الرواية والجبل في “ثورة الأيام الأربعة” لعبد الكريم جويطي

أحمد بيضي الثلاثاء 1 فبراير 2022 - 00:08 l عدد الزيارات : 42361
  • حميد ركاطة (°)
تميزت رواية “ثورة الأيام الأربعة” للكاتب المغربي عبد الكريم جويطي، بمعمار متميز ، نسج من خلاله أحداث يوم رهيب، للحديث عن  ثورة ، بدأت “في مغيب اليوم الثاني من مارس عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين،(الذي) صادف يوم جمعة، حوالي السادسة والنصف مساء”. وكانت تهدف للإطاحة بنظام الملك الراحل الحسن الثاني.
تبدأ أحداث الرواية من منطقة  عين أسردون بمدينة بني ملال،  مرورا بمجموعة من المسالك الجبلية نحو “وادي إيرس”، الذي يتواجد ما وراء قمة جبل تاصميت. للسيطرة على إحدى الثكنات العسكرية.  وهي إشارات مكانية لها أكثر من دلالة على الحيز الجغرافي الذي اختاره الكاتب لتشييد عالمه الروائي، الذي يمكن اكتشاف بعض ملامحه، انطلاقا من عتبة الغلاف التي توحي بحيثيات ثورة ما، وبأمد زمني محدد ( أربعة أيام).
وهو أمر يدفع القارئ إلى شحذ حواسه، والإنصات لنبض شخصيات الرواية، وبالتالي تتبع أحداثها  للكشف عن تداعيات تلك الثورة المنشودة. فالعنوان ” يمكن اعتباره ممثلا لسلطة النص وواجهته الإعلامية التي تمارس على المتلقي ..إكراها أدبيا كما أنه الجزء الدال من النص .. الذي يؤشر على معنى ما..(و) وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه”.
فضاء الغلاف
و تبرز صورة الغلاف – وهي لوحة تشكيلية،- أهم مكونات العمل ومجال تحركات شخصياته، بل تلخص بإيجاز كبير، عمق فكرة كاتب الرواية، من خلال الكشف عن طبيعة العلاقة الجدلية بين مختلف تلك المكونات، وهي عبارة عن رسم للفنانة التشكيلية سميرة الكمري، يغلب عليه طابع العفوية الذي ميز أعمال الفنانة الراحلة الشعيبية طلال.
في أعلى الغلاف كتبت العتبة بخط عريض مباشرة بعد اسم الكاتب فوق خلفية رسمت بلون أزرق مفتوح. في حين يبرز إطار اللوحة في الأسفل، صورة سلحفاة وسط حقول فسيحة -وقد احتلت حيزا كبيرا من مساحة الغلاف- وهي متجهة في طريقها نحو الأعلى. بينما أثث عمق اللوحة  بقلعة شامخة، غير بعيد منها مباشرة على اليمن توجد صور لنساء ملتحفات بالأبيض فوق ربوة، تحاصرهن من الخلف ومن الأسفل، وجوه بملامح  باهتة، وصور رجال بعمامات بيضاء رتبت بعناية فوق بعضها البعض، داخل إطارات من نفس الجحم- كإشارة لمعرض “مقبرة” الصور.
وفي الجهة المقابلة يسارا، تبرز العديد من الملامح البشرية الباهتة، أما الصفحة الثانية للغلاف فكتب على ظهرها مقتطف من الرواية، ويغلب عليها اللون الأبيض مع احتلال اللون الأزرق لحيز صغير. وبالعودة إلى الألوان الموظفة فإننا نلاحظ هيمنة اللون الأزرق إلى جانب اللون الأسود، وقد تم تكسيرهما باللون الأبيض، في حين يبرز اللون الأصفر فاقعا، إلى جانب الأحمر على دبل السلحفاة.
كما تم توظيف اللون الأحمر كذلك، بشكل مركز أسفل الوجوه الشاحبة باللوحة، وجاء على شكل خطوط رفيعة، مشكلة من منحنيات وضعت مباشرة تحت صورة نساء الربوة،- وقد تعبر عن مجازر أو أودية دماء -كما تبدو قربها وجوه شاحبة لشخصيات مبهمة الملامح. وبقدر ما تساهم معطيات اللوحة في طرح بعض الأسئلة الأولية، والتخمينات، والاحتمالات عن مضمون الرواية، فإنها في الواقع تكشف بشكل ضمني عن تصور راسمها، وتمثله الخاص للعمل، وفق  ما ترسب في خريطته الذهنية بعد قراءة العمل الروائي.
من هنا نفترض أن قراءتنا للرواية، سوف تعتمد بشكل خاص على كشف العلاقة  بين دلالات بعض  الأيقونات (الأشياء)، والأمكنة، والشخصيات، كما تم تجسيد معطياتها داخل العمل الروائي وتأثيرها على الأحداث. وذلك حسب ما توفر لدينا من معطيات،  و من خلال ما استخلصناه من مواقف مشتركة بين شخصيات الرواية وأحداثها المتشابكة.
الفضاء الروائي في ثورة الأيام الأربعة
لقد هيمن المكان بشكل كبير، وتحول إلى مركز للأحداث، وهو أمر تجسد من خلال مواقف السارد من أحداث الرواية نفسها، يقول السارد للأمكنة” أرواح، للأمكنة مشيئة تنجزها من خلال أشخاص تصطفيهم، للأمكنة مكر، ولها جند شرس مدجج بحنين وذكريات وجنات طفولة ووجوه وعواطف تحكم به طوقها على كل محاولة للتحرر منها، للأمكنة وقائع وأحداث وصدف تخرجها في الوقت المناسب لتقول اهتمامها أولا مبالاتها بما أنت مقدم عليه. “فالمكان “حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرئيس” و”يمثل.. محورا رئيسيا من المحاور التي تدور حولها عناصره، لذا وصل الأمر  ببعض النقاد إلى القول إن الرواية تفقد خصوصيتها وأصالتها بالنتيجة حين تخلو من عنصر المكان” و”المكان يوازي في الأهمية عناصر الرواية المعروفة جميعا، بل يرتبط بكل تلك العناصر أو ببعضها أو بواحد منها في الأقل..
فبحسب ناقد عراقي معاصر، فإن المكان ليس خارطة.. في النص يكون المكان روحا ملموسة وهائمة.. ولا مكان بلا زمن، ولا زمن بلا مكان، حتى لو كان فضاء أو مخيلة” هكذا ” يكشف الفيلسوف الفرنسي هنري ليفيبفر في دراسته الرائدة” إنتاج المكان” عن وجود صراع مستمر بين مفهومين للمكان، الأول: مقاربة ذاتية تذهب إلى أن المكان في المحصلة النهائية، ليس أكثر من بناء يتخلق داخل عقولنا عن طريق مزيج من العمليات اللغوية والإدراكية. يسمى ليفيبفر هذه المقاربة: المكان العقلي، وتقابل هذه المقاربة مقاربة أخرى موضوعية تقرر أن المكان، في المرتبة الأولى، هو جزء من الواقع، تنتجه قوى طبيعية وتاريخية.
وعلى الرغم من أن العناصر التأسيسية تسجل في تمثيلات، تحدد اتجاهنا منحوها فإنه لا تزال توجد “حقيقة للمكان” يمكن أن تفحص بشكل علمي، وتتكون من مكون فيزيقي(طبيعي) ومكون عقلي(تجريدات منطقية وصورية)، ومكون اجتماعي. ويجب أن يؤسس تصور المكان على تكامل هذه المكونات الثلاث. وعلى حقيقة أن المكان معطى طبيعيا لكنه نتاج للقوى التي سبق ذكرها” وللمكان أبعاد، وقد “يصعب تصور رواية دون مكان، الذي قد يكون سطح الأرض أو باطنها أو في البحر أو في الجو، أو قد يكون ذهن الإنسان حتى، أو عضو من أعضاء جسده. ويصعب أيضا ألا يكون المكان أحد العناصر  المتعددة التي تشتمل عليها الرواية، مثل الأشخاص والأحداث والزمان. فهل المكان ضروري، ومهم بالفعل إلى حد كهذا؟”.
 إن الرواية “الحديثة، خاصة منذ بلزاك، قد جعلت من المكان عنصرا حكائيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد أصبح الفضاء الروائي مكونا أساسيا في الآلة الحكائية”. ” فعندما يذكر السارد أشياء من المكان فهي بمثابة علامات تدل عليه. المكان في الرواية إنما يقوم في خيال المتلقي وليس في العالم. فمكان كهذا تعمل اللغة على استثارته من خلال ما تمتلكه من قدرة على الإيحاء، ولذلك لا يعني استعانة الروائي بوصف المكان أو تسميته تصوير المكان الخارجي وإنما المكان الروائي لإثارة خيال القارئ”..
 إن مجموع هذه الأمكنة، “هو ما يبدو منطقيا أن نطلق عليه اسم: فضاء الرواية، لأن الفضاء أشمل، وأوسع من معنى المكان. والمكان بهذا المعنى هو مكون الفضاء. وما دامت الأمكنة في الروايات غالبا ما تكون متعددة، ومتفاوتة، فإن فضاء الرواية هو الذي يلفها جميعا إنه العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث الروائية.. إن الفضاء – وفق هذا التحديد- شمولي إنه يشير إلى “المسرح” الروائي بكامله. والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء الروائي”
لهذا فإن “الرواية الجيدة لا تستحضر أو تبتكر فضاء معينا إلا إذا أوجدت له منظورا ووزعت ظلاله وأضواءه بما يخدم استراتيجية الكتابة والقراءة معا. وأكثر من ذلك، وعلى حد تعبير ميشيل ريمون، فإن” كل رواية فيما يبدو لي، لها نصيب من الاتصال مع الفضاء”، إذ تكاد كل جملة في الكتابة الروائية تحيل على فضاء معين، أو تستحضر فضاء معينا ما دامت تعبر عن فعل يتم في الوجود، أو تقدم لنا حضورا ما في العالم… ذلك أنه إذا تخلى المحكي عن الفضاء، فإن السرد يستحضره بصيغة أو بأخرى. والعكس ممكن أيضا. بل إن المحكي هو الفضاء بعينيه، ” الفضاء الاستعاري بامتياز”
وفي “الحقيقة فإن الفضاء الروائي لا يتشكل إلا عبر رؤية ما، بل ويمكن القول بأن الحديث عن المكان في الرواية هو حديث عن محور عن رؤية ذلك المكان وزاوية النظر التي يتخذها الراوي عند مباشرته له. فالرؤية هي التي ستقودنا نحو معرفة المكان وتملكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الراوي ويدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه” و”لنقل إن الفضاء هو نوع من الوسط غير المحدد، حيث تتسكع الأمكنة، بنفس الطريقة المحسوبة. لكن كيف تحسب حركة أمكنة متسكعة؟ إن الفضاء لا يؤطرها لا يخصص لها وضعا غير قابل للتغير..
و”الفضاء” في الرواية هو أوسع، وأشمل من المكان، إنه مجموع الأمكنة التي تقوم عليها الحركة الروائية المتمثلة في سيرورة الحكي سواء تلك التي تم تصويرها بشكل مباشر، أم تلك التي تدرك بالضرورة، وبطريقة ضمنية مع كل حركة حكائية. ثم إن الخط التطوري الزمني ضروري لإدراك فضائية الرواية بخلاف المكان المحدد، فإدراكه ليس كشروط بالسيرورة الزمنية للقصة”..
وقد تضمنت الرواية مجموعة من الأمكنة، وظف بعضها لتأثيث بعض المشاهد، وبعضها الآخر شكل خلفية رئيسية، أو مجالا لتوطين الأحداث في فترة زمنية محددة. فالفضاء الروائي “لا يتشكل إلا عبر رؤية ما، بل ويمكن القول بأن الحديث عن المكان في الرواية هو حديث عن محور عن رؤية ذلك المكان، وزاوية النظر التي يتخذها الراوي عند مباشرته له. فالرؤية هي التي ستقودنا نحو معرفة المكان وتملكه من حيث هو صورة تنعكس في ذهن الراوي ويدركها وعيه قبل أن يعرضها علينا في خطابه.
 هكذا تمت الإشارة إلى (تادلا) باعتبارها رقما أساسيا في معادلة  القوى السياسية بالمغرب، تادلة التي تعرف بثوارها ومواقف رجالاتها يقول السارد ” لو خرجت كل المناطق الثائرة في هذا اليوم وتخلفت تادلا لكان الأمر مريبا جدا، إنها تقف والآخرون جالسون، وتتكلم والكل صامت، وتكرع كأس الفداحة كلها حين يراد القيام برشفة واحدة لحلحلة الوضع والإعداد لتسوية ما” وكذلك إلى خنيفرة، ومولاي بوعزة، وواد زم، والرباط، (مسرح محمد الخامس، والمكتبة الأمريكية،) كما جاء على لسان مول الشمعة أثناء حديثه عن الهجومات، والعمليات التي قام بها كوموندو من الثوار”
كما تمت الإشارة إلى قصر عين أسردون،” وكذلك  إلى بني ملال التي حازت مساحة مهمة داخل الرواية، وقد جاء الحديث عنها انطلاقا من مواقف مختلفة، شكلت إما تعاطفا مع أهلها لإبراز مكانتها الاعتبارية، أو تدمرا مما يحدث فيها، أو للكشف عن تاريخها النضالي التليد، وهو ما شكل  في الواقع  مواقف خاصة تجاه المكان، أفرزت من خلاله العديد من التدفقات العاطفية، والانفعالية لدى بعض الشخصيات، فعدي، ذكر أن اسمها ورد في رواية “توباز لمارسيل بانيول”، وزياد السمعلي الذي رأى فيها “المدينة البائسة اللامبالية و… تغرق في ليلها غير مكترثة بما يقع داخلها وبالقرب منها..
وبعد حين ستغرق دروبها تماما وتنبت فيها الوحشة القاتلة التي لا يليق بها إلا البكاء”، إلى جانب تسميتها قديما “بلاد الخوف”.. بلدة اشتهتها قبائل الجبل والسهل ولم يحميها منها لا سور ولا قصبة ولا مخزن، وحكمت عليها شريعة الغاب وسلسلة لا نهاية لها من الأحقاد والثارات المؤجلة وصلف المنتصرين وكبرياء المنهزمين الجريحة”، في حين كشف تاريخها الحديث عن قوتها وهيبتها إبان الفترة الاستعمارية ” فرنسا بمهابتها وعتاد فتكها نصحت المعمرين بأن لا يسكنوها لأنها غير آمنة وقريبة جدا من الجبل”. فهي مدينة ظلت منتمية “للبادية المتوحشة والخطيرة”. -ولم يكن فيها العمل السياسي كما في المدن الكبيرة بما فيها من سرية وتفاوض- هنا كان العمل السياسي الأوحد هو الجسارة والبارود، كما في حالتي الحنصالي وأحداث وادي زم”.
 في حين كشفت قمة جبل  تاصميت، عن طبيعة العلاقة بالمكان  التي نسجت من خلال ما ترسب للرائي من مشاعر وتداعيات نفسية، تم الكشف عنها عبر سياقات ودلالات متعددة،  فالرؤية الأولى لقمة الجبل شكلت دهشة وروعة ورهبة كما جاء على لسان زياد السمعلي ” لأول مرة أرى قمة تاصميت التي تشرف على المدينة من عرش أبديتها الجيولوجية، أراها بالتجزيء كتلة صخرية وراء كتلة كما يرى نمل يستكشف إنسانا ولا يرى جسدا، وإنما شعيرات ومساما ونتوءات عروق وبطاح جلد،”سرنا تجاه قمة تاصميت بعد نصف ساعة تقريبا”، وسيقدم مشاهداته، من خلال وصف مكوناتها الطبيعة والجيولوجية وتضاريسها الصعبة..” قرب قمة تاصميت أخلت الغابة مكانها لصخور هائلة متغطرسة وذات لمعان فضي يفحم سواد الليل، كأنها تملصت للتو في نوبة جنون أو غضب عاصف من أشجارها وتربتها وأرسلتها لتحت لتبقى عارية” .
ولا يكتفي الراوي بالوصف بل ينتقل نحو تمجيد قمة تاصميت، باعتبارها ” واهبة النور، تاصميت الصموتة الصبورة التي تولد الشمس من كتفها الأيمن، ثم تندلق على المدينة، تاصميت الفاتنة التي تخب نهديها للمدينة وتشيح خجلا عنها بوجهها، تاصميت القطعة الفنية الوحيدة الخالدة التي تمتلكها المدينة ولن تنال منها تقلبات الزمان، هي من شهدت المدينة وهي تولد وتقفر وتولد من جديد وتتداعى، وسجنت تطلعها للبعيد في صورتها هي فقط”
منطقة وادي إيريس/ قرية وادي إريس
بعد ذلك يقدم السارد منطقة وادي إيرس- حيز لم يتجاوز خمس كيلومترات مربعة – من خلال وصف مكوناتها الفاعلة ومعالمها الأساسية بحيث  بعد تحديد المكون الجغرافي، ينتقل لوصف مؤثثات القرية وجذورها التاريخية، انطلاقا من المؤسس الأول ” على اليمين يوجد دوار أيت سعيد أوعلي… وعلى اليسار دوار آيت داوود أو علي( 300 كانون).. ينتسب أهل الدوار إلى الشيخ الرباني علي بنسعيد حيمود” ، في حين يصف وادي إيرس بكونه” واد شبه أجرب يحيط به جرفان أحمران هائلان يمن كلتا الجهتين، ويمتد مسافة خمسة كيلومترات تقريبا. واد أشبه بقبر، توجد الثكنة في موضع الشاهد، وكزائدة دودية… تمتد في المنحدرين قريتان يصعب تقدير عدد دورهما”. 
وهذا الوصف الجاف، سرعان ما ستتفاقم قسوته ويتحول إلى جحيم عندما سيدرك أحد الشخوص، “زياد” حجم الكارثة التي تورط فيها مع الثوار  الذين اصبحوا محاصرين داخل سجن كبير” ” من يمكنه أن يهرب من وادي إيرس؟ كلنا أسرى وادي الجحيم”، حيث ” لا اختيارات كثيرة في وادي إيرس، فأينما ذهبت سأراوح في القفص نفسه”.
هكذا شكلت الطبيعة الجبلية بتضاريسها الوعرة، والقاسية سجنا طبيعيا لكل من يقطن بها،  ولا أحد  تمكن الفرار من قبضتها القاتلة.  فوادي إيرس لم تزدهر فيه طوال عقود سوى الأحقاد والصراعات والحروب حول ” المراعي الغابة، السوق، الطريق، الأحجار، الزقوم، البلوط، بهيمة شاردة، كلمة جارحة طائشة، حاربوا من أجل رؤية الدماء فقط، بلا سبب، بتلك الشهوة الأنانية التي لا تريد رؤية زاحم” واستطاع النهر بمفارقاته الغريبة أن يوحد بين الطرفين المتخاصمين، وفي نفس الوقت أن يفرق بينهما من خلال ما شكله من حدود طبيعية فالنهر ظل على مر العصور “الواهب والقاسي والحكيم والقاضي” لأن الخير كله يولد من ” المراعي، ويولد الشر كله منها، ولم يكن الوادي دوما إلا قاعدة خلفية لذلك المسرح الذي تدور فيه الأشياء الحاسمة، يستقر فيه الناس لكن أرواحهم هائمة وراء القطعان”.
فالهيمنة التي شكلها الجبل بمكوناته داخل الرواية جعله مركزا لكل الأحداث، بل فاعلا في تطورها في الكثير من الأحيان، وتحولت هواجس  بعض الثوار من التفكير في تغير النظام إلى التفكير في كيفية الحفاظ على حياتهم داخل هذا الفضاء. وهو  نفس الهدف الذي أجبر  الانسان على التكيف مع ظروف الحياة بالجبل بمتطلباته البسيطة وغير المكلفة، لأن البقاء على قيد الحياة كان هو الهدف الأسمى يقول الراوي ” البقاء حيا. لا شيء هنا أعظم من النجاة ومراوغة الأمراض والفقر الشديد والأفاعي السامة والصواعق والثلج ونوائب التاريخ”. ففي الجبل  ” لن يعطيك أحد اللقمة (هنا)، عليك أن تنتزعها من كل ما يحيط بك”.
ب – ماخور تودة
شكل ماخور تودة  كمكان، نقطة تحول ومنعطف خطير  في الكشف عن فشل الثورة المنتظرة، فبمجرد ما تمت السيطرة على القلعة، أعطي الأمر  للثوار  بالتوجه نحو الماخور، وأمر القائد بإغلاقه، وتزويج العاهرات برجال القوات المساعدة الذين كانوا متواجدين فيه لحظة مداهمته. وهو الأمر الذي خلف استياء عميقا، فعوض أن يركز الثوار اهتمامهم على تقويض أسس النظام الذي ثاروا ضده، تحولوا إلى  مصلحين اجتماعيين ضد الفساد الأخلاقي في مكان منسي من البلاد.
وقد كان لصاحبة الماخور تودة ردا قويا ”  أريد أن تفهمني لماذا تبدؤون دائما بحجور الناس؟، لماذا لا تبدؤون بعقولهم وبطونهم؟ أتعرف، لولا البنات هنا.. لاغتصب الجند كل من تخرج وراء حطب أو قطيع. اسمع، إن أردت إغلاق الماخور أغلق أولا الثكنة”. حكمة تودا تكمن في كونها تقدم مبررا لمفهوم الدعارة التي تنخرط فيها الفتيات المغتصبات بالإكراه، بسبب الاستغلال الجنسي، والذي يتسبب فيه الأقارب ومحيط الفتيات. ” لم يعد هناك ما يقال، ماذا يمكنك أن تقول لامرأة قررت أن تتمرد على حياتها، امرأة على وشك القيام بثورتها الخاصة على نفسها بدافع من ذلك السأم الوجودي الذي يقول لكل واحد منا إن الخلود في حالة ما فكرة خرقاء لا يؤمن بها إلا من لم يعرف في حياته شقاء التعفن في فعل الشيء نفسه كل يوم”.
لقد عرت عن قصور فهم الثوار لواقع الحياة بالجبل، وظروف سكانه، ومعاناتهم. و تطلعاتهم والمتطلبات الحقيقية لحياتهم  الآنية. كما نقل السارد صورة بليغة عن الحياة بدور الدعارة وهو يلج لأول مرة ماخور تودة ” الصباحات سيئة في المواخير لأن ما تراه فيها يشبه مناظر ساحة معركة بعد صمت المدافع والبنادق، دخان وأنين وتصدع ووهن وجثت وأشلاء مرمية هنا وهناك”.
ج – الثكنة
تكشف أحداث الرواية عن أحداث ثورة باردة، باهتة تفتقد للحماس، ولا يتوفر أغلب أعضائها على القدر الكافي من التجارب الميدانية، وقد برز الأمر من “العطب” الذي أصاب جهاز الارسال والاستقبال، والذي سيتبين فيما بعد أن الأمر لا يعدو أن يكون جهلا بطريقة تشغيله. وكذلك بالطريقة التي تمت بها السيطرة على القلعة، والتي اعتبرها البعض نجاحا باهرا.” تمت السيطرة على القلعة بنجاح”. في حين اعتبر البعض الأمر لا يعدو أن تكون “سيطرة لا أهمية لها على ثكنة بئيسة… “بعد معركة أطلق عليها معركة وادي إيرس، في حين كشفت المعطيات أنه ” لم تكن هناك معركة، ولم تسل دماء، خرمت جدران برج المراقبة بزخة الرصاص التي أطلقها القائد وكان هناك أسرى”، وهو ما أجج من سخرية الثوار أنفسهم على الوضع كما جاء على لسان التزنيتي” عوض أن نكون الآن وسط أشداء الجبل الذين قيل لنا إنهم ينتظرون إعلان الثورة ليلتحقوا بها، ها أنت ترى، لم نجد إلا ستة مخازنية بؤساء لا يقوون على الجري، ولا يفهمون ما يجري”،
و كما جاء كذلك على لسان زياد السمعلي” شيء ما بداخلي يقول لي إن ما تراه غير واقعي، غير متماسك، فيه عناصر متنافرة.. عناصر تفتقد خيطا ناظما يعقلها، ولا شيء، حقا في هذه المزق يمكنه أن يقاوم إغماض العين لهنيهة وإعادة فتحتها لتجده قد تبخر وكأنه لم يكن” فالمسؤول عن القلعة غائب باستمرار ومنشغل في تجارة المواشي. في حين  أن الذخيرة ،والعتاد، والأسلحة المتواجد بالقلعة قديم، ومتهالك. وهو ما يفسر أن تواجد القلعة التي تعتبر من مخلفات الاستعمار الفرنسي، ظلت فقط صورية من أجل إثبات هيمنة الدولة، وفرض سلطتها.
لقد أبرزت مكونات المكان، المتنافرة داخل العمل الروائي عن حالة من السكون القاتل، وشكلت بدلالتها المتعددة، وضعا ثباتا يخفي في طياته قوة جارفة، تعكس في الواقع طبيعة الانسان الجبلي، وقدرته الرهيبة على التكيف، والتعايش. كما عرى عن قصور الثوار –كغرباء-، وسوء فهمهم لخصوصية الجبل، وأسرار شموخه. وبالتالي عن بعض أسباب الحضور الباهت لباقي شخصيات داخل الرواية. 
قراءة في ملامح بعض الشخصيات
تتقاسم البطولة داخل هذا الفضاء الروائي مجموعة من الشخصيات، مع تفاوت في تأثيرها بنسب محدودة، لكن ما يميزها بالأساس هو هيمنة ” الجبل”-مكان- فاعل ومؤثر، بل موجه للكثير من الأحداث والوقائع. لقد تحول “الجبل “خلال هذا اليوم الأول من ثورة الأيام الأربعة إلى بطل حقيقي، وهذا يجرنا إلى طرح جريماس الذي “خلخل.. فردية البطل من واقع كثير من الأعمال السردية التي قرأها، ومن يتتبع الرواية العربية الجديدة، يكتشف مجالا ثريا من الشخصيات والحكايات والعلاقات، التي تشكل كل منها فضاءات محتملة لتحقيق البطولة وهو انفتاح أعاد النظر في المفهوم الواحد للبطولة كشخصية محورية في العمل الأدبي.
كما ارتقى بالبطولة نحو مسارات عدة ترافقت مع مسارات النقد الحديثة على رأسها البنيوية التي اهتمت بالشكل الأدبي، ودعت إلى التخلص من مقولة “البطل” بوصفها ذات دلالة مقصورة على المعنى فقط، نحو احتمالات عدة تناقش مفاهيم قيمية وجمالية متنوعة، تحل محل الشخصية التقليدية التي تركز على البطل الواحد”، و”يمكن اعتبار الفضاء الروائي بمثابة بناء يتم انشاؤه اعتمادا على المميزات والتحديدات التي تطبع الشخصيات بحيث يجري التحديث التدريجي، ليس فقط لخطوط المكان الهندسية، وإنما أيضا لصفاته الدلالية وذلك لكي يأتي منسجما مع التطور الحكائي العام”..
وبالعودة إلى قراءة سريعة في ملامح بعض الشخصيات، سنلمس أنها  تشترك في مجموعة من  الصفات المحددة، كالبطء، وعدم الاكتراث، وغياب الكاريزما،  باعتبارها صفات سلبية، لكنها مع ذلك لعبت دورا محوريا في توجيه أحداث الرواية، وقوبل حضورها بالكثير من الانتقاد، بل والاستصغار، إما من طرف الأخرين كما حدث مع سرمد المستهتر  واللامبالي، وزياد السمعلي المسالم الذي كان يمقت ذاته ويشعر بعدم الجدوى، وزطاورو النصاب الساخر، والقائد جيمس دين العابث والمتهور، والتزنيتي المنطوي على ذاته، و تودة  المرأة الغاضبة، ونساء الربوة العنيدات، ودوغول الذي فشل في تمثيل دور واحد أخلف من خلاله موعده مع التاريخ، فظل طوال حياته يلعب نفس الدور.. وهي شخصيات من بين أخرى كانت ضحايا سوء الفهم الكبير من طرف الآخرين. وكل “تصوير للشخصية إنما ينبع من وظيفتها، ضمن السياق النصي. وتصبح الشخصية الروائية إنسانية بالقدر الذي تستطيع وظيفتها أن تساهم في إقناع المتلقي بصدق العالم التخييلي. وهناك إلحاح قوي من فئة عريضة من النقاد على إضفاء وظيفة اجتماعية خارجية على الشخصية الروائية”
يشير فيليب هامون إلى” وجود ثلاثة أنواع من الشخصيات: شخصيات مرجعية، شخصيات إشارية، وشخصيات استذكارية، فالأول يحيل على عوالم مألوفة أو محددة، والثاني تشير إلى شخوص ناطقة باسمه.. أما النوع الثالث من الشخصيات فيكمن دورها في ربط أجزاء العمل السردي بعضها ببعض، ويحتاج الامساك بهذا النوع من الشخصيات إلى الأمام بمرجعية السنن الخاص بالعمل الأدبي” فهذه الشخصيات تقوم، داخل الملفوظ بنسج شبكة من التداعيات والتذكير بأجزاء ملفوظية من أحجام متفاوتة (من الجملة، كلمة، فقرة) ووظيفتها من طبيعة تنظيمية وترابطية بالأساس.
إنها علامات تنشط تتحول إلى مرجعية داخلية لا يمكن فهم الأحداث دون استحضار هذه الذاكرة”،ويقدم لنا مانفرد مجموعة من أنواع الشخصيات “التي تتمايز فيما بينها كـ (الشخصية؛ الثابتة، والمستديرة، والمعاكسة، والكورالية) وكلها شخصيات تظهر في الرواية بوصفها علامات لها هويات وأبعاد تحددها مجموعة الأدوار التي تقوم بها كل شخصية، بحيث تكون متناغمة في خطابها السردي الذي سيؤسس النص. ولأن «الإيديولوجيا تحوِّل الأفراد إلى ذوات» – كما يقول دانيال تشاندلر في (أسس السيميائية)، فإن الشخصيات في النص الروائي بوصفها ذات هُوية إيديولوجية في الأصل فإنها تجعل من الشخصيات ذواتا أثناء الممارسة التأويلية”، من بين هذه الشخصيات نستحضر:
 سرمد السلحفاة الحكيمة.
 لم تحض هذه الشخصية المؤثرة داخل العمل الروائي بما يليق بها من أهمية، سيما وأنها الحديث عنها جاء مرتبطا بشخصيات أخرى، ( السارد، و “علال السمعلي /دوغول”، والسيدة  ليتاس، أو من خلال مقارنته بالحمار حمدون…)  ومع ذلك فقد قدمت الرواية صورة مغايرة عن بعض الحيوانات من قبيل البغال، والسلاحف، والحمير، وكشفت عن  بعض أسرارها البليغة التي ظلت في منأى العديد من الأفراد يقول: عن سرمد، والحمار حمدون” إن كنت أدين لسرمد وحمار  دوغول حمدون بشيء، فهو تحريرهما لي من سلطة النوع، وألفة الأحكام العامة، والنظر إليهما كشيء غريب وفريد، وقادر على أن يولد أسراره الخاصة. سرمد ليس ككل السلاحف، إنه عنيد وماكر، وسريع.. 
ولا يمكنك أن تقنع الناس بأن السلاحف ليست كلها بطيئة، والحمير ليست كلها بليدة، والثعالب ليست كلها ماكرة ومراوغة، والطير لا يغرد وإنما يتواصل مع عشيرته من الطيور”. فهي شخصية، ذكية، قادرة على التحوط الشديد، معمرة في الزمن، و حكيمة،  وزاهدة، تتمتع باستقلالية كبيرة وبقدرات  لا يتوفر عليها الانسان، ونموذجا في الاعتماد على النفس، رغم ما تسببه لها العزلة، والثقل الذي تحمله على ظهرها  من فداحات. 
و يعتبر الراوي سرمد أقدم من كل عائلات المدينة، والمخزن نفسه. فهي بمثابة، ” غرفة عمليات أرضية محصنة يراقب منها الله العالم عن قرب، يرى، ويسمع، ويحس، ويشم. ” ولعل هذه الصورة القدسية التي يصور بها سرمد،  يجعله شخصية مؤثرة بشكل كبير ، وبالتالي مختلفة ومتميزة عن باقي الشخصيات، رغم حضوره الباهت. فهو” الرب المختبئ في قوقعته والذي يراقب العالم من حوله”، فسرمد يعيش عزلته الأسطورية، “زاهد مكتف بحلمه ولا يحس أنه مدعو ى لمحاربة غليم آخر من أجل مكان أو سلطة أو ممتلكات أو عهد جديد”. وهذا الاكتفاء بالنفس، جعل الراوي يقيم مقارنة بليغة بينه وبين الثوار، يقول:” لسرمد الذي يرقب كيف أننا لم نعرف بعد أن كل أعطابنا تكمن في ثقتنا في الزمن، ومراهنتنا عليه، باقي الثوار يثقون في القيادة ثقة قطيع في الفحل الذي يقوده”.
فقوة سرمد تكمن في حياده البارد، وفي صمته المريب، وفي قوته الخفية، وفي إيهامه للآخرين، ولعل هذا الأمر هو ما جعله في نظرنا من ضحايا سوء الفهم الكبير، وبالتالي يتحول إلى أحد الشخصيات المؤثرة جدا داخل هذا المتن الروائي. بل الفاعل الأساسي فيه.
زياد السمعلي
في حين يبرز زياد السمعلي، كشخصية نامية، ومرجعية، غير أن صوته ظل خافتا داخل الرواية، رغم مشاركته الأساسية في صنع أحداث الييوم الأول من  الثورة، وتحددت مهمته في نقل الأحداث، وكان يفعل ذلك بحياد بارد، إما على شكل مواقف خاصة، أو من خلال  حديثه مع باقي  الشخصيات، عبر حكي بالتوازي، يعمل على الربط بين  مواقف المجموعة المتمردة(الثوار)، ومحيطها الخارجي  بوادي إيرس.
وهي في الغالب مواقف لفتها سخرية سوداء من الذات، و من الآخرين، ونستحضر هنا وصفا بليغا عن ذاته يقول فيه” هناك تعاسة عظمى ترافق أشخاصا مثلي، فهم ومهما حاولوا ومهما لبسوا من قناع، ومهما تماهوا مع دور معين يبعدهم عن أناهم، لا ينجحون إلا في أن يكونوا أنفسهم دوما”، فزياد، ظل متحصنا بصمته الرهيب سواء خلال الرحلة، أو حتى في منطقة وادي إيرس” بقيت صامتا …. كنت أنكفئ على نفسي، ويصير الكلام بالنسبة لي ضربا من التعري وكشف النفس.  ويشعر أنه هو الآخر  ضحية لسوء الفهم الكبير،  وهو ما جعله يبدو كشخصية ضائعة، مسلوبة الإرادة.  مجرد تابع متورط، فاقد للقدرة على اتخاذ القرار، أو  تحديد اختيار ما، أو إبداء موقف صريح.
وأكد مرارا أنه لم يحس يوما أنه ينتمي للمنظمة الثورية،  ولا بتأنيب الضمير من اقترافه خيانة صغيرة، شخصية يلفها الماضي  بقوة، وغير معنية بالواقع، ولا يفكر مطلقا في المستقبل. ولعل حيثيات هذا التذمر تعود إلى تورطه في سوء اختياره لأغنية عاطفية خلال الاحتفال بعيد العرش، في الحفل الذي حضره عامل الاقليم، الذي اعتبر  أن الأغنية تحمل دلالات سياسية مغرضة” دفعت بعامل الإقليم إلى الاحتجاج والانسحاب من الحل وبالتالي مقاضاة زياد وتوريطه في قضية المساس بشخص ملك البلاد، ومؤسسات الدولة.”  ولم يدرك زياد السمعلي أنه تورط مع التنظيم السري إلا في اللحظة التي غادر فيها بني ملال صحبة أعضاء التنظيم السري”  ليلة 2 مارس 1973، يقول:” احتجت إلى شهور لأعرف أننا، نحن الثلاثة، القائد، والأستاذ الفكيكي، وأنا ضحايا سوء فهم كبير”.  ورغم أنه كان يدرك جيدا المطب الذي وقع فيه،- وهو الذي كان يبعد نفسه عن السياسة، وكل ما له علاقة بالشأن العام، – سيحدس أن توريطه من طرف القائد، والأستاذ الفكيكي، كان راجعا لاعتقادهم أنه يشكل إضافة نوعية كمثقف ثائر على النظام بسبب اختياراته الغنائية احتفاء بعيد العرش، غير أنه هو الأخر كان ضحية تراتبية أخفت عنه الأهم. لقد “خدع”.
وتمتعت هذه الشخصية بنوع من الدينامية على مستوى بناء الأحداث، وظلت مؤثرة على مختلف المسارات رغم ما لفها من صمت رهيب، وهذا النوع من الشخصيات” لا تتوقف عن النمو حتى آخر لقطة في الرواية، ولذلك تبدو… محط اهتمام الروائي والقارئ، حيث يتم تقديمها من خلال ثلاثة مصادر هي بمثابة كُتل كلامية بالمفهوم النقدي، أولها: ما تطرحه هذه الشخصية عن نفسها، وثانيها: ما تقدمه الشخصيات الأخرى عنها في مفاصل الرواية، وثالثها: المعلومات الضمنية التي لا يُصرح بها، ويمكن استخلاصها أو استشفافها من خلال أفعال الشخصية وسلوكها”..
 لقد ظل القلق والإحساس بالخوف والحيرة هي الأشياء المسيطرة على هواجس الثوار، وكان الترقب هو سيد الموقف، ترقب اللاشيء الذي سيكشف عن الإرهاصات الأولى للثورة، وفشلها الذريع، ثورة بدون  تخطيط مسبق، أو ترتيبات مجدية، لتضحى عائقا حقيقيا أمام الثوار الذين وجدوا أنفسهم في عزلة تامة عن العالم.  ويضيف متحسرا ” أنا الشاهد الوحيد على زلزال يرج أرض حياتي ويحدث فيها شرخا كبيرا، ما انفك يتسع وأنا ضائع متردد، أراوح بين شقيه، ولا وقت لي للاختيار بين ما يميد تحتي ويبتعد عني ويلفه الماضي، وبين ما علي أن أهرع نحوه وأثبت فيه رجلي لأنتسب إلى المستقبل. ”
 فرغبة زياد السمعلي، المكبوتة، ظلت كصوته المقموع، ومواقفه السلبية، تدور جميعها في محيط حلقة مفرغة. غير أنها شكلت بالنسبة للقارئ أحد مفاتيح الرواية، التي من خلالها تم نقل العديد من التفاصيل بحياد كبير. كما أنها جاءت مخالفة لكل التوقعات وهي تكشف أحيانا حكمة بليغة” على المعارك الحاسمة، الفاصلة أن تحدث الآن، البداية هي كل شيء، وللبدايات تحشد كل القوى وتجمع الطاقات”.
 و يحيل هذا النوع من الشخصيات حسب فليب هامون “على عوالم مألوفة، عوالم محددة ضمن نصوص الثقافة ومنتجات التاريخ(الشخصي أو الجماعي) إنها تعيش في الذاكرة باعتبارها جزءا من زمنية قابلة للتحديد والفصل والعزل، كما هي كشخصيات التاريخ أو شخصيات الوقائع الاجتماعية، أو شخصيات الأساطير”.
 القائد جيمس دين
كما يبرز شخص  القائد جيمس دين، كشخصية مرجعية، وأحد ضحايا سوء الفهم، كلما نبشنا في تركيبته النفسية، وفي طفولته التعسة، وماضيه المثقل بالآلام والأحزان. داخل ثكنه للقوات المساعدة  التي عمقت إحساسه بالدونية، وولدت لديه كرها كبيرا للنظام، بسبب الاستغلال الذي عانت منه أسرته. يقول السارد: “. في الثكنات لا يلبس الآباء البدلات العسكرية، إنما تلبسها أيضا الأمهات والأطفال، .. في الثكنات يوقظ صوت الكورنتية في غبش الفجر الجميع، وتوزع الإهانات بالتقسيط والقسطاس..
في الثكنات يكبر الأطفال وأمامهم طريقان لا ثالث لهما: إما سيعبدون السلطة والمناصب، ويبحثون من خلالها الانتقام من ماضيهم، أبناء المخازنية هؤلاء حين يصلون، لا يعرفون الرحمة، ولا الشفقة، ولا يحفظون لأحد كرامة ولا شرفا، وسيقضون حياتهم يطعمون الوحش بداخلهم، وإما سينتقمون على السلط كلها، سيكبرون غاضبين، لا شيء يرضيهم أو يقنعهم، يريدون أن يحطموا كل ما يعترض طريقهم، وكل ما يرون أنه يحمل ذرة قهر، الثكنات تلد الجلادين والحالمين.”
التزنيتي
كما  يمكن إدراج التزنيتي هو الآخر، ضمن خانة  الشخصيات المرجعية، ومن بين ضحايا سوء الفهم،  فقد ظل صامتا على الدوام، وأدرك مبكرا أن الثورة قد فشلت، فدخل في حالة رهيبة من الانطواء على النفس، يقول:” كنا نتوقع أن نجد  محاربين مستعدين للالتحاق بنا، ونجد الجبل يغلي، كما قيل لنا، لكن لا شيء من هذا و جدناه”، و هو الأمر الذي أثاره زياد السمعلي في وقت مبكر” منذ أن أتى مبعوث قائد المنطقة الوسطى متأخرا ليخبرنا بتأجيل موعد اندلاع الثورة، عرفت أن الأمر انتهى، الوحش صحا وسيدافع عن نفيه بشراسة رهيبة كما قلت لك سابقا، ليس هناك من حل سوى التفرق والهرب”.
ولا غرابة أن يشبهه زياد في أحدى اللحظات كسرمد” وأنا أتساءل كيف تأتيه الأخبار وهو منطو على نفسه كسرمد، ولا مبال بالعالم كصخرة، وخامد ومنذر  بانفجار كبركان؟” كما يقارن زياد السمعلي بين بين جيمس دين والأستاذ الفيكيكي حيث يقول:” فبقدر ما بدا لي الأستاذ الفكيكي انكشاريا في المنظمة السرية لا يقلقه شيء ولا يخزه سؤال، ولا تترنح رجلاه وهما تقتفيان الخط الذي رسمه العالم بكل شيء معه، يتلبس الدور وأداءه بحرفية وبسذاجة وتسليم كبير… لا أره في الأستاذ والذي يتبدى لديهما في الافراط في التدخين، وفي الاضطراب السلوكي، في ذلك النأي المترفع عن الحماس والتفاؤل السذج، في الضيق البالغ، في ضرب حصاه بعنف، في حركة الأيدي العصبية، في توقع الأسوأ والاستعداد لذلك، … في تقدير خطورة الوضع، وفي السير نحو الهلاك بنفس تلك الفدائية التي تعانق بها الفراشات الصغيرة مصباحا حارقا”
 لقد شكلت هذه  النماذج في الواقع  كتيبة خاصة، منهم من  أعلن عن حياده المبكر، ومنهم من أعلن عن مواقفه ضمنيا، ومنهم من صرح بها علنا، سواء عند انطلاق اليوم الأول للثورة، أو بعد ذلك بزمن قصير  ، لكن أغلبهم توقع فشلها الذريع.  كما يمكن أن نستأنس بهول هذا الانكسار من خارج  محيط الثوار، وكتيبتهم الخاصة،  بشخصيات أخرى  كزطاورو، وتودة، وعلال السمعلي (دوغول).
وفي هذا الإطار يمكن اعتبار شخص “زطاورو”  من النوع الثاني من الشخصيات، التي تحدد” تلك الأثار المنفلتة من المؤلف، تلك المحافل التي تدل على وجود ذات مسربة إلى النص في غفلة من التجلي المباشر للملفوظ الروائي. أو هي بعبارة أخرى” شخصيات ناطقة باسمه، جوقة التراجيديا القديمة، المحدثون السقراطيون، شخصيات عابرة، رواة ومن شابههم، واتسون بجانب شارلوك هولمز، شخصيات رسام، كاتب، ساردون مهذارون، فنانون الخ..” وهو من بين الشخصيات التي غيرت قتامة الرواية، وزرعت فيها حبورا، وبهجة، بسبب مواقفها المتناقضة، والمريبة والمضحكة، هذه الشخصية التي بدت مستهترة، ومحتالة، مع مرور الأحداث ستكشف عن حكمة، ووعي قل نظيرهما، بل لم يكن الثوار أنفسهم يتوفرون عليهما، ولا يمكنهم الوصول إلى مقارعة تجربته الثورية التي عاشها في بلده الأصلي.
فإذا كالنت الثورة بالنسبة لزياد ممارسة فعلية على أرض الميدان، وليس تنظيرا على الورق” حتى ينخرط الناس في الثورة ينبغي أن تعدهم بشيء، أن ترسم أمامهم مستقبلا واعدا، لا يمكن أن يضحوا بأمانهم إلا إذا كانوا يعرفون أن ما ستنجزه الثورة لهم يستحق المخاطرةـ لا بد من جنة موعودة” تتراءى لهم،  فإننا سنلمس تقاطعا في هذا الموقف تجسد فعليا مع زطاورو الذي كان أكثر  وعيا بإشكالات الواقع، وأكثر اطلاعا عليها من الثوار. من خلال ما استخلصه من تجربته الثورية الفاشلة باليونان، بعد خيانة من ظن أنه يدافع عنهم.
يقول “لقد جربت قبلكم أن أكون ثوريا، قلنا أنا ورفاقي في القرية الكلام نفسه الذي بإمكانكم أن تقولوه لأهل الوادي وراهنا على فضائل الناس، وحين جاء جيش الحكومة دلوهم على مخابئنا، ووقفوا ينظرون إلينا بشماتة ونحن نسحل في الطرقات. فزطاورو  تمكن من فهم الواقع  وتكيف معه، بل تمكن من الاستفادة منه بشكل كبير” إياك أن تعتقد، خبيبي، أن الشعوب تعيش بالحقائق، نو، نو، نو.. الشعوب تعيش بالأوهام حول ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لو قيلت الحقائق لشعب من الشعوب، كل الحقائق، لسار كل واحد لحاله” .
تودة
كما برزت مواقف تودة جلية، وواضحة المعالم، لا لبس فيها، وتميزت بالقوة والجرأة رغم ما كان يلف أعماقها من انكسار وقلق.  فقد شبهت نفسها ب”التاريخ”، وهي توجه رسالتها للثوار مع زياد السمعلي رافضة إغلاق الماخور”  “قل لأصحابك أن لا يحتقروني فأنا تاريخ، أسمعت؟ أنا تاريخ”،  وهي  من  بين مكونات وادي إيرس التي انكسرت  على جغرافيته أنفة التاريخ، والسياسة، والبطولات، و شكل ماخورها ساحة وغى انهزم فيه أعتى الفرسان” كانت صينية الأوسمة بين يديها أكبر فضيحة للحروب كافة، إنها تساوي شهوة واحدة، الشهوة العاصفة التي دفعت جنودا، لاشك في هذا، ليرهنوا عندها أوسمتهم مقابل متع سريعة وعابرة، كل الملاحم والبطولات ومآثر الدم تصير شيء في هذا الزقاق ذي الدور الواطئة  والأسقف الخفيضة، كل حروب الدماء والنار البعيدة تقايض عند تودا بلهاث وقذف وانتشاء سريع. ” وقد أبرز دفاعها عن ما خورها كشفا صادقا لواقع الحياة بالجبل المنسي” لماذا تبدأون دائما بحجور الناس؟ لماذا لا تبدأون بعقولهم وبطونهم؟”.
علال السمعلي (دوغول)
تميزت علاقة علال السمعلي بمحيطة باختياره لنوع من المسافة الخاصة، وهو يتحصن بالصمت، كما حدث مع ابنه زياد الذي كان يترفع عن معاتبته، في الكثير من المواقف التي كانت تصدر عنه. في حين سنلمس إحساسه بالحرج العميق أمام ابنه بعدما استفسر مدير  سيرك عمار عن حماره،  وهو الأمر الذي لم يفض به لشيء مقنع سوى تلقي عزاء حول حماره، وبطاقات دخول مجانية. وهو ما ألب عليه ابنه ” عار مقايضة حمدون ببطاقات دخول”، وعند ما عادوا إلى المنزل وجدوا الحمار بانتظارهم “أمام الباب الكبير للبستان.”ولعل النصيحة التي قدمها “دوغول” لابنه كانت تحمل في طياتها محاولة لاستعادة كبريائه، والسخرية التي تعرض لها من قبل مدير السيرك” لا تترك أبناءك يرافقونك لمعركة”
في حين تبرز ورطته الكبيرة في اللحظة التي  انتدبته فيها السيدة ليتاس ليؤدي دور الجنيرال دوغول في المسرحية التي ألفتها،  في الوقت الذي كان يدرك فيه، أن الدور أكبر منه، وأنه ليس بممثل لكن إصرار ها واقتناعها بكون يشبه دوغول تماما، سيجعلها تدفع ثمن سوء اختيارها لقد شكل أداءه الكارثي لدور شخصية دوغول في المسرحية، وصمة عار طاردته داخل المدرسة والقبيلة، والبيت” “كان أداءه كارثيا ونسف المسرحية من أساسها وحولها إلى أضحوكة … سيكون له العمر كله ليكفر عن أدائه الكارثي بتمثيل دور دوغول مرة تلو أخرى”. وهو ما جعله يخلف دوره مع التاريخ وينضاف للكتيبة السيئة الحظ.
كما تسبب في الدفع بجوليا ليتاس، إلى اعتزال الكتابة، بعدما ورطها مرة أخرى في حذف المشهد  الذي يتضمن السلطان محمد الخامس، من مسرحية أخرى كتبتها باعتباره ظل الله في و” لم تغفر لنفسها تنازلها، وحذفت ما حذفت ، لأنها بذلك لم تفقد النص توازنه فقط، بل فتحت ثغرة للرداءة العدوة تتسلل منها، ومن يومها صار فشلها في أن تكون كاتبة مسرحيات مرموقة في رقبة علال” وبالتالي فسوء الحظ رافق علال السمعلي، وجعله يشكل شخصية ذات تأثير سلبي على محيطها.
الجبل  موجه أساسي لأحداث الرواية
لعل الصورة التي يقدمها السارد عن وادي إيرس  تبدو أكثر قتامة،  فالناس يعيشون في واد أشبه بسجن  طبيعي كبير،” لا اختيارات كثيرة في وادي إيريس، فأينما ذهبت سأراوح في القفص نفسه”، وجحيم لا يستطيع أحدا الانفلات منه، ” واد شبه أجرب يحيط به جرفان أحمران هائلان يمن كلتا الجهتين، ويمتد مسافة خمسة كيلومترات تقريبا. واد أشبه بقبر، توجد الثكنة في موضع الشاهد، وكزائدة دودية، … تمتد في المنحدرين قريتان يصعب تقدير عدد دورهما.. “.
فالمكان الذي شهد باستمرار صراعات مرة بين مختلف مكوناتها القبلية الأساسية، بحيث طوال” عقود لم تزهر في الوادي سوى الأحقاد، ومرويات كل طرف عن مآثره في إذلال الطرف الآخر. تحاربوا على كل شيء وبلا سبب، المراعي الغابة، السوق، الطريق، الأحجار، الزقوم، البلوط، بهيمة شاردة، كلمة جارحة طائشة، حاربوا من أجل رؤية الدماء فقط، بلا سبب، بتلك الشهوة الأنانية التي لا تريد رؤية زاحم. ” كما شكل النهر حدا طبيعيا فاصلا بين مجالين،” كان النهر دوما في تاريخ الوادي الواهب والقاسي والحكيم والقاضي” فالرهان في الجبل يظل متمحورا على الحياة أساسا” البقاء حيا.
لا شيء هنا أعظم من النجاة ومراوغة الأمراض والفقر الشديد والأفاعي السامة والصواعق والثلج ونوائب التاريخ”، والتحول في الجبل يحدد  كذلك فن التأقلم مع الطبيعة، بل تتحكم في دواليبه، وآليات تطوره، واستدامته” يولد الخير كله من المراعي، ويولد الشر كله منها، ولم يكن الوادي دوما إلا قاعدة خلفية لذلك المسرح الذي تدور فيه الأشياء الحاسمة، يستقر فيه الناس لكن أرواحهم هائمة وراء القطعان. ”
 ولعل المتأمل لمكونات خطاب القائد جيمس دين  الممشوق القوام  كسيف قاطع، كان بعيدا كل البعد عن متناول وفهم السكان الجبليين، وضاعف سوء  ترجمة مضامينه من حجم سوء فهمهم البسيط، بالمقارنة مع ماضيهم النضالي الكبير.  ولعل سكان الجبل طرحوا سؤالا وجيها من قبيل: لماذا هرب هؤلاء الرجال الثورة من المدينة نحو الجبل؟ ما ينتظره هؤلاء مخالف تماما لتطلعاتنا، وطموحاتنا. وانتظاراتنا كجبليين؟ لقد تمحور الخطاب حول الثورة ومفهومها ومبادئها وأبعادها، والقائد  يستنهض همم الجبليين، بأن يكونوا وقودا  حقيقيا لها، دون أن يقدم لهم  بدائل حقيقية ملموسة “ها هي الثورة في أيديكم إن أردتم أن يكون هذا الجبل ملكا لكم بمراعيه ومائه وخيراته، قموا، كونوا رجالا كأجدادكم، افهموا، نحن لا نأتيكم بحلول لمشاكلكم، نحن نأتيكم بجمرة إن تجاهلتموها خبت، وإن تعهدتموها بالنفخ والحطب صارت نارا عظيمة أحرقت كل ما يبقيكم هكذا عراة جياعا.
“خطاب يكشف الجهل الكبير من طرف القائد لتاريخ الإنسان الجبلي، وحروبه ضد الغزاة والمستعمرين، بل وعاداته وأسلوب تفكيره، وعن الروابط الخفية التي تشكل عمق امتداده. فمهما بدى البدوي مسالما، وديعا يقول السارد عن الانسان الجبلي” حين يسمع غريب يكون فردا، والفرد في الجبل لا يتخذ القرار لأنه بيد الجماعة، إنه يخزن ويقلب الأفكار في ذهنهـ ولا يحس أنه معني بأن يتفهم ويوافق أو يرفض إلا حين يكون وسط الجماعة، آنذاك يصير مهدرا ملحاحا وصخابا”.
  ويقدم شخص حسن المخزني، حقائق أخرى من خلال حديثه عن أهل تيفرت، أنه خلف صورة الجبلي الوديع “تغفو  شراسة ضاربة، وراء كل الكدح من أجل اللقمة يقبع المحارب الشديد الذي يحركه شم البارود أكثر من شم العطر، والذي يعتبر أن كل الميتات حقيرة إلا ميتة في ساحة معركة”، فالجبل” الجبل، كل ما يدور فيه وما يحدث فيه جنون”،” أهل تيفرت.. لا ينهزمون والناس يولدون ليواصلوا معارك الآباء والأجداد”
وهنا يقدم الراوي صورة عن مقاومة قرية تيفرت للإحتلال الفرنسي” حاصرت فرنسا تيفرت عشرين يوما، ضربت الأطفال، والنساء، والماعز ، والبغال بالمدافع، والطائرات ليل نهار، ولم يستسلموا، فاوضوا فرنسا واشترطوا عليها أن توقر النساء، فلا شأن لها بهن، ولا تشركهن في أي نشاط تقوم به وأن تترك لكل عائلة بندقية، وأن لا تبني إدارة لها في أراضيهم، وأن لا تتخذ أي قرار في شؤونهم دون استشارة جماعة تيفرت وأمغارهم،  وقبلت كل ذلك”.
فالطبيعة النفسية المركبة للإنسان البدوي لا يمكن كشفها بسهولة، ويصعب فهما كذلك (فأنت)” لا تعرف أبدا ما يفكر فيه ابن الجبل، يرقبك بتقاسيم جامدة ويمكنه أن يستمع إليك لساعات دون أن يظهر لك لا علامة تأييد ولا رفض ولا حتى فهم، إنه وببصمته فقط، يستدرجك ويستفزك ويضطرك إلى أن تخرج كل ما عندك، هذا ما تعلمته من الجبل: الصبر والتخفي والانتظار. ”
ويمكننا الاستئناس كذلك بمقتطف من حوار  عدي مع زياد السمعلي، والذي من خلاله  كشف عن إلمامه الكبير بعقلية الجبليين، وبمنطق تفكيرهم:
” هل تراهنون على أهل الجبل، سيدي؟
(..) رهانكم خاطئ سيدي، لو استشرتم معي لقلت لكم هذا” .
كما سيقدم عدي، جردا لبعض الأحداث التي شهدها الجبل، والتي تسببت في جرحه العميق، بفعل توالي الضربات عليه” الجبل… أفرغ  في كل عقد من خيرة شبانه.. في الدفاع عن الشاوية، معركة تازويرات، الحرب العالمية، في مناجم الألزاس واللورين، مصانه رونو، وبيجو للسيارات،.” وهو استنزاف أرغمهم على عدم المجازفة أو الدخول في حروب خاسرة، ” الناس تعبت ولن تغامر مرة أخرى، دعوهم يلتقطون الأنفاس… “. كما يكشف الحوار عن التحولات التي عرفها الجبل، وسكانه الأمازيغ عبر عقود من الصراع والمقاومة” الجبل تغير كثيرا،.. والأمازيغ  تغيروا معه، لم يعد الجبل هو الجبل، ولم يعودوا هم، هم، تلك الثكنة ليست ثكنة، والطريق ليس طريقا، والجسران والماخور. هذا كله سم زرع في الجبل لإفساده وإفساد أرواح سكانه”
إن التحولات التي عرفها الجبل، والاستنزاف الذي تعرض له ظل بعيدا عن فهم واستيعاب بعض القيادات التي خططت للثورة خارج البلاد، وهو ما نلمسه من خلال اللهجة الحادة التي انتقد بها الفيكيكي زعماء الثورة لما كان في باريس،”قلتها لهم في باريس، قلتها للقادة، كلكم عشتم في المدن، وتفكرون بعقلية مدينية، وتريدون أن تطلقوا ثورة في الجبال والبوادي، هل درستم جيدا القرى والدواوير؟ لن يثور الفلاح ولا الراعي من أجل فكرة، ولا من أجل الكرامة والحرية، هذه الشعارات لن تحرك فيه شعرة إقدام واحدة، سيفعل إن وعد بملكية الأرض والمراعي فقط، الفرحون والرعاة فيتيشيون، لا يعبدون إلا رائحة التراب وعبق العشب”.
ولعل  من بين الطرائف الساخرة التي نقلها شخص الفيكيكي حول واقع  تراتيبة الثوار، أن “عدد القادة يكاد  يساوي عدد الثوار. ” فمواقفه أبرزت بشكل جلي فهمه العميق  لواقع الجبل وسكانه “منذ سنوات أنا أقول لهم إن الثورات الحقيقية تترافق مع حركة أفكار جديدة، البنادق والقنابل والمقصلة لا يقتلون الماضي، من يفعل ذلك هي الأفكار الثورية الجديدة… تحدث صخبا وتبني أوهاما وتحدث خرابا وتغير وجوها، لكنها لا تمس الماضي، بل تقويه من خلال تجديده  وطلائه بلون المرحلة”.
من هنا نلمس أن روح الجبلي لا تشبه أي روح أخرى، وأنفته واعتزازه بنفسه لا مثيل لها في الأرض، حتى أمازيغي الأرض الواطئة لا يشبه أمازيغي الأعالي، هناك روح حرة لا تقبل القيد أبدا، وهناك ثقافة ولغة ونمط حياة لا يقبلون الامتهان أبدا، .. إن غواية البارود انتهت، لكن روح الجبل باقية ولو تحت رماد”. وهو ما يخالف الصورة التسويقية والنمطية التي تقدم عن واقع الحياة بالجبل، بحيث يمكن اعتبارها تدخل ضمن المشترك الانساني والكوني ” الأمازيغي تربحه إلى صفك بكلمة، وتخسره بكلمة “.
يتساءل الراوي حول الطبيعة النفسية للإنسان الجبلي” هل هناك جوهر ثابت للشعوب والعشائر الكبرى، خصائص روح عابرة للتاريخ لا تطالها عاديات الزمن، أم أن ما نخاله روحا مميزة  ليس سوى جواب محدد عن إكراهات البقاء، وإن تغيرت الظروف تغير الجواب؟ ربما لا يوجد الأمازيغي ذو الروح المتحجرة في الكارط  بوسطال فقط، أما في الواقع، فليس هناك سوى الكفاح ومحاولة التكيف الدائمة مع الظروف”. وهي حقائق لو سمعها الثوار لتضاعف يأسهم ولمنحت ذلك الإحساس الذي يخامر، دون شك كل واحد منهم بأنه عالق في مصيدة قاسية  رسوخا أكبر”.
جمالية الصورة في الرواية
تجب الاشارة  إلى أن الروائي ينفتح على أكثر من مكون لنقل أحداث الرواية، وبالتالي يستعمل العديد من التقنيات التي تشكل إضافة  نوعية للعمل الروائي بل وأحيانا تضخ في بعض مساراته روحا جدا.  إما عبر الوصف، أو توظيف بعض المعطيات، كالصورة الفنية، أو الفتوغرافية مثلا، لقد ” انتقلت الصورة من طور كانت فيه ذهنية إلى طور صارت فيه بصرية، بمعنى أنها بعدما كانت في خدمة غايات روحية أصبحت تحيل إلى ذاتها. إنها استحالة إلى وسيط، مما يشرع الباب على مصراعيه على رهانات متعددة” في حين تتم الاشارة إلى ما تحمله الصورة من دلالات بالنسبة لبعض المجموعات البشرية، بحيث يشير ستيفن أولمان ” وفي أعمق مستويات رسم الشخوص تحتمل الصور المستعملة من لدن الشخصيات نوعا من الدلالة الاجتماعية. إن لكل جماعة ينقسم إليها المجتمع… لهجة خاصة تعزز انسجامها وتقيها من كل أنواع التطفل”.
 وتنجلي الاشارات الأولى في الرواية بالحديث عن الصورة ومفعولها انطلاقا من تعليق زياد السمعلي على صورة ابنة التزنيتي، بحيث اعتبر لحظة تأمله لصورة ابنته المبتسمة أبدية صغيرة”سيحتاج التزنيتي إلى هذه الأبدية الصغيرة، خصوصا تلك البسمة التي تزهر وسطها، وسيستلها وهو يثخن في صحراء مهولة، تتفسخ فيها الأحاسيس والذكريات والأحجار من لهيب الحر والهجر، ولا يتعرف فيها شيئا، وستكون آخر شيء إن أخفقت الثورة يلقي عليه نظرة وداع وهو ذاهب إلى سجن أو قبر”.
إن للصورة ماضيا سحريا أوكل إليها وظيفة مقاومة الموت والتلاشي، بقدر ما كانت مثيرة للخوف والرعل، نقاوم بها المرعب والمخيف أي الموت، وبواسطتها يستدعى الآباء والأجداد الموتى. إن قهر الموت والتلاشي بواسطة استدعاء الصور تلك هي المهمة الموكولة  للصورة. شكل الموت التحدي الأكبر  للإنسان مما استدعى الصورة من أجل البقاء والحضور: ” نقاوم التلاشي المصاحب للموت بإعادة الترميم الملازم للصورة، “فتوظيف الصورة داخل الرواية جاء في سياقات مختلفة، من صور فردية إلى جماعية والسارد يسترجع ذكرياته المدرسية بحيث تحدث عن الصورة الجماعية ” التي كانت الإدارة تحرص على أن تأخذها لنا مع المعلمين في آخر السنة، وأنا أرى صورة جدتي.. أرى صورة لعمري أربع سنوات بين يدي دوغول تحت شجرة ليمون، التقطتها لنا السيدة ليتاس.. 
كنت أزداد يقينا دوما بأن الشياطين، حتى وإن لم تكن وراء اختراع الصورة فإنها تباركها بكل ما أوتيت من حيل وقوة”.  وكل تصوير للشخصية “إنما ينبع من وظيفتها ضمن السياق النصي. وتصبح الشخصية الروائية إنسانية بالقدر الذي تستطيع وظيفتها أن تساهم في إقناع المتلقي بصدق العالم التخييلي. وهناك إلحاح قوي من فئة عريضة من النقاد على إضفاء وظيفة اجتماعية خارجية على الشخصية الروائية.
“فالصورة تمتلك سحرها الخاص ومفعولها الكبير، وهي جزء من ذات الانسان وقطعة من روحه كذلك، ” أخذت الصورة من يد مترددة، لا تعطي صورة وإنما قطعة من القلب”، فتوظيف الصورة سيأخذ أكثر من سياق ومسار، حيث تتم الاشارة إلى الصورة الإدارية” ” تحس أن الصور في  بالأساس ذلك الرعب البيروقراطي الذي يحتاج إلى صور الناس لصناعة ملفات، وترتيب إجراءات، وقرارات. الرعب الذي يزدري حياتهم بعد ذلك بتحويلها إلى أرقام وجذاذات لن يفلتوا منها أبدا، ستطاردهم طوال حياتهم، لأنهم تنازلوا ووقفوا أمام آلة تصوير ذات يوم”،” إن الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورا بصرية فحسب، بل تثير صورا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته”، بل وقد تصير خطيرة وذات مفعول شيطاني” لا تبارك الشياطين إلا الصورة لأنها أودعت فيها كل ما تريده للبشر من خديعة وتمزق وعذاب”..
كما تتم الاشارة إلى الصورة بكونها” زرعت.. في حياتنا وعززت مكانتها، وأودعت فيها كل ما يحتاجه الناس من أوهام العزاء إزاء الفقد وتعويض خسائر الأشياء والأشخاص والأحداث بصورها، كانت دوما وراء سوق حشود للحروب وللخسارات الفادحة، وللتلاعب بمصالحها”
ويبرز المعرض(مقبرة الصور)، وقع الصورة، يقول السارد: “في الصور شيء لن ينال منه الموت قط، شيء أقوى وأبقى منه، الأمل في أنهم  على عتبة الدخول إلى حياة أرحب وأحسن رغم المخاطر”. وتمارس الصورة هيمنتها من خلال معرض الصور الذي جاءت فكرته تكريما لأرواح شهداء الجبهات القتالية، ولساكنة قريتي أيت علي او سعيد وأيت داوود، ولنساء الربوة العنيدات، بحيث يكشف عدي عن نبل مقصده، وإحساسه بجسامة الفقد وحرقته” لقد حرموا من أن يغطيهم تراب وادي إيرس وتثقل أجسادهم أحجاره، انتظرناهم في الربوة لكن اتفجع عليهم لا يصنع مقبرة، ولا يدل على شيء، ستموت ذكراهم بموت أمهاتهم، لكن هذه الصور هي الدليل الوحيد على أنهم وجدوا وعاشوا هنا”..
وقد كان لمعرض  الصور وقع كبير على نفسية زياد السمعلي ” أحدثت رؤية الصور انكسارا عميقا في داخلي وملأتني بذلك الإحساس القاتل الذي تخرج به من رؤية جثمان عزيز، لو التقطت لكل من يسيطرون على الثكنة الآن صورا لكانت بعد عقود مصدر ا لفخر أو لأسى عظيم..” ،”رؤية الصور والاقتضاب المفجع الذي كتب تحت كل واحد منها، وقوة الموت الغامضة التي تجعل الشبان لا ينفكون يموتون كلما وقف واقف أمام الصور”
الكتابة بالصورة
 نلمس كتابة بالصور من خلال ما انعكس من أثر حسب زياد السمعلي حول الثورة، كشفت عنه اللغة الواصفة” ما هي الصورة التي تجسد الثورة في يومها الأول؟ لما ترددت في الجواب: مكتب القائد بعتمته الثخينة التي لا يعرف الواحد ماذا ستلد، وبدخانه الخانق الذي يتماوج كما تتماوج الأفكار السوداء في نفوس الثوار. ” و”ليست الصورة بالضرورة استبدال شيء بشيء آخر أو تشبيه شيء بشيء آخر. وإنما قد تكون أية كلمة حسية تستدعي استجابة الحواس، وبالخصوص حينما تستعمل لشرح أو توضيح حجة مجردة”  في حين نجد نزوحا نحو  الصورة السينمائية، من خلال توظيف المحكي، الوثائقي، والسينمائي..
وذلك أثناء حديث السارد عن الثورة من خلال مشاهدة بعض الأفلام السينمائية،”ليس هذا البرود والشلل والحيرة هو الثورة كما كنت أتصورها، بتأثير، ربما، من فيلمي ريمون برنارد  وجان بول لوتسانو المأخوذين من رواية البؤساء، أو شريط لسيرجي إيزيشتاين وبعض الأشرطة الوثائقية عن الثورات، ترى الحشود والدخان والبنادق التي توجهها كتائب الجيش نحو الثوار، والأعلام واللافتات، والأبطال الذي يخرون قتلى، وبنايات السلطة القائمة التي تسقط في أيدي الثوار”، وكذلك من خلال نقل انطباعاته عن الثورة، وكيف تمثلها من مشاهدة أبطال بعض الأفلام” الفتى غافروش وهو يجمع الرصاص في سلة ويغني، غافروش يلاعب الموت، ويهزأ من القناصة، لا لأنهم لن ينجحوا في إصابته وإنما لأنهم لن يتمكنوا أبدا من إيقاف حركة التاريخ ولو أفرغوا كل ما تنتجه المعامل من رصاص، ولينين يلهب الجموع بخطبه وفي حركاته وثوقية  وحماس ورهبة وعنفوان جديد، يريد أن يولد وماض ما زال يقاوم”
الكتابة والموت
لعل من بين ما ميز كتابة هذه الرواية، هو تلك النبرة الحزينة، والغاضبة، والمتدمرة للعديد من الشخصيات التي بقدر ما أخطأت موعدها مع التاريخ، كشفت عن حرقتها، وأنفتها، بشكل صامت، وعبرت عنه من خلال مواقفها العديدة. فقد تخللت العديد من المقاطع مواقف حول قدرية الانتظار. ومعنى الشقاء، والتاريخ، حول مفاهيم من قبيل: الهزيمة والنصر، والانتحار، والتطرف، والزمن، والخيانة، وفي مدح العمى، وفلسفة العزاء، وفلسفة الموت، كما مهد لأحداث اليوم الأول من ثورة الأيام الأربعة بخطاب ثوري  على شكل  مواقف، وآراء  جاءت على  ألسنة شخصيات روايته، ويمكننا توزيعها حسب التالي:
تنجلي ملامح هذا الخطاب الثوري  بدءا بتحديد أدبياته، ومفاهيمه، و انطلاقا النبش في جذوره التاريخية، فالثورة متجذرة في التاريخ العربي، بمفهومها المتكامل، والجلي، كثورة ميسرة، التي يقول عنها السارد” لم نعرف ما معنى ثورة شاملة منذ زمن ميسرة الحقير، وثورات الخوارج على جور ولاة بني أمية”، وأن التاريخ ” يتحرك… بجزمة عسكرية، لم يفعل ذلك بالخطب والمظاهرات والأماني والملتمسات، وها هو يفعل ذلك بقعقعة السلاح”..
 من هنا تم تحديد مفهوم الثورة، بحيث لا يواجه الثوار الأنظمة مباشرة بل يقاومونها ب” حرب العصابات(التي) تخاض من الهوامش وأقاصي الأوطان وحدودها، من المكان الذي يكون فيه وجود العدو ضعيفا وهشا ويسهل القضاء عليه” واعتبروا أن الشرارة الأولى  محددة جدا وتكون حاسمة” البداية هي كل شيء، حتى في العراك، إذا لم تبادر وتوجه لخصمك لكمة قوية تفقده توازنه فإنك لن تنال منه إلا بعد جهد، المفاجأة هي كل شيء، خصوصا في حرب العصابات”، وحول موقف لينين من الثورة ” نحن بصدد بناء طلائع الصدام الأولى مع عدونا الطبقي ورعاته الإمبرياليين… العنف الثوري هو الحل… الكفاح المسلح..  تحطيم العدو الطبقي.. أدركنا كما قال الرفيق لينين أن القميص الذي كنا نلبسه اتسخ ولم يعد يناسب مقاس جسدنا، وعلينا بقميص جديد، هو التنظيم الثوري المسلح بالنظرية العلمية لفهم الواقع ولبناء عملية تغييره بالحديد والنار “كما أن الثورة تتطلب حدسا، ومعرفة، واستباقا للأحداث حسب ما اقتبسه السارد عن تروتسكي” “الحدس وحده هو الذي سيقودك إلى الضرب في المواضع التي فيها الركائز المهمة، والحدس … هو الذي سيجنبك حين يتهاوى البناء، ويعمي غبار الردم الأبصار ولا تعرف من أين تأتيك الضربة القاصمة”..
ويضيف السارد ” يصح في المغرب ما قاله هيتار مولر”  في ألمانيا تأتي الأشياء قبل الأوان أو بعد  فوات الأوان، لدينا مشكلة كبيرة مع الزمن ” إننا لا نتصور إمكانية إنجاز عمل كبير دون حدس، الأمر أشبه بالرغبة في هدم بناء شاهق ومطلي بملاط ثخين.” كما تتم الاشارة إلى ما يكتنف الثورة من عيوب أو نقائص،  باعتبارها نوعا من العطالة الثورية، يقول السارد “كان موتسي تونغ يردد لأتباعه: من يقم بنصف ثورة كمن يحفر قبره بيده. لم يعرف ما وتسي أن هناك من لم يصل لنصف ثورة ولا حتى لربع ثورة، بل قام فقط بمحاولة بداية أو بغرام أو متر ثورة، هذا لا يحفر قبره وإنما يستلقي فيه ويهيل على نفسه التراب.. الثورة حين تكون ثورة حقيقية.. تتحول إلى تلقيح للمخزن ضد قوى التغيير لسنوات وعقود، يقضي على الطليعة الثورية في المجتمع، ويعيد ترتيب نفسه، ويبطش بقوة مبالغ فيها لثبط عزائم الناس على الالتحاق في المستقبل بكل عمل يريد التغيير”.
ولتعريف زمن الثورة، يتم الاستشهاد بتوفكيل” زمن الثورة، كما قال توفكفيل، هو زمن السخاء والحماس والرجولة والعظمة، غير أن كل هذا يحتاج إلى رياح مواتية تدفع بقوة أشرعة الثورة”. في حين يقدم  منظور الجزائري العربي مهيدي  الخاص بالثورة حين قال:” ألقوا الثورة  في الشارع يتلقفها الشعب”.
و تم انتقاد بعض الثورات من خلال اثارة  نقائصها، وهي ثورات التي كانت في الواقع صغيرة جدا، ولكن تم تضخيمها من طرف أصحابها لكي يصنعوا بها تاريخا كبيرا  “كأن ربح شيء في الواقع لا يكفي، بل ينبغي ربحه داخل اللغة أيضا، وهو الربح الأهم لأنه الأبقى، غيفارا فعل ذلك في مذكراته وسمى مناوشات صغيرة معارك، وماوتسي تونغ سمى هروبه من قوات شيانج كاي شيك إلى مقاطعة شنشب في الشمال الغربي المسيرة الكبرى… وهروب القائد الشيوعي البرازيلي لويس كارلوس إرستيس مع أنصاره من مطارديه سمي في أدبيات الشيوعيين سيرا كبيرا، … حين يبنى شيء كبير من هذا الحطام، من هذا الأجر البسيط، يصير له فخامة الأحداث العظام التي لا تليق إلا بأسماء رنانة”
الثورة من منظور شخصيات الرواية
وانطلاقا من هذه الخلفية النظرية، يتم بناء مفهوم الثورة حسب  تمثل شخصيات الرواية، ومواقفهم منها. وتوقيت اندلاعها، وأسباب نجاحها أو فشلها، فالقائد جيمس دين يرى أن “الثوريون الحقيقيون المحترفون لا يصنعون ثورة، هم يعرفون فقط كيف يحدثون الضجيج الثوري، يعرفون أكثر كيف يركبون ظهر الثورة حين تنجح، من يصنع الثورة هو من يتخلى عن كل شيء، ويحمل السلاح ويخاطر ويعرى ويحتفظ لنفسه دوما بتواضع عود ثقاب أمام نار عظيمة، قد يكون من أوقدها لكنه يعرف جيدا أن تعاظمها لا يدين له بشيء”، ولكي تندلع ثورة ما يجب أن تتحقق لها شورط نضجها وتتخذ أشكالا محددة: “الشكل الأول تحتقن فيه الأوضاع في بلد ما، وتشتد التناقضات، ويتعاظم عدم الرضا العام، وتتفسخ مؤسسات النظام، وتخور قواه، فتبحث الثورة لنفسها عن سبب لتندلع مهما صغر..
وهناك الثورات التي تكون  وليدة قرار حزب ثوري، وعمل دؤوب لتهيئة ظروف نجاحها”، كما أن مشاركة المناضل في الثورة تحكمه قناعات محددة، واختيارات واضحة” حين نقرر أن نشارك في ثورة، فإننا نقرر بذلك ترك أشياء كثيرة فينا، بل نقرر ترك ماضينا كله… لا ينمكن أن نكون ثوريين ونعمل على أن نحدث قطيعة في المجتمع، إن لم نفعل ذلك أولا داخل أنفسنا.. الحية تغير جلدها فقط وهذا لا شيء، عليها أن تغير روحها وسمها في الأساس، هذا ما سماه غيفارا” قسوة محاربي الماضي”، لأنها تبدأ من الحاجز الأكبر في وجه التغيير الجذري: الذات”..
كما يتم تحديد إيقاع الثورات وتداعياتها بين البطء والسرعة،” إن كانت الثورة الأولى مفاجئة، وعاصفة وناسفة، فإن الشكل الثاني من الثورات بطيء وشاق، ” في الثورة الأولى تتآكل أعمدة النظام.. أما في الشكل الثاني فأنت تهاجم البيت،  وهو صلب ومتماسك وصاحبه يراك ويعد العدة لخوض صراع دموي مرير معك”
أما زياد السمعلي، فظل موقفه من الثورة ملتبسا وغير واضح، وكانت يعتبر نفسه خارج دائرة اهتمامهم ومحيط منظمتهم السرية، ” اختيارهم لي بحماقة لأكون معهم في المنظمة السرية.. لن أقوم بأي شيء، فإن لم يكن مقدرا لي أن أخرج معهم فسيأتي من تلقاء ذاته أمر ما ليبعدني عنهم أو ليأخرني عن الموعد، أو ليطمس معالم خط القدر الممتد من قلقي وانخسافي وتمزقي إلى موعد انطلاق الثورة”
“كل الثورات تأكل أبناءها لأنها لا تحرك الأوضاع السياسية فقط، بل تحرك معها الغرائز وطاقات العنف الكامنة في الانسان، النار عمياء تأكل في النهاية العشب الضار والنافع، تأكل كل شيء “. ” لماذا نتجشم كل هذا العناء إن كانت شروط اندلاع ثورة كاسحة متوفرة؟ كما يقول لي جيمس دين والأستاذ، لماذا لا تقوم هذه الثورة في بني ملال تخرج كل الجماهير التي  نضج بداخلها الحس الثوري، وكانت تنتظر شرارة ليندلع الحريق الكبير.. وتنصب المشانق في الساحات لرموز العهد البائد؟”
في حين كانت مواقف التزنيتي( الكولونيل) لا تخرج عن الإطار العام الذي رسمته باقي الشخصيات، “هناك شيء ديني في الثورة. الثورة كالدين، تحذر الأطفال وتعتبرهم فتنة، الثورة والدين يريدان الإنسان بلا جذور، بلا امتداد، بلا ما يشده للأرض ليكون أداة وليفلا به ما شاءا، الأطفال يجعلون للمرء امتدادا وعاطفة وتعلقا، ومن ليس له كل هذا يكون أداة صماء عميا” .إن كانت الثورة حاجة عميقة للمجتمع، فإنها لن تعبأ بهذه البداية المتعثرة، ستتدبر نفسها وسط الارتجال وسوء الاستعداد والتوقع، وستكبر شيئا فشيئا حتى تأتي على كل شيء” . كما يقدم وجهة نظر ه حول التاريخ، الذي يعتبره ” مثل ثور وحشي، تحركه بعنف وغضب لسعة مؤلمة لذبابة في أذنه”.
كما انتقد الفكيكي قيادات الثورة بالخارج، واعتبرها خارج التغطية ، وبعيدة كل البعد عن واقع حياة سكان الجبال: “قلتها لهم في باريس، قلتها للقادة، كلكم عشتم في المدن، وتفكرون بعقلية مدينية، وتريدون أن تطلقوا ثورة في الجبال والبوادي، هل درستم جيدا القرى والدواوير؟ لن يثور الفلاح ولا الراعي من أجل فكرة، ولا من أجل الكرامة والحرية، هذه الشعارات لن تحرك فيه شعرة إقدام واحدة، سيفعل إن وعد بملكية الأرض والمراعي فقط، الفرحون والرعاة فيتيشيون، لا يعبدون إلا رائحة التراب وعبق العشب”.
أما  مول الشمعة  فقد كان يتألم في صمت ،وقد أدرك عبثية الموقف، يقول:” كم هو مؤلم يا أخي، أن تخرج على المخزن وأنت موقن بأن حشودا ستخرج معك، ثم وبعد أن تحرق المراكب تكتشف أنك خرجت وحدك” . في حين يرى البعض الآخر ” نحن لا نثور على نظام بل نثور على أنفسنا أيضا، نثور على مخاوفنا وسكينتنا وخسة أن نرى كل هذا ولا نفعل شيئا”.
وأكدت شخصيات الرواية، أن ما يهدد الثورات، ويحدد بعض أسباب فشلها، هو  الأحقاد، و استغلالها لتصفية الحسابات الصغيرة، وهنا تندرج قضية قتل الكوميسير من طرف القائد جيمس دين، والطلقات الأولى التي دوى صداها في قصر عين أسرديون قبل الانطلاق نحو وادي إيرس.  فحسب مول الشمعة فإن الأحقاد تكسر نبل العمل الثوري” الأحقاد الحقيرة تتسل داخل الغايات النبيلة وتضرب ضربتها، وحين يكون الثوار منهمكين في تصفية الحسابات مع النظام يدب بعض الصغار على التنفيس عن أحقادهم وعقدهم وتوجيه الضربات التي تمكن الالتباس والزحام، كما في عراك الحواري، من توجيهها بلا تبعات رادعة.
كبار المقاومين حاربوا فرنسا، وصغارهم فتك ببعضهم ببعض بعد الحصول على الاستقلال”. كما أن “ما يهدد الثورة ليس الإخفاق في العمل المشترك في التوقيت ذاته، كل المواقيت محفوفة بالمخاطر حين تختار أنت المواجهة مع العدو، ما سينهي الثورة إن قيض لها أن تنتهي هو أن يبقى من نعول عليهم يتفرجون، وأن يكون تقديرك لقوتك خاطئ، وأن تكون حساباتك خاطئة، وأن تتعرض للخيانة من الداخل”.  في حين اعتبر البعض أن الوسائل والإمكانيات الموظفة في الثورة هي من بين الأسباب كذلك،” ثورة تريد أن تنقل  المغاربة نحو المستقبل، لكنها تستعمل أدوات القرون الوسطى”. 
كما ينضاف لهذه الأخطاء، سوء اختيار  الأشخاص الذين بإمكانهم أن يشكلون إضافة نوعية للثورة و يساهمون في إنجاح مختلف محطاتها، وترجمة أفكار  ومخططات مفتعليها بشكل ملموس  على أرض الواقع. وندرج في هذا الصدد ما كشف عنه  زياد السمعلي” اختيارهم لي بحماقة لأكون معهم في المنظمة السرية.. لن أقوم بأي شيء، فإن لم يكن مقدرا لي أن أخرج معهم فسيأتي من تلقاء ذاته أمر ما ليبعدني عنهم، أو ليأخرني عن الموعد، أو ليطمس معالم خط القدر الممتد من قلقي وانخسافي وتمزقي إلى موعد انطلاق الثورة”، كما رأى في تأخر انطلاق الثورة أمرا محبطا قد يتسبب في فشلها وأكد أنه على ” المعارك الحاسمة، الفاصلة أن تحدث الآن، البداية هي كل شيء، وللبدايات تحشد كل القوى وتجمع الطاقات”..
ويرى أن انخراط الناس في الثورة، لا يكون مجانيا، بل تقابله وعود  كبيرة تفوق ما قد يقدموه من تضحيات ” حتى ينخرط الناس في الثورة ينبغي أن تعدهم بشيء، أن ترسم أمامهم مستقبلا واعدا، لا يمكن أن يضحوا بأمانهم إلا إذا كانوا يعرفون أن ما ستنجزه الثورة لهم يستحق المخاطرةـ لا بد من جنة موعودة تتراءى لهم.
الثورة من منظور شخصيات ثانوية
وكلما ابتعدنا عن محيط الثوار إلا وتفاجأنا بمواقف شخصيات ثانوية داخل الرواية، مواقف واعية ومؤثرة تنم عن تجربة ومراس كبيرين، كما هو الأمر بالنسبة لزطاورو ،الذي اعتبر نفسه الثائر الوحيد في العالم” أنا الثائر الوحيد في هذا العالم، خبيبي”، ويكشف عن عمق استيعابه للواقع بالجبل، فالشعب لا يثور ما دام لم يشعر بالحاجة لذلك، وقد حركته رغباته الدفينة، يقول:”الناس قبلي كانوا يثورون على السذاجة ويستبدلون بها سذاجة أكبر. يثورون من أجل الحرية ويرتضون قهرا أكبر. يثورون من أجل المساواة ويبنون تفاوتا أكبر.. يثورون من أجل العدالة ويصنعون ظلما أكبر”..
كما وجه نصائحه للثوار، ونبههم لفداحة الواقع ” يا ثوار، لا يمكنكم أن تفعلوا أي شيء أمام كم السذاجة التي أراها، حاربوها أولا وسترون، لن تحتاجوا إلى إطلاق رصاصة واحدة، السذاجة عدوتي وعدوتكم”، ويسوق تجربة بلده اليونان، مضيفا” أنا لم أعد أثق في الثورات، عد إلى التاريخ،  ستجد أن أغلبها صنع من طرف البوليس السياسي، هناك ثورات وثورات خبيبي، ما يحزنني جدا هو أن الثورة يقررها الحثالة الذين يكونون في أماكن آمنة ويقتل فيها الشجعان”، وكانت مواقفه منطلقة من تجربته الخاصة، ومواقفه المستخلصة من الواقع “اليونان من خلالي، عرفت بأن الفضائل لم تعد تصنع مستقبلا، لقد فشلت كل محاولات إيقاظ الناس بالثورات فشلا ذريعا، لأنها تسلحت بالفضائل. الفضائل يا خبيبي تخدر الناس وتبقيهم على ما هم عليه، والعالم في حاجة إلى رجل مثلي يوقظ الناس، لا بالمواعظ وإنما بسلبهم القليل الذي يملكونه ليصحوا”.
كما أن تجربته الميدانية كشفت عن خذلان من كان يدافع عنهم”لقد جربت قبلكم أن أكون ثوريا، قلنا أنا ورفاقي في القرية الكلام نفسه الذي بإمكانكم أن تقولوه لأهل الوادي وراهنا على فضائل الناس، وحين جاء جيش الحكومة دلوهم على مخابئنا، ووقفوا ينظرون إلينا بشماتة ونحن نسحل في الطرقات”
في حين تظهر” تودة” وعيا قل نظيره، وفهم للأوضاع، فمن خلال حديثها  مع الأستاذ عن الثورة ،  تقدم لها مفهوما مركزا ودقيقا: “أتعرف ما هي الثورة، يا أستاذ؟ شيء يريد أن يولد وشيء لا يريد أن يموت، وبين هذا وذلك عنف ودماء وغرائز بدائية وسية، وضربات غادرة، وتصفيات حسابات، حتى أن الجرائم التي تقع إبان الثورة، بشهادات الثوريين الكبار، تكون أفدح من جرائم النظام الذي تندلع في وجهه”
إن التصور الذي تقدمه أدبيات الثورة في الرواية، يمنح القارئ انطباعا خاصا بكون الثوار  كانوا يهدفون إلى تحطيم عدوهم الطبقي، وأنهم يشكلون الطلائع الأولى للصدام مع النظام. وهم  يستحضرون مقولات وتجارب العديد من رموز الثورة بالعالم، وهو ما يكشف في النهاية أن الذين يحملون أفكارا، ونظريات عن الثورة لم يستطيعوا ترجمة أية فكرة من أفكارهم على أرض الواقع، بخلاف الذين عاشوا تجاربها المرة، واستخلصوا منها دروسا وعبرا نفيسة، وعبرت مواقفهم عن وعي وإدراك عميقين للواقع ومعطياته ومتغيراته وبالتالي خصوصياته. وكشف عن مفارقاته الساخرة.
البصمة الترابية في الكتابة
وإلى جانب ما اكتنزت به الرواية من أراء وأفكار، ومواقف، لم يفت صاحبها من أن يؤكد بقوة على خصوصيته في الكتابة، من خلال تضمين بصمته الممجدة للماء والتراب، بتأملات عميقة تغوص في أعماق الأرض، وتتلون بلون ترابها البهيج، وتبتل بأريجه الخاص، فللتراب رائحة لا يفقه وقعها، وماهيتها ومعانيها ودلالتها سوى من قيض له أن يستلهم في كتاباته أحاسيس القدسين، والصلحاء، والمتصوفة، والبسطاء، ممن شكلت لهم رمزية التراب عبر التاريخ، البداية والنهاية.
يقول السارد” قدر الأفكار أشبه بقدر البذور، ترمى كيفما اتفق، وبكثير من الصبر تنتظر عمل الريح والمصادفات الغريبة لحركة أرض لا تهدأ، تعيش نعمة الاختفاء التدريجي في ماء التراب.. لا بد لها من البلل وتلك الرطوبة التي تولد التخلق البطيء للحياة بداخلها، لا بد لها من مدافعة التراب، من مغالبته وشقه لنيل نصيب من النور، لو لم تتحمل الظلمة  لما استحقت النور، لو لم  تنزل لما صعدت أبدا، الأفكار مثل البذور إن لم تجد الحضن، قد نسمع عشرات الأفكار  والكلمات المفاتيح في اليوم، والآلاف في الشهر، مئات الآلاف في السنة، لكنها كلها تعبر مثلما يمضي الغمام في السماء والماء في المجرى، ويحدث أن تمس واحدة شيئا عميقا بداخلك، يمطر الغمام ويشكل الماء بركة، تتملكك، تزلزلك، وتجعلك تفكر، وتأرق، وتتعذب، فكرة واحدة تنشب مخالبها فيك ولا تفارقك..
الأفكار كالبذور، لا لأنها تحتاج سماء مواتية فقط، بل لأنها وعد بالتفتح والخصوبة واستمرار الحياة، وحين تموت فكرة أو بذرة يغلق قوس، وتموت معها إمكانية من إمكانيات الحياة، يموت أفق كان مفتوحا.” فعلاقة الانسان بالأرض هي علاقة فريدة، وعلى قدر كبير من الخطورة كذلك، ولعل هذا ما حاول عدي ترجمه واقعا ملموسا، عندما فكر في  مقبرة  من نوع خاص تضم بين حناياها جثامين أبناء القرية الذين ماتوا في جبهات القتال. بأوروبا، من خلال معرض الصور، مما خلف انطباعا خاصا لدى السارد  “عبرت خاطري فكرة عن جسارة هذا الرجل، الذي بخطوة واحدة كبيرة، نقل الوادي من ثقافة المشافهة، إلى ثقافة الصورة، دون المرور من ثقافة الكتابة”..
ولعل هذا الإنجاز  يعبر عن بعد نظر صاحبه الذي فكر في أن يخلد هؤلاء الأبطال الذين ظلوا بلا مجد، وأن يحفظ لهم كرامتهم، وإنسانيتهم، كبشر، بأن يمنحهم اعتبارا وتقديرا أبديا، فالموت  “لم يمنح.. ملامح جديدة للوجوه، ولم يمس أي شيء في الصورة، وإنما أعطاها، وبشكل سري، أبدية الشيء الذي لا يتكرر أبدا إلا فيها. هذه الصور هي الشيء الملموس والواقعي لباقي من سيرة أكلتها الحرب”، وبالتالي يترجم هذا الموقف بعدا من أبعاد الكتابة كذلك في تحويل الموت من غياب لحضور، بل لأبدية، داخل قرية وادي إيرس المنسية، عوض القبور الترابية التي يتبدد بداخلها كل أثر، أو ملمح” منها خلقناكم وفيها نعيدكم”، الإنسان فاكهة الأرض، تغذيه وتتغذى عليه، تبنيه وتحطمه، تلده وتأكله، الأرض أم أولى، لكنها أنانية وقاسية، ليست كالأم الثانية،”..
فالموت يتجسد داخل المتن الروائي كرؤية، ومنظور، بل كطرح فلسفي، كشف النقاب عن تجلياته في العديد من الثقافات ومنها ثقافة الزن البودية اليابانية التي يتميز أتباعها بممارسة التأمل، و يستشهد بأحد المعلمين المشهورين هاكوين الذي كان  يقول لمريديه الشبان:” مت ميتتك حتى النهاية، ثم تعال لرؤيتي” ويردد لهم دوما:” أيها الشبان، إن أردتم ألا تموتوا، موتوا الآن، إن متم الآن لن تموتوا حين تموتون”، كما يتم الربط بين هذا الطرح، وفكرة معرض الصور، بحيث ينتقد السارد الموت الفظيع لهؤلاء الشبان:” موت عجوز نهاية صيرورة من التراجعات والانهيارات وفقدان الدوافع، أما موت شاب ففضيحة للموت، وللحياة وللناس، وللدول المتحاربة، وللشر الذي لن نجد من سيشهر به مثلما نفعل هذه الصور”.
في حين تتم الإشارة إلى موت جد السارد، كنوع  من البطولة في مواجهة الموت،  ويقدمه في صورة محارب شجاع ينتظر الموت لمحاربه بشرف في ساحة وغى كبيرة يقول:” حين أحس جدي بدنو الموت منه كان يردد:” إغصانينو تاغتنت تغوفي نوكال” عظامي تحن للتراب.. والتراب يحن إلى عظامي … وأضاف لا فائدة التراب ينادي”، وشكل سلوك نساء الربوة داخل الرواية نوعا من الانتظار في مقاومة سلطة الموت، وتمردا على كل السلط: من عادات وتقاليد، وأعراف، وسلطة الرجال، وسلطة المخزن… 
بحيث مارست النساء طقسا يوميا أصبح مكتسبا مع مرور السنوات،  بالصعود نحو ربوة، بدأ مع طموش التي نذرت نفسها لانتظار عودة ابنها يعزى من الجبهة، وتبعتها نساء أخريات من كلا القريتين (من دوار أيت موسى أو علي، ودوار أيت داوود.) نمت قطيعة قبلية أبدية بين رجالها، ووحد الانتظار بين نسائها وعددهن ثلاثون” يقضين هناك أوقاتا طويلة “بعضهن أخرجن من القفف صوفا وبدأن يغزلنه أو حبوبا قد تكون عدسا أو حلبة أو كمونا، وبدأن ينقينها من الشوائب، وانشغل الأطفال باللعب من حولهن”، ويكشف تجمع النساء من الدوارين كذبة الصراع بين الدوارين” ألا يكذب هذا الاتحاد في الربوة خصومة طرفي الوادي، أم أن الخصومات المزمنة وما فيها من أحقاد شأن رجالي فقط؟.”ولعل مدة هذا الانتظار الطويل”عشرون عام بأيام زمهريرها وثلجها ومطرها ورعودها وأيام حرها ورياح شركها الخانقة، وهن هناك كل يوم مترقبات متلهفات يتطلعن لما سيلده المدخلان”، دالة على استمرار الأمل في لقاء قريب، وانتظار يطفو فوق كل الأشياء ولا يؤمن بها سوى أصحابها رغم محاولات السلطة تنيهن لا يزلن ينتظرن.
لقد رفضت طموش خبر فقدان ابنها في الجبهة، و إعداد ملف للاستفادة من التعويض” ولأنها ابتكرت الحل الأنجع لقهر اللوعة والشوق واليأس فقد التحقت بها أمهات الشبان الآخرين، صرن خمس نساء يخرجن في الظهيرة نحو ربوة الانتظار والأحزان، صبر  وترقب نساء الربوة السيزيفي الذي يحمل في طياته أملا وترقبا عجيبا بلهفة قل انتظارها، ورغم عودة أبناء بعض نساء الربوة، فإن الأخريات ظللن يترقبن هناك.
إن ما ميز  نساء الربوة هو ذلك العناد الذي يطبع شخصية الانسان الجبلي، وإصراره، وتحديه لكل الصعاب” نساء… حين تؤمن بشيء… لا أحد في الجبل يمكنه أن يفكر في منع أم من انتظار ابنها”.وقد كشفت أحداث الرواية أن الرجال ظلوا ينتظرون من بعيد كنسائهم، ويساعدنهن للوصول إلى الربوة عند تساقط الثلج..  يشقون الطريق ليصلن للربوة.. ينتظرون مثلهن، الانتظار دين الجبل. ” فلا شيء “يقف أمام إنسان يصر على المرور لمكان تتوقف عليه حياته” فالانتظار كان من أجل مقاومة فكرة الموت، وإصرار على استمرار الأمل، ودلالة على تحدي رهيب، للمرأة الجبلية، وللرجل الجبلي على السواء.
إننا إزاء عمل روائي كبير، كشف صاحبه بما لا يدع مجالا للشك، أنه من طينة الروائيين الكبار الذين بصموا تاريخ الأدب الانساني بأعمالهم الخالدة، فارتباط جويطي بقضايا  مدينة بني ملال وجبالها، ومنطقة تادلا وسهولها، هو في الواقع  ارتباط بقضايا المغرب و المغاربة…
كان اليوم الأول من ثورة الأيام الأربعة، عصيبا جدا، بما تضمنه من أحداث مثيرة، ومواقف غريبة، وشخصيات وشمت حناياها بجروح بليغة جدا، وهي بوادي متمنع وعنيد، عرى كذلك عن معاناة الساكنة، وهشاشتهم، وضعفهم.  و تحول فيها الجبل لبطل حقيقي… بل لفاعل أساسي في تطور أحداث الرواية.  
ولعل استحضار الجبل ببصمته الواضحة كان  دليلا على انقلاب واضح في المنهج والتصور، واستراتيجية جديدة في الكتابة..  بل نقلة نوعية نحو رواية جديدة ببصمتها الجبلية  الواضحة المعالم حيث لا تستحضر المدينة الا من خلال استرجاع  الشخصيات لبعض الاحداث، التي استخدمت لتعضيد المتن الروائي أو لتعزيز مسار من مساراته. وهكذا فقد كشف الجبل عن تاريخ الإنسانية القصير والتافه على وجه الأرض، واعتبره حدثا صغيرا جدا  بالمقارنة مع حياة بقية الكائنات الأخرى..
فالعالم الروائي المشيد “واد إيريس”  بقدر ما يكشف عن حجم الآلام الإنسانية، يعري في الواقع عن فظاعتها المتجذرة عبر التاريخ، وعن آلام الانسان الأمازيغي  بفعل ارتباطه بالأرض، وبسلوكه الطيب المتأصل عبر التاريخ والحياة  التي لم تمنحه سوى سلسلة من الإنتظارات الخائبة. وكعادته خصص الروائي عبد الكريم جويطي ضمن هذا التشييد المتميز إشارات واضحة وتجاذبا بين “المسرح والرواية” عبر الإشارة إلى التداريب التي كانت تقوم بها السيدة ليتاس داخل مؤسسة تعليمية ومعاناتها، وهواجسها المختلفة كمؤلفة مسرحية، من أجل كتابة أعمال خصصتها للتلاميذ في مناسبات خاصة. غير أنها كانت تتنازل عن بعض أفكارها إرضاء لشخص “دوغول” علال،  فكانت لا تحصد  بعد ذلك سوى الفشل، في حين سنلمس حضورا لافتا لتوظيف الاشكال ما قبل المسرحية “الحلقة” من خلال شخص زطاورو المحتال.  وهذه الشخصية في الواقع وضعت اليد على جرحنا العربي العميق وعلى اهم معضلاته” السذاجة”.
فإذا كانت “الحكايات جند من جنود الله” فإننا سنلمس  ان التوظيف السلس للمحكيات سيبرز تباعا الكشف عن عمق الانهزام الانساني وعن الضغائن، والمسكوت عنه، وعن حزن عميق وخيبات تنأى بحملها الجبال… نساء الربوة، تودة، وبيت الدعارة، الثكنة، بؤس الثوار، بعد تمريغ الروح المعنوية للثورة في الوحل، بانطلاقتها المتعثرة، وانتظاراتهم الرهيبة والقاتلة، وكذلك لإحساسهم بعدم جدوى ما يقومون به.
ولعل النبش في أدبيات الثورة، وتاريخيها عبر العالم، وفي أفكارها، ورموزها، لم يكن ضربا من العبث، بقدر ما كان وسيلة ومؤشرا لقياس أداء الثوار ،  وقراءة تكهناتهم، غير أنها ظلت، بعيدة عن حقيقة ممارساتهم  الميدانية، والقيم النبيلة التي قامت من أجلها ثورتهم. و قد اصطدموا في النهاية بسوء تقديرهم للمجال والسكان والظرفية بصفة عامة. فانكسروا بعدما قهرهم الجبل، كما قهر  بقية الغزاة عبر التاريخ، وهو يعيد رسم مسار اته الأولى كماء كنهر قديم، لن يشعر بحكمته سوى الغيلم،”سرمد الحكيم”.
لقد ظل الجبل غير آمن عبر التاريخ.. وهو من قاد مختلف الأحداث والوقائع بدءا بالانتظار والترقب، وانتهاء بتسويف قاتل تمطط فيه زمن اليوم الأول حد السأم. فلن تنجلي فيه مآل الثورة، ولن تظهر نتائجها، إلا بعد أن تكشف عنها الأجزاء القادمة الخاصة بهذا المشروع الروائي الرهيب.” من ثورة الأيام الأربعة”.
مراجع
  • حسن بحراوي بنية الشكل الروائي( الفضاء- الزمن- الشخصية)، منشورات المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى سنة 1990
  • حميد لحمداني بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ط1/1991
  • ستيفن أولمان الصورة في الرواية ترجمة رضوان العيادي محمد مشبال، رؤية للنشر والتوزيع2016
  • شعيب حليفي هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل دارسات في الرواية العربية. منشورات دار النايا دمشق سوريا 2013 الطبعة الاولى
  • عبد العالي معزوز فلسفة الصورة، أفريقيا المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2021
  • محمد أنقار،بناء الصورة في الرواية الاستعمارية،ص 27 مكتبة الادريسي للتوزيع والنشر، ط1/ تطوان 1994
  • فيليب هامون سميولوجية الشخصيات الروائية ترجمة سعيد بنكراد، تقديم عبد الفتاح كيليطو، دار الحوار للنشر ط1/2013
  • كريم صبح، هيمنة المكان على النص، مقال، مجلة ميريت الثقافية(مصر) العدد 37 يناير 2022
  • عائشة الدرمكي، الشخصيات ومرجعيات الخطاب السردي في رواية سأم الانتظار، مجلة نزوى العدد: 10 أكتوبر 2017
  • عثمان حسن، البطل في الرواية، موقع الخليج
  • محمد العباس، الشخصية ومحلها في الرواية، مقال جريدة القدس العربي 17 أبريل 2016
(°) روائي، ناقد وقاص مغربي، من أعماله “جمالية القصة العربية القصيرة جدا”، “دموع فراشة”، “ذكريات عصفورة”، “مذكرات أعمى”، “أسرار شهريار” (عمل مشترك)، “حياة واحدة لا تكفي”..
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 13:34

استكتاب مفتوح أمام الباحثين للمشاركة في مشروع تاريخي حول “بلاد تادلا وزيان بين 1912 و1956”

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 12:45

لقاء بالرباط لتعزيز التعاون بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية والمركز القطري للإعلام

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 10:51

المجلس الأعلى للسلطة القضائية يناقش مستقبل التكنولوجيا الحديثة في المجال ‏القضائي

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 06:41

يحيى الفخراني شخصية العام الثقافية بالمملكة المغربية

error: