الموت عند الصوفية: تجلياته في مجموعة “الذمة المعكوسة” لرضا نازه
أحمد بيضي
الإثنين 22 نوفمبر 2021 - 17:40 l عدد الزيارات : 55175
رشيد أمديون (°)
تقديم
لا يكتمل الفعل الإبداعي إلا إذا زامن الفعل القرائي ورافقه. فهو إعادة حياة جديدة للنص عند كل قراءة، لأن النص كائنٌ مُراوغ ومتحرك يتميز بالعبور والاختراق، كقوة لا تقبل الحدود، لكونه يتعالق بإنتاج القارئ من خلال ممارسة القراءة. ومن هذا المنطلق تتناول ه\ه القراءة تيمة الموت وتجلياته -داخل العالم القصصي للذمة المعكوسة (1)– ومفهومه الذي يرتبط بالدلالة اللفظية في الحقل المعرفي الصوفي.
مفهوم الموت عند الصوفية
الموت هو «زوال الحياة عن الكائن الحي» (2). وهو ضد الحياة” (3). أما في بعده الميتافيزيقي فهو انتقال من عالم المادة إلى عالم البرزخ، أو من الدنيا إلى الآخرة: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» (4)
وهذا المعنى بدلالته اللغوية المعجمية، له حضور داخل العالم القصصي للقاص رضا نازه، عبر قصص منها: “نعي كاذب” (5) و”ماهية من دم” (6).
وتأتي نصوص أخرى من نفس المجموعة، يصير فيها الموت مفهوما يتقاطع مع اصطلاحات الحقل المعرفي الصوفي الذي يزخر بالعديد من المصطلحات الخاصة التي تنتمي إلى معجم يعكس دلالات معان وأسرار باطنية وعرفانية وروحية، كقولهم: «نحن قومٌ لنا في المعاني أسرارْ» (7).
والموت عند الصوفية موتان «موت شهوات النفوس والأبدان بهدف التحرر من شئون التسفل والانحطاط. وموت تتخلص فيه الروح عن البدن وتحيا الحياة الإلهية الدائمة السعيدة» (8)، بما يعني قمع هوى النفس، لإحياء الارتباط الروحي للقلب بالله، قال تعالى: «إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (9).
كما أن مفهوم الموت عندهم «هو الحجاب (10) عن أنوار المكاشفات والتجلي» (11).
وقد طرحت قصة “باب دكالة” جدلية الموت والحياة في نسق فلسفي صوفي من خلال دلالتين رمزيتين هما بئر الماء والمقبرة، حيث قال السارد: «البئر ذات ماء إذن. تحت القبور ماء، تحت الموت حياة، نبعها يكفي أن توغل في الحفر قليلا، أو يكفي أن يصعد منسوب الماء كي ينبتوا من الأرض نباتا. ما بين الموت والحياة إلا درجة» (12). فإذا كان الماء يعبر عن الحياة وعن النماء: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (13)، فإن المقبرة تعبر عن الموت والسكون: «ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ» (14).
والمقبرة اسم مكان. موضع دفن الموتى، أي ما يدل على الموت. ووجود الماء تحت أرض المقبرة، دلالة على وجود الحياة.
بما يعني أن الحياة قد تخرج من الموت: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» (15). فكما يحيي الله الأرض بعد موتها، يُحيي القلب بعد موته/بعد قسوته…
الحياة والموت متلازمان حسب المفهوم الصوفي كما أوردنا سابقا، فلا تباعد بينهما، لهذا قال السارد: «ما بين الموت والحياة إلا درجة»، وهي درجة الانتقال والعبور. وقد يكون هذا الانتقال فيزيائيا أو نفسيا /روحيا عبر السمو والتطهر الروحي.
لهذا يحاول الكاتب أن يتناول هذا المعنى ويجعل له انعكاسا على مظاهر حياة المدينة وتجليات السكون بالمقبرة، قال: «ضجيج الحياة والسيارات وأنفاس المدينة الحرّى كما هو. لم أكن أسمع ذلك داخل السور. المقبرة عازلة. المقبرة على ذبذبات خاصة. كانت قديما في أطراف المدينة، خارج السور، لكن زحف الحياة اكتنفها حتى صارت مركزا. الموت لا يسكن الضاحية أبدا..» (16).
بما يعني أن السارد يقصد أن الموت مركز، والدائرة هي الحياة، فهو حين يقول «الموت لا يسكن الضاحية» يؤكد على المعنى بأبعاده الفلسفية الصوفية، بأن الموت هو الحقيقة المركزية في الحياة، فمن أراد الحياة الحقيقية فلابد أن يعيش حقيقة الموت وفقا للمفهوم الصوفي، لأن الموت «هو موت آفات النفوس التي تعوق العبد عن صدق التوجه إلى الله، والحياة الحقة هي التي يعيشها في رحاب الله، لأن النفس هي الحجاب الأعظم للعبد عن الله تعالى، ولا ينال العبد سعادة لقاء الله تعالى صحيح المعنى؛ إلا بمجاهدتها وقمعها وموتها.
قال بعضهم: ما الحياة إلا في الموت، أي ما حياة القلب إلا في إماتة النفس» (17). لهذا قال السارد في نهاية القصة: «الموت موتان.. موت النفس بالطاعة.. أو موت الروح (18) بالمعصية» (19). لأن المعاصي دلالة على موت القلب، وموته يعني تجرده من أي إحساس أو شعور بعظم الذنب، فلا يستاء من سيئة، ولا يُسَرُّ بحسنة. وهذا ما يوافق قول ابن عطاء الله السكندري: «مِنْ عَلاَمَاتِ مَوْتِ القَلْبِ، عَدَمُ الحُزْنِ عَلى مَا فَاتَكَ مِنَ المُوَافَقَاتِ، وَتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى مَا فَعَلْتَهُ مِن وُجُود الزَّلاَّتِ» (20).
أما موت النفس بالطاعة، فلأن الصوفية يعتبرون العبادات والطاعات المُقربة لحضرة الله تقهر رغبات النفس الأمارة، فتميتها الطاعةُ، لهذا قيل أن: «الموت هو التوبة» (21)، وفي القرآن: «فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» (22)، «فمن تاب فقد قتل نفسه» (23). أي قتلها بمجاهدتها، و«المجاهد من جاهد نفسه، فمن مات عن هواه فقد حيى بهواه عن الضلالة، وبمعرفته عن الجهالة» (24). وفي القرآن: «أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» (25).
بهذا فالسارد حريص على تحقيق هذا المفهوم الصوفي ضمن القصة وعبر الألفاظ والعبارات التي يختارها: (الحي/حجاب الغبار/أنفاس/أحييته/أحيا..)، وأيضا من خلال استرجاعه لصورة شخصية سائق الطاكسي الذي أقلَّهُ. واعتبره السارد امتداد سلالة أولئك الذين أحرقوا كتب الغزالي بسبب ما رآه منه من تشدد. (وهو عنده ميت يحتاج إلى إحياء قلبه)، قال: سألته من يوسف هذا؟ قال لي “بن علي “! وتبسم تبسم رجل من “الفرقة الناجية” وكل من عداه مشركون. ثم نطق مستبقا سؤالي: “كثرو علينا من الصّْلاحْ.. هَذْ هْلْ مراكش”» (26). فالسارد لم يعجبه رد السائق، وسوء أدبه مع ذكر اسم أحد الرجال السبعة، يوسف بن علي الصنهاجي، الذي يسمى باسمه حيٌّ بمراكش.
ونجد نفس هذا المفهوم يرخي ظلاله على قصة “خاتمة”، التي تستحضر ضمنيا حكاية من الأثر لإبراهيم بن أدهم مع سكران وجده يردد لفظ الجلالة. وطهَّر ابن أدهم فم السكران بالماء من أجل كلمة الله، فطهر الله قلب السكران بنور هداه (27).
وقد تجلى مفهوم الموت والحياة في هذه القصة، من حيث أنها تتقاطع مع هذه الحكاية في مضمونها (الذي صور شخصية السكران وهو مصر على صلاة الفجر جماعة بالمسجد) فشكلت متخيلا سرديا يحيل على الواقعي، من خلال ما يتمظهر في سلوك الناس من انطباعات وأحكام حاجبة لتمثل المفاهيم الجوهرية للإسلام في قلوبهم كالرحمة والحكمة والتبصر…
ونص” نعم لا” يعرج بنا إلى مقام من التجلي الصوفي وحالة من تواصل الأرواح وتلاقيها من خلال ما يُعرف عند الصوفية بالمشاهدة (التي تخص اليقظة والصحو) والتي تقابلها الرؤيا المنامية التي تكون في النوم، وهو عندهم الموت الأصغر (28)… كما يتناص عنوان هذه القصة مع تلك العبارة التي قالها ابن عربي لابن رشد عند لقائه به أول مرة، «نعم لا، وبين “نعم” و”لا” تطير الأرواح من مواردها، والأعناق من أجسادها (29).
بهذا نرى أن القاص استثمر مفهوم الموت الصوفي ليؤسس رؤية وجودية، قائمة على التأمل والتفكير ، كما يؤطر العالم القصصي للمجموعة برؤية عميقة، تساوق طرح معنى الحياة الذي يراه القاص أنه لا تتجلى حقيقته إن لم يعش الإنسان حقيقة الموت بالمفهوم الصوفي الذي هو قتل النفس بقمعها، أو ما يماثل التوبة. وفي ذلك حياة القلب ويقظته، وكل قلب حي يرى ببصيرة مجردة من غشاوة تحجب الحقائق.
جبران مسعود: الرائد، معجم لغوي عصري، دار العلم للملايين، لبنان، ط.7، 1992، ص: 780.
محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: مختار الصحاح، مكتبة لبنان، بيروت، 1986، ص: 266.
سورة العنكبوت، الآية: 57.
الذمة المعكوسة، ص: 97.
الذمة المعكوسة، ص: 107.
ديوان أبي الحسن الششتري: تقديم ودراسة محمد العدلوني الإدريسي، دار الثقافة للنشر، الدار البيضاء، ط.1، 2008، من موشحة بعنوان: سكرنا ينفعنا، ص: 203.
مجدي محمد إبراهيم: مشكلة الموت عند صوفية الإسلام، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط.1، 2004م، ص:317.
سورة الصافات، الآية: 84.
الحجاب عند الصوفية: هو ما يحجب المريد عن أن تنكشف له الحجب والحقائق والعلم، وهو «انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحقائق»(عبد الرزاق الكاشاني: معجم اصطلاحات الصوفية، تحقـ: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، ط.1، 1992م، باب الحاء، ص: 81). ويقول الغزَّالي: «يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، يلمع في القلوب من وراء ستر الغيب، شيء من غرائب العلم»(الإحياء، مكتبه كرياطه فوترا ،سماراغ، إندونيسيا، ج.3، كتاب شرح عجائب القلب، ص:18)، أي أسرار ومكاشفات تنكشف للمريد وتتجلى له، «وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ» (الإحياء، ج.3، ص: 18).
جميل صليبا: المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، لبنان، 1982م، ج.2، ص: 440.
الذمة المعكوسة، ص: 118.
سورة الأنبياء، الآية: 30.
سورة عبس، الآية: 21.
سورة الروم، الآية: 19.
الذمة المعكوسة، ص: 124.
مشكلة الموت عند صوفية الإسلام، السابق، ص: 318.
المقصود بالروح هنا – وكما عند الصوفية – القلب الذي قال عنه الغزالي في إحياء علوم الدين أنه «لطيفة ربانية روحية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم من الإنسان، وهو المخاطب والعاقب والمعاتب والمطالب» (الإحياء: ج.3، ص: 3).
الذمة المعكوسة، ص: 124.
بن عطاء الله السكندري: الحكم العطائية، شرح ابن عباد النفري الرندي، إعداد ودراسة: محمد عبد المقصود هيكل، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط.1، 1988م، الحكمة رقم: 48، ص: 203.
عبد الرزاق الكاشاني: معجم اصطلاحات الصوفية، تحقـ: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، ط.1، 1992م، باب الميم، ص: 110.
سورة البقرة، الآية: 54.
عبد الرزاق الكاشاني: معجم اصطلاحات الصوفية، السابق، ص: 110.
عبد الرزاق الكاشاني: معجم اصطلاحات الصوفية، السابق، ص: 111.
سورة الأنعام، الآية: 122.
الذمة المعكوسة، ص: 121.
ابن الملقن الأنصاري الأندلسي: حدائق الأولياء، دار الكتاب العلمية، لبنان، ط.1، 2009، ج.1، ص: 56.
قول ابن عربي: «والنوم موت أصغر، فهو عين الموت: من حيث أن الحضرة التي ينتقل إليها النائم، هي بعينها التي ينتقل إليها الميت سواء، اليقظة بعد النوم كالبعث بعد الموت» (سعاد الحكيم: المعجم الصوفي، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، ط.1، 1981، حرف الميم، ص: 1032).
محيي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، دار الكتب العلمية، بيروت، ج.1، ص: 235.
تعليقات
0