”.
حكت لعجوز من بائعات البيض أنها رأت مرة أخرى في منامها سيول الدم تتدفق من أركان البيت كالجداول”، وأحيانا يتم تضمين القلق الخاص ببعض شخصيات الرواية ومعاناتها النفسية من خلال إدراج معاناتها مع الكوابيس يقول الراوي عن الصالحة “يرميها النوم من جديد في عوالم الكوابيس المزعجة… تبيت الليل كله تجري لاهثة إما هاربة مهرولة تتعقبها كلاب شرسة، أو ثعبان طويل يلتف حول رقبتها، وثارة تداهمها مشاهد بشعة كأن تجتز رأس الحاج بمنجل صدئ”..
كما يكشف عن أحلام اليقظة وصراع نفسي مرير لشخوص أخرى مثلا الشرقاوي الذي” اشتد به الهوس لمعرفة الفاعلة الليلية المتوحشة.. يحدق بدهشة في قبة السماء… عادت لتدعكه من جديد وتدعس جسده العاري هذه المرة وهو في عالم النشوة واللذة، إذ بالصالحة تهوي عليها بساطور جعلها تقفز من فوقه وتختفي في الفراغ.. عاد يلملم أشتات الكابوس المرعب.” أو الحلم الذي راود الميلودية” في تلك الليلة رأت في منامها أن الشرقاوي يرفع الغطاء عن وجهها ويقبلها قبلة طويلة بين حاجبيها، ثم يذوب في الظلام.
فالشخصيات في الرواية تحكي أحلامها وتجعل من الشخصيات الأخرى متلقيا لتلك الأحلام. ولطبيعة تلك الأحلام شكل اختراق الزمان والمكان، وتحقيق ما لا يمكن أن يتحقق في الواقع كما تسوقه الرواية أحداثا وفضاءات ذات طبيعة حلمية حتى وإن كانت لا تحدث في منام”
المحكي الجنسي في الرواية
تضمنت أحداث الرواية العديد من الصور التي كشفت بشكل جمالي عن تأثيث أحداثها بعلاقات متعددة بين بعض الشخصيات، عرت عن نوازع الذات وميولها، ورغباتها الأكثر إلحاحا، وعن غرائزها بشكل عفوي أحيانا، أو بفعل الإثارة الجنسية التي لا يمكن التحكم فيها، أو إخضاعها للمنطق والعقل، أو التكهن بعواقبها، ضمن ضوابط الدين والقانون، والشرع.. وهو ما شكل في الواقع محكيا جنسيا..
وهو “ليس مجرد علاقة بين الرجل والمرأة، (لأنه) طاقة أسطورية تنسج من حولها الأقاويل، وتؤسس لتحقيق الذات وبدء العالم، إنه بقدرته الخارقة فعل رمزي، لا يجنح نحو الاثارة وإنما يسعى إلى خلق لذة جمالية برمزيته التي تجعله حدا بين الموت والحياة، بين الفعل المباشر وبين ما يجعل منه أسطورة، لأنه يقع في اليومي والحلمي، ومن هنا فهو خلق للعالم بما يصاحب ذلك الخلق من سحر ودهشة وأسئلة حائرة و دواخل نارية لا تجد في الخارج سوى محاولات تعليل فاسدة، فنعود إلى الدواخل بحثا عن الاشراق، وتعود إلى الخارج لتجعل من الحدث حكاية لها روايتها على أطراف الألسنة، إنه تخييل الرواية للمحكي الجنسي، وهو ما يفسح المجال للتساؤل عن الكيفية التي تم بها تمثل الجسد داخل الرواية.
تمثل الجسد الأنثوي
يقول دافيد لوبروتون في كتابه أنتروبولوجيا الجسد “ليس هناك من شيء أكثر غموضا، بدون شك، في نظر الإنسان من عمق جسده الخاص. وقد جهد كل مجتمع بأسلوبه الخاص، لإعطاء جواب خاص على هذا اللغز الأول الذي ينغرس الإنسان فيه”. وقد تشكلت النظرة الذكورية إلى الجسد انطلاقا مما حدث بين شخوص الرواية من تجاذب، ونفور. فبالقدر الذي تتمنع فيه المرأة عن السقوط في حبال غواية الرجل، تنجلي خيوط صراع خفية بين الطرفين، لتكشف عن الأسباب من وراء ذلك، وعن تداعيات التهور أحيانا الذي قد يؤدي لعواقب وخيمة.
من هناك برزت شخصية الفقيه بوعزة الزعيم المكبوت، المتعطش للجنس، والباحث عن الملذات المشبوهة يقول الراوي ” كان الفقيه إذا رأى شيئا أعجبه توحم عليه، فيحصل عليه قبل أن يتمناه”.” فكان يتسلل… تحت جنح الظلام، وتحت غطاء أمني مشدد من أزلامه، كل جمعة لاقتحام خليلته، عبر مسارات ومسارب تجهلها حتى الكلاب… فيضي وطره، ويعود أدراجه بخفة لا يرى، الشيطان في زوبعة دخان. وتعود هي لفراشها تتجرع غصة الخيانة الاضطرارية كما تمكن من أن ينال من زوجة خادمه المطيع الفقيه مديديش الذي” تنازل عن هيبته لما قبل بمضاجعة زوجته عن طيب خاطر كما يروجون..
قصص غريبة وعجيبة تحكى عن علاقة العالم العلامة بزوجة المكي”وهو الأمر الذي أنزل هذا الأخير إلى مرتبة أقل من الحيوان، لا نظير له في عالم الرجال. كما تحرش بيزة زوجة محمد ابن عباس الفيكيكي، وكانت هذه الواقعة من بين الأسباب التي دفعت هذا الأخير بالرحيل عن القرية بعد الاستيلاء على أرضه عنوة. يقول الراوي” وأقبح ما يحز في النفس أن (الزعيم) اللئيم بعد ما فشلت محاولاته اليائسة في النيل من عرض يزة البربرية، ولم يفلح في تدنيس شرفها، أشاع عن زوجها محمد (أنه غير) مكتمل الرجولة وروج لرواية عجزه الجنسي.”.
وستكشف أحداث الرواية عن الأسباب الحقيقية وراء انتقام القائد من الزعيم بوعزة ” كون الدافع الحقيقي هو ” أن الزعيم قد تسرب لحريمه كالثعبان الأسود”. وإلى جانب مغامرات بوعزة تطفو صورة فقيه الدوار مديديش، الذي ضبط من طرف السكان متلبسا حيث ” اكتشفوا صدفة أن الشيخ… يخرج ليلا مترجلا، في سرية تامة، إلى بيت بعيد عن منزله، ولا يعود إلا مع مطلع الفجر متسللا، كالشبح مباشرة إلى المسجد، يصطحبه على الدوام شخص يحرسه”.
وعبر تتبع مسار شخصية محمد الفيكيكي، سنلمس أنه هو الأخر بعدما بدأ يتقوى، ويدرك قيمة ذاته سيخوض نفس التجارب والمغامرات الجنسية، وسيمارس سطوته على نساء أخريات كما حدث مع جابية السينما، والتي يمكن إدراجها ضمن العلاقات المحرمة. و علاقة مع السعدية زوجة الحاج عيسى الروبيو “. وتمت الإشارة إلى قصة حب عمر الرماش أحد أصدقاء الحاج حمادي للصالحة، الذي كان يطمع في إقامة علاقة معها. كما تتم الإشارة إلى واقعة اغتصاب انتهت بتصفية جسدية للمعتدي” انقادت (الصالحة) له ساعتها خشية الفضيحة، حتى إذا رأت الفرصة مواتية أجهزت عليه الليلة الموالية”.
فمن “مجتمع لآخر تتوالى الصور التي تسعى للتقليل ثقافيا من سر الجسد. إن عددا لا يحصى من الصور الغريبة ترسم بالنقط حضور موضوع زائل، لا يمكن إدراكه، ومع ذلك فهو موجود ظاهريا بشكل لا جدال فيه. إن صياغة كظلمة جسد، كجزء مستقل بشكل ما، عن الإنسان الذي يحمل وجهه تفترض مسبقا تمييزا غريبا عن العديد من الجماعات البشرية. فالجسد في المجتمعات التقليدية، ذات التركيب المتجانس، الجمعي، الذي لا يمكن تمييز الفرد فيه، لا يشكل موضوعا لانفصال، إن الإنسان يمتزج بالكون، بالطبيعة والجماعة”
تمثل الجسد الذكوري
وبالمقابل نلمس أن المرأة هي الأخرى كانت لها نظرة خاصة للجسد الذكوري، إما استحسانا أو استهجانا، وهو الأمر الذي عبرت عنه مواقف العديد من النساء داخل أحداث الرواية، وكشفت عن حرية في الاختيار واتخاذ القرار، وعن سلطة النساء، وسطوتهن ، وعن سلوكهن المرضي كذلك “فتصورات الجسد، والمعارف التي تبلغها تخضع لحالة اجتماعية، ولرؤية للعالم، ولتعريف محدد للشخص في داخل هذه الرؤية. فالجسد بناء رمزي، وليس حقيقة في ذاتها”. من هنا يمكننا ترصد علاقة السعدية زوجة الحاج عيسى الروبيو برجال آخرين أعجبت بهم كمحمد ولد عباس الفيكيكي، الذي تمكنت من إسقاطه في حبالها، بعدما تقربت منه “لما رأته من حسن الخلق وما تمتع به من بنية جسدية تهد الجدران والقلوب”، وتمكن بفعل تواجده الدائم في البيت- من التوغل عميقا في قلب سعاد زوجة الروبيو إلى أن ألهب فجورها وفاض له قلبها حبا”.
ورغم ما يبدو من تبادل للإعجاب بينهما إلا أن سلطة القرار والحسم النهائيين كانا لسعاد التي” ضربت له… ذات ليلة ضربتها القاضية، واعترفت له بحبها الكبير.. فاستطابت الإقامة بين أحضانه ولم تبغ عنه عوجا.. أضحت سيدة نعمه التي لا تفنى” (ص284) كما نستحضر قصة لامرأة أخرى الجبلية، والتي جاء ذكرها على لسان سعاد “فكانت تعيد على مسامعهن قصة فاطنة الجبلية التي أطلقت، هي كذلك العنان ذات عام لحبها الطائش، وتعلقت برجل في عقده الخامس ولديه أبناء وبنات، واستطاعا رغما عن أنف الجميع أن يشيدا عشا زوجيا دافئا موازيا للعش الشرعي حتى آخر رمق”.
ولعل سطوة المرأة، وتعلقها بالرجل ضمن علاقات الحب المحرم كان ضمن اللعب المكشوف عكس ما لاحظنا في قصص كل من الفقيه مديديش، وبوعزة الماكر، ومحمد الفيكيكي مع الجابية، وعموما يمكننا تصنيف هذا السلوك ضمن خانة السلوك المرضي، لما تميز به أصحابه من جرأة نادرة: فالصالحة زوجة الحاج حمادي”… تناولت سكينا… وضعت شفرته الحادة .. على نحرها مهددة إياه بوضع حد لحياتها إن هو تمادى في ترصدها وتتبع حركاتها وسكناتها”، عندما اعترفت له بحبها للشرقاوي. كما تمكنت من اغتصابه بعد تمنعه ومماطلته وتجاهله لها” زمت فمه بكفها واستأسدت عليه، أطبقت عليه، ومزقت سرواله ثم امتطته بطريقة بهائمية هائجة، وهصرته بذراعي رجل قوي.. حتى إذا ما قضت منه وطرها، انسلت في جنح الظلام ..”..
كما تجسدت نظرة المرأة للرجل وإرضاؤها المطلق له من خلال علاقة هنية وعلال الرباع والتي كانت “مهمتها الوحيدة في هذا العالم هي إرضاء علال”. في حين كانت هناك محاولة لتوظيف الجسد الأنثوي كوسيلة للإغواء والتوريط، كما حدث في المؤامرة التي حيكت ضد الشرقاوي مع بائعة البيض التي ” زين لها الحاج إغواء الفتى، وشجعها على مراودته عن نفسه في كوخه… وتنال مقابل ذلك مالا وفيرا.. فحذرتها (الصالحة) من محاولة التغرير بها”. كما نلمس من اعترفا سعاد زوجة الروبية للميلودية بخيانتها الزوجية، وباحت لها ببعض أسرارها الخاصة.” و أنها تشك إن كان جلال، إبنها الأصغر من صلب أبيه، أم نتيجة خطأ تاريخي ارتكبته مع واحد من خدام الحاج والذي طردته ذات غضبة عاصفة ولا تعرف عنه الآن أي خبر”
المرأة وتبضيع الجسد
سيتم تشيء الجسد الأنثوي، وتحويله لسلعة، متحكم في تصريفها وفق شروط محددة، ضمن سلسلة لتجارة الرقيق الأبيض، خصوصا بعد توطيد الميلودية لعلاقتها مع سعاد زوجة الروبيو، وسفرها للحج هناك ستكتشف أن صاحبتها تدير شبكة للرقيق الأبيض بالديار المقدسة، و” تتوافد على الشقة فتيات من كل الأعمار، أغلبهن مغربيات، (لم يجئن) للحج أو العمرة ولكن لأداء فريضة الطاعة والولاء للحاجة سعاد.. كل واحدة منهم تتأبط ملفات وأوراقا..” وهي التجارة التي ستستمر فيها رفقة ابنها محمد بحيث” تفرغت لعمليات “تهجير الفتيات للخليج”، كما اتخذها ابنها محمد من ضمن أعماله التجارية وصفقاته المربحة بحيث “أقدم.. على تجارة الرقيق الأبيض، فأغرى الكثير .. من فتيات حزام البؤس بالاشتغال بأعمال مشبوهة، تذر عليهن أمولا طائلة، تارة بعرق الجبين وتارة بعرق الجسد كله”
الحب العفيف
ولعل الصورة الوحيدة للحب العفيف جسدتها قصة الشرقاوي وزينة صديقة طفولته التي أبهجها وأبهجته سنوات وهما ينموان ويكبران كوردتين متعانقتين أمام أنظار الجميع” والتي ذكرت لحظة مغادرة الميلودية للقرية. وسيتم استرجاع بعضا من ومضاتها عندما تأزمت أوضاع الشرقاوي بعد قتل الصالحة لزوجها. فخلال هذه اللحظة الحرجة سيكشف الشرقاوي عما كان يخالجه من شعور إزاء حبيبته بقرية مريم، التي غادرها مرغما وهو يخاطب نفسه متحسرا” ليتك ما تركت أمك وأباك وجدتك. ليتك انتهزت الفرصة ليلة الهجرة الأولى وخطفت زينة، وهربت بها بعيدا إلى حيث لا أحد إلا أنت وإياها، أو ليس كذلك يا الشرقاوي؟”.
في نهاية هذه الورقة يمكننا الإقرار أن الروائي عبد الواحد كفيح وفي إطار مشروع إبداعي متكامل يضيف لبنة أخرى إلى صرحه المتين، بحيث ظل وفيا لبيئته، وأسلوبه، ولقضايا مجتمعه الصغير المتمثل في سهل تادلا الرحب والذي يشكل في الواقع مجرد بؤرة صغيرة، ونموذج يعكش واقع الحياة بالبادية المغربية. في إطار كتابة مضادة، عملت على ترييف الرواية، بنزع الطابع البورجوازي عنها، والهالة التي ظلت تحتكرها بانتمائها للمدينة. فتريف الرواية، ربما لم يكن عفويا، وإنما مقصودا، ومرتكزا على نظرة، ضمن مشروعه الكبير الذي بدأه مع القصة القصيرة، في بداية مشواره الإبداعي.
“أتربة على أشجار الصبار”، عمل روائي يستمد صاحبه اليوم من خلاله مكانة بالمشهد الأدبي المغربي، عن جدارة واستحقاق. وهي كذلك ملحمة بدو سهل “تادلا” التي رصدت معاناة شرائع واسعة من المهمشين من أجل البحث عن حياة كريمة، وكشفت عن طبيعة الصراع الأزلي اتخذ له أربعة محاور أساسية الأرض، والجنس، والسلطة. والدين. مربع ظل متحكما في أحداث الرواية ومجرياتها حتى النهاية، ولامحالة أن الروائي عبد الواحد كفيح سيعزز بعضا من مسارات هذا العمل الجاد بإصدار أجزاء أخرى ضمن مشروعه الروائي المرتقب.
المراجع
ياسين النصير، المكان الروائي، الموسوعة الصغيرة، دار الحرية للطباعة بغداد 1980
الرواية العربية – ممكنات السرد”، أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الحادي عشر، (الجزء الأول)ص 134
دافيد لوبروتون، أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، ص 6، بيروت : ط2/1997
مبارك ربيع، الواقع والواقعية الروائية ص 32 ، مجلة الآداب، السنة الثامنة والعشرون عدد2/3 سنة 1980
محمد الخوجة، تجليات المكان في السرد الحكائي العباسي، ص 19 فضاءات للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2009 الأردن
محمد عز الدين التازي، المرايا المهشمة – بحث في تنويعات الشكل الروائي، ص 53 منشورات اتحاد المغرب2014
ابراهيم الحجري، المتخيل الروائي العربي – الجسد الهوية الآخر، مقاربة سردية انتربولوجية، ص 15 دار النايا ط1 2013
حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي (الفضاء- الزمن – الشخصية)، ص 32، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 1990
شعيب حليفي، ثقافة النص الروائي، ص 154 شركة النشر والتوزيع المدارس الطبعة الأولى 2016
عبد الفتاح كيليطو، من شرفة ابن رشد، ص 64 دار توبقال للنشر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، الطبعة الأولى 2009
عبد الواحد كفيح، أتربة على أشجار الصبار، رواية دار أكورا للنشر والتويع، الطبعة الأولى المغرب 2021
(°) روائي، ناقد وقاص مغربي، من أعماله “جمالية القصة العربية القصيرة جدا”، “دموع فراشة”، “ذكريات عصفورة”، “مذكرات أعمى”، “أسرار شهريار” (عمل مشترك)، “حياة واحدة لا تكفي”..
تعليقات
0