من سردية الشعر إلى شعرية السرد: الرؤية – الدلالة (قراءة في “العقل الحكائي” لحسام الدين نوالي)

أحمد بيضي الأحد 13 فبراير 2022 - 23:01 l عدد الزيارات : 25578
  • سكينة الروكي (°)
يشتغل القاص والناقد “حسام الدين نوالي” على السرود تأليفا ونقدا عبر رصد المميزات والخصوصيات الجمالية للسرديات وربطها بالمكان والإنسان والمتخيل في تقاطعاته الزمانية والمكانية المفتوحة على الكونية.
ويتميّز كتابه النقدي “العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة في المغرب” بالترابط المنهجي والاتساق والانسجام الفكري بين  المعارف المستقاة من مجالات متنوعة، فضلا عن بناء رؤية جديدة تؤمن بأن النزعةَ القصصيةَ والحكائية قديمة قدم الشعر العربي نفسه، وقد أينعت الفكرة وتمظهرت وتجلت من خلال تقصيه أنماط السرد في القصيدة العربية القديمة، لتثمر جهوده اعترفا بانفتاح الأجناس الأدبية على بعضها البعض عبر تتبعه القص كوجه من وجوه السرد وأقوى مظاهره في الشعر العربي الذي يتوفر على آليات وأدوات سردية،
هي عناصر تم إدراجها في ثنايا النص الشعري ما أعطى القصيدة بناء قويا وعزز مستوياتها المتعددة (التركيب، والإيقاع، والدلالة….). مضمون سردي في هيكل شعري لم يكتب له أن يواجه نظيره  (السرد) بعدما رتب القرآن الكريم الشعر والقص على أساس أخلاقي أعاد تنظيم الخطابات تنظيم الحضارات سرديا، وعليه “لم يكن القرآن رؤية أو قراءة جديدة للإنسان والعالم فحسب، وإنما كان أيضا كتابة جديدة، كما أنه يمثل قطيعة مع الجاهلية، على مستوى الشكل التعبيري، هكذا كان النص القرآني تحولا جذريا وشاملا، به وفيه، تأسست النقلة من الشفوية إلى الكتابة” [بتعبير أدونيس]، قفزة نوعية عد فيها النص القرآني مؤسسا ومشكلا لعقلية الإنسان العربي ناقلا إياه من وضع سابق إلى وضع وجد فيه نفسه ينسج حكايات متنوعة في صياغتها، موحدة في مضمونها الذي كان وسيبقى حابكا لجدلية علاقة فرضت ذاتها وبقوة، هي تلك التي برهنت على صراعية الحياة ( صراع الخير والشر –  صراع الشجاعة والخوف).
أثر الأساس القرآني في الناقد حسام الدين نوالي، ومنه استلهم رؤيته النقدية التي شيدت عقلية جديدة تؤمن بأن “الإطار السردي والسياق الاجتماعي والثقافي” جسد متكامل يُعتمد عليه في تفسير الظواهر، فبحواسه يتم إدراك العوالم، وعبر روحه يُبرهن فعلا أن الحكاية هي أصل الفكر الإنساني ودافع البناء والتشييد وعمارة الكون، ومن هذا المنطلق يغدو الدفاعُ عن شعرية الشعر فقط، حيفاً في حق الحكاية التي سردت منذ القدم حكاية الشعر والشعراء وتاريخهم الذي لن يمحوه زمان ولن ينساه إنسان.  
ويَعتبر الباحثُ في سياق تأصيله للعقل الحكائي أن مساحة السرد توسعت على حساب الشعر، فكرة كانت جنينة فيما مضى لكن علاماتها الواسمة  برزت في الشعر الحديث، والذي يمكن أن نستحضر منه أمثلة “قصائد السرد الموضوعي” التي تميزت بنزعتها القصصية، وقد مُثل لهذا النموذج بـ “القصيدة المطولة الحديثة” التي عرفت باستقلاليتها عن القصة الشعرية لوجود الشاعر السارد في موضع بعيد عن الأحداث، موجِّها لسيرها وتصاعدها وتسلسلها، ثم “قصيدة الواقعة التاريخية” التي تتسم بشمولية واسعة وامتداد لأنها تستحضر الواقعة المرتبطة بالزمن الماضي وتحررها من تاريخيتها، فيكون وجود (التاريخي) في (الشعري) هدفا لا وسيلة.
وقد اشتهرت القصائد التاريخية باسترجاع أحداث التاريخ لاسيما الفتوحات والمعارك والانتصارات…، فالقصيدة التاريخية تستفيد من حدث تاريخي متكامل لتنقله إلى حيز الحاضر دون تصريح مباشر، يمكن للقارئ أن يعاينه كتلة موحدة التفاصيل والأجزاء، لا ينتزع منها قناعا أو رمزا ليقذف به في سياق معاصر واضح الدلالة، بل يحافظ على (سياقية) الواقعة كلها و(زمنيتها) و(شخصياتها)، ويروي من الخارج عبر تقمص دور الراوي وصوته، لكنه يقوم في حقيقة الأمر بعملية (استعارة) قوية يماثل فيها بذكاء بين سياق الواقعة المستدعاة والمستحضرة شعريا وبين اللحظة الحضارية الراهنة في الحياة.
كما يمكن أن نستدعي “قصيدة الحكاية” التي اتخذت تشكيلات فنية على مستوى البنية الشعرية من خلال توظيف نزعة القص عن طريق استعارة مضمون الحكايات ، فالحكاية تحمل مضمونا يمثل أحداثَها المتعاقبة أو متنَها السردي ، وتتشكل بطريقة خاصة يظهر خلالها الحكي بتسلسل خاص وبشكل خاضع لحيل السرد كالاستباق والتقديم ، والتأجيل والتأخير ،والتوقفات والفواصل السردية ، والاستهلال والخاتمة ،والاسترجاع، أو تسريع السرد حسب متطلبات البرنامج السردي للحكاية.
يؤمن الباحث بتأثير التحولات الدينية والاجتماعية على الأجناس والأنواع الأدبية ما نجم عنه تبدل واضح في شعرية النص الشعري ،وهذا يؤكد وجود السرد  كاختيار لبناء العقل السردي، وجود لن يفقد الشعرَ هويتَه، أي أن النصوص الشعرية لن تتحول إلى متون قصصية، وفعلا يجد الدارس للشعر العربي الحديث ملامح تشكل العقل الحكائي من خلال تخفيف القصائد من الغنائية المباشرة والإيقاع الخارجي ما جعل القصيدة تقترب من لغة النثر ومكوناته البنائية..
حيث تم التمرد على التقسيم التقليدي الذي عرفته نظرية أفلاطون التي كانت تفصل بين الغنائي، والدرامي، والملحمي، ليشكل التخفيف نقطة انطلاق صاغ منها حسام الدين نوالي مفهوم ( الاختراق)، وهذا الاختراق ليس بسيطا لأنه يعرج بالعقلية العربية من حال إلى حال؛ هو تجديد وجد فيه القدامى -قبله- ضالتهم وبالتحديد الصولي الذي قدم أول دفاع شبه متكامل عن شعرية الكتابة التي ركز فيها على كتابات تعكس ملامح الحداثة، ” وهي هنا طريقة أبي تمام أو الطريقة المحدثة في مقابل طريقة العرب أو الطريقة القديمة “، هي تلك التي تميزت بالتجديد على مستويي الشكل والمضمون.
إن ما يمكن أن نؤكد عليه هو أن الناقد حسام الدين نوالي قد كان فطنا في نقل قارئه من فكرة كانت تؤمن بأن الشعر هو ديوان العرب إلى فكرة قوامها النقد البناء للمعارف عبر الغوص فيها واستكناه المكانيزمات الشكلية والمضمونية لأجناس موازية كانت موجودة سابقا، وأيضا فسح المجال له لينتقل من سردية الشعر أو القص إلى شعرية السرد ذي الوظيفة الأدبية الجمالية عبر الاهتمام بالحكاية لا باعتبارها أدبا كائنا (être) بل باعتبارها “خطابا يحاول أن يتكلم”، ومن ثمة تتحقق الشعرية بمفهومها العام الشامل لكل  ما ينتجه الإنسان، أي ” استعمالها العام  الذي لا يتعلق بمجموعة قواعد ولا بفن الشعر”، وبمعناها الإبداعي الذي يجعل من عملٍ ما عملا إبداعيا (شعريا – سرديا) يوصل الأمانة سواء أكان هدفها الخير أو الشر في سياق جمالي يبحث عن الخصائص المجردة للحكاية/ القصيدة التي ما انفكت تعالج قصة الأنا والآخر في جدليتهما مع التاريخ.
(°) ماستر السرد والثقافة بالمغرب
المراجع:
  • أدونيس،1985، الشعرية العربية، ط1، دار الأداب.
  • الصكر حاتم،1999، الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
  • الميلود (عثمان)، 1999، شعرية تودوروف، ط1، عيون المقالات للنشر.
  • نوالي حسام الدين، 2017، العقل الحكائي، قراءات في القصة القصيرة بالمغرب، ط1، فالية للنشر.

 

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الإثنين 21 أبريل 2025 - 17:33

الداكي يزور رواق رئاسة النيابة العامة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط

الإثنين 21 أبريل 2025 - 10:55

وفاة الفنان المغربي محسن جمال…

الأحد 20 أبريل 2025 - 12:30

وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية تشارك في معرض الكتاب ببرنامج غني يبرز إسهاماتها في الحقل الديني

الجمعة 18 أبريل 2025 - 23:19

رحيل الفنان المصري سليمان عيد عن عمر يناهز 56 عاما…

error: