مساءلة الكينونة المتهالكة في قصة “جدار آيل للانقضاض” لمبارك السعداني

أحمد بيضي الجمعة 15 أبريل 2022 - 21:05 l عدد الزيارات : 12997
  • كمال الكوطي (°)
يقحمنا السارد مبارك السعداني (°°)، من خلال قصة “جدار آيل للانقضاض”، في عوالم مقفرة، عوالم أفرغت من روحها ليضعنا أمام “واقع مفرط في واقعيته” (1) un Réel trop réel ، واقع أفلت كل صفاته الثانوية  بعنفوانها وعفويتها، بدلالاتها ومعانيها.  زمكان espace-temps géométrique  القصة هندسي (يضع في معصمه ساعته المبرمجة بدقة لمواعيده اليومية…كلهم نبهتهم ساعتهم بشكل متزامن للموعد نفسه…)، نسيج “فاعل مفارق”un Acteur transcendant غير-مشخص Impersonnel، دون ملامح ولا سمات (وجب عليه الالتزام بالتعليمات حرفيا ..تعليمات من؟).
منذ البداية يجد القارئ نفسه أمام سؤال الهوية (استيقظ السيد “ك” (2)..)، لأن الاسم في جوهره إعلان عن انتماء، عنوان مغايرة و تماهي: تمييز للذات المتكلمة عن الذوات الأخرى، وإفصاح عن تطابق للذات مع نفسها (“هي هي” la même). ف”ك” بمعنى من المعاني رمز  تلاشي “الهوية” وحلول العابر والعرضي “البودليري” (نسبة للشاعر الفرنسي شارل بودلير”(3)..). لا هوية بدون ذاكرة، ولا ذاكرة بدون تاريخ، أي: زمن. لكن زمن القصة عمودي دون أفق، ودون أبعاد. حيث يحل المتماثل symétrique  يصير الماضي والحاضر والمستقبل واحد.
في حين أن زمن الحرية فوضوي (خرق الطالبة لقانون “الأخ الأكبر” Big Brother(4)..)، يفر من رتابة الشبيه والنظير. تتعب بصرنا الأمكنة كما الأزمنة المتجانسة، ربما لأنها تفقدنا الإحساس بالحياة، لأن الحياة انفتاح على الطارئ واللامتوقع، في حين أن أمكنة وأزمنة القصة محددة سلفنا من طرف مخرج مطلق-المعرفة omniscient ، يعلم البداية والنهاية وما بينها من أحداث.
في زمن كهذا تتهاوى القيم، لأن القيم وصل ما بين ما كان (الماضي) وما سيكون (المستقبل)، ما بين جيل وأخر (كل الوظائف بشكلها التقليدي تم تجاوزها…). “عبادة الحاضر” Le culte du présent تسير جنبا لجنب مع “عبادة عقل” حسابي لا مكان فيه للعاطفة ولا للخيال (نمو مفرط في منطقة العاطفة على حساب منطقة العقل…داخل المنظومة لا وجود لشيء اسمه الخيال..)، كيف لا وكل شيء مبرمج: الأكل، والنوم، والاستيقاظ، والسفر، والمتعة والعمل…الخ
نداء السارد حابل في العمق بقلق وجودي واضح، رغبة في “كينونة مكتملة” Etre parfait، “جوهر ومظهر”، “كينونة وملكية” (5) إنه في الآن نفسه إدانة صريحة لهذه “الكينونة المبرمجة” Etre programmé التي أضحت سمة وجودنا، نحن الذين مازالت ذاكرتنا حية، ومازالت صلاتنا بالواقع الحي حاضرة في إحساساتنا، وأفكارنا وأفعالنا.
رغبة في الانفلات من قبضة مصفوفة matrice ابتلعت كل ما هو إنساني فينا خدمة “لمجهول”(يسأل نفسه متى وجد؟ من أوجده؟ ماذا يوجد خلفه؟) يسكن كل مكان omniprésent دون أن يكون في مكان بعينه nulle part. إن أنسنة humaniser الجدار، بمنحه قصدية الفعل، فعل الانقضاض محاولة (في اعتقادي على الأقل) لإعادة إضفاء الساحرية على العالم réenchantement، ساحرية فقدها حين جرده الفكر الديكارتي la pensée cartésienne من طعمه، وعطره، وأصواته وبريق ألوانه.
فالقصة في عمقها انتفاضة ضد “السيميلاكر”  simulacre باستهاماته phantasme (وهل المرآة التي تعيش معه في عالم الصور المتحركة، هي أيضا لها شبيه وراء الجدار الشفاف؟….من الأصل ومن الصورة؟) إنها فرار نحو عالم إنساني، وبحث عن الزمن المفقود (6)، وعن المعنى (إنه متيقن من شيء شبيه بالحقيقة، هو لا أحد في عالمه يدرك ما أدركه هو.).
نداء السارد هو أيضا دعوة لتكسير بداهة لا شيء بديهي فيها، مساءلة لهذه الكينونة المتهالكة التي جعلت منا موجودات بسطح خال من العمق. إنه نقد فني لحقبة بأكملها بتناقضاتها ومفارقاتها، عبثيتها وقتامتها، فبدون نقد ومساءلة يصير كل شيء مبررا: القتل والتنكيل، الحرب والإبادة، الكذب والنفاق…فالتأمل الذي يروم إليه السارد هو عودة إلى الذات، محاولة للتحرر من الجاهز القادم من ذاك المجهول، إنه إدراك للواقع “كما هو” وليس كما يراد له أن يكون (وهو يتأمل في ما وراء الجدار، تحاصره الأسئلة المنبثقة من صلب اكتشافه الذي بات يضنيه…). 
نجح القاص “مبارك السعداني” في بضع أسطر في قول ما قاله الفلاسفة في المئات من الأعمال عن غياب المعنى، وطغيان ثقافة الاستهلاك، والسطحية، والتفاهة وانهيار القيم الإنسانية الكبرى….لقد صدق الأديب والفيلسوف الفرنسي “ألبير كامي” Albert Camus  حين قال: “الرواية في العمق فلسفة في صور.”
(1) عبارة مستوحاة من أحد أعمال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “إنسان مفرط في إنسانيته”
 (2) حرف يذكر بأحد الشخوص الرئيسية في رواية فرنز كافكا: “المحاكمة” حيث يرسم الكاتب ملامح عوالم قلقة خالية من المعنى.
 (3) سبق للشاعر الفرنسي “شارل بودلير” أن عرف الحداثة “بالعابر والعرضي…”
 (4) إشارة إلى شخصية من بين شخصيات رواية “1984” للكاتب البريطاني “جورج اورويل”.
 (5) كتاب الفيلسوف والمحلل النفسي “اريك فرام” “الإنسان بين الجوهر والمظهر”. وتحليله لطغيان أفعال الملكية في اللغات الاروبية على حساب أفعال الكينونة.
 (6) عنوان أحد الأعمال العالمية الكبرى للروائي الفرنسي “مارسيل بروست”.
(°) باحث، أستاذ مادة الفلسفة، من أعماله ترجمة كتب “رحلة قصيرة في عالم الكوانتا” لإتيان كلاين، “الموضوع الرباعي – ميتافيزيقا الأشياء بعد هيدجر” لغرهام هرمان، و“من الكينونة إلى الصيرورة” لإليا برجوجين
(°°) كاتب وقاص من أعماله، “الشاهد القرآني عند عبدالقاهر الجرجاني”، مجموعة “ضحك المرايا”،  نقل “رقصة الكولوندرينا” لعبد الر حيم أولمصطفى، من الدارجة المغربية إلى العربية الفصحى بمشاركة المصطفى السهلي.

 

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأحد 4 مايو 2025 - 18:10

العيون تحتضن ندوة علمية كبرى: من أدب التحرر والمقاومة إلى فكر التنمية في إفريقيا

السبت 3 مايو 2025 - 10:44

وزارة الثقافة تسطر برنامجا وطنيا متنوعا احتفاء بأبي الفنون

الجمعة 2 مايو 2025 - 23:54

الحي المحمدي يحتفي بالمسرح في دورته الخامسة تكريما لروح الفنان الراحل أحمد كارس

الجمعة 2 مايو 2025 - 13:10

مهرجان موازين يكشف أسماء فنانين عالميين وعرب جدد في برمجة دورته العشرين

error: