محمد برادة يراهن على التخييل مشعلاً للتغيير: “رسائل من امرأة مختفية” أنموذجا

أحمد بيضي السبت 7 مايو 2022 - 13:25 l عدد الزيارات : 28735
  • سكينة الروكي (°)
السرد ليس نمطا تعبيريا جديدا، واستحضاره استدعاء للأنماط بشقيها الشفهي والمكتوب، وبتاريخيها القديم والحديث، إنه ذلك المفهوم المؤرق الذي شغل اهتمام الباحثين، وتباينت حوله النظريات والرؤى.
ارتبط الخطاب السردي في العصر الحديث بالتقنيات المستعملة، وأيضا بالطريقة التي توصل بها المعلومات للمتلقي، ومنه غدا التطور والتنوع واسم الأشكال الأدبية التي تنضوي تحته، هي تلك التي عبرت عن تمفصلات أنماط التعبير، والتي أفرزت، ختاما، ظهور الرواية شكلا سرديا عبر عن فئات المجتمع، بروز واكبته نظريات نقدية موازية درستها (الرواية) نمطا تخييليا منمازا، هذا الأمر، فرضه التطور الأجناسي الذي وجد جانبه الحركات النقدية توأما يبحث في تحديد معايير جودته ورداءته. ومادام السياق يقف على نمط سردي تخييلي (الرواية)، كان لابد من الإشارة إلى التخييل مبحثا قديما شغل اهتمام البلاغيين والفلاسفة باعتباره أداة تحكم نسيج السرد.
فما هو التخييل الروائي؟ وكيف وظف أفقا للتغيير في رواية “رسائل من امرأة مختفية” (°°) لمحمد برادة (°°°)؟
نماط التعبيرأنماط التعبيرنكان مفهوم التخييل محط اهتمام اللغويين والبلاغيين والفلاسفة، والبحث في حقيقته يستلزم تحديد دلالات مفهوم الخيال في الفكرين الفلسفي والأدبي. 
ينحدر التخييل من أصله البيولوجي الخيال في التركيبية الإنسانية، وبالتالي لا يتحدد إلا من خلال الوقوف عند أهم ممثليه في الفلسفة الغربية، هي العلم الذي نطل منه على أفلاطون الذي تناول مفهوم المتخيل، واعتبر الأجناس الأدبية الموجودة محاكاة لما يوجد في عالم المثل، الذي يعد بالنسبة إليه عالما حقيقيا منزها عن الأعراض الحسية.
ويورد المصطفى السلام في مقاله الموسوم ب: “المتخيل: البنية والتصورات، عن أفلاطون”، بأن كل نوع أو جنس أو أي شيء في الوجود المحسوس له ما يطابقه أو يتطابق معه في عالم المثل أي الإيدوس، وهو عالم الوجود الحقيقي، والموجودات في عالم المثل أزلية لا ينالها التغيير، فهي منزهة عن الأعراض الحسية، ولا يمكن إداركها بالحس بل بالعقل.
إنها هنا، مبدأ أساس تقوم عليه المعرفة، لتكون المحاكاة التي يحاكيها المحاكي  صورا لا واقعا، سياق يجبر القول بوجود فاعلية تشخيصية، تصويرية، مقلدة للوجود بما فيه، الأمر الذي يجعل المصور لا يعرف عن الوجود الحق شيئا وإنما يعرف المظاهر وحدها حسب تعبير المصطفى سلام، ومنه فالأشياء المحاكاة التي نراها ليست واقعا، وإنما هي انعكاس لعالم آخر يعتبره أفلاطون هو العالم الحقيقي، (الإيدوس)، إنه ذلك المتداخل مع الخيال الذي أرخ له أرسطو في كتابه الموسوم بــ “في النفس”، واعتبره طاقة إنتاجية وخلاقة داخل الأشكال والأنساق.
ومن هنا انقلبت الصورة متجاوزة الخيال بمعناه المحاكاتي لتصبح وسيطا بين العقل والحس، وهذا راجع لاهتمام أرسطو بالخيال في مجاليه الطبي والنفسي، اعتبار جعل النفس للخيال عنصرا فعالا في عملية الإدراك، والحس غير قابل للصور المحسوسة والمادية، والعقل مدركا الصور والأشياء، وهنا يصبح الخيال، بهذا المعنى، متخذا منحى مغايرا، حيث ربط بين مختلف وظائف النفس من خلال اشتغال آليات الإدراك،  هي تلك التي يستفاد منها للتعبير عن الواقع من منظورات أخرى، يبئر عبرها السراد وجهات نظرهم ومواقفهم من المجتمع والتاريخ،   وتجعل الآخر يتفاعل معها إما قراءة أو تأويلا، أمور تراهن فيها الثانية على التغيير جاعلة من التخييل الروائي منطلقا لدراسة وتدارس الظواهر الاجتماعية والثقافية بحثا عن حلول لها. 
وإذا أردنا أن نقف على الرواية في السياقين الثقافيين العربي والمغربي، سنجد أنها جنس أدبي دخيل ومستحدث ظهر وترعرع في سياق ثقافة الآخر ( الثقافة الغربية)، هي ذلك الشكل الأدبي التعبيري الذي استطاع أن يلتقط إشارات الواقع ويبنيه وفق رؤيته، هذا في اتجاه التفكير فيها من منطلقها العام، أما في إطار  التغيير الذي تطمح إليه وتعبر عنه، نسلط الضوء على الروائي محمد برادة، وهو مغربي له بصمته الخاصة، اشتهر بغزارة الإنتاج، وانفراد الوجهة، إنه ينتمي إلى تيار الرواية الجديدة التي ثارت على الرواية الكلاسيكية المنظر لها من قبل البنيويين، حيث كانت أحداثها متحملة من طرف بطل واحد محاط بشخوص مساعدة، ويتضمن هذا النوع الروائي وضعية بداية ووسط ونهاية، لكن مع الرواية الجديدة كُسرت خطية السرد عبر الاشتغال على اللغة.
وفي سياق موضوعنا، التخييل الروائي أفقا للتغيير في ” رسائل من امرأة مختفية” لمحمد برادة، يمكن أن نؤكد بأنها عمل تخييلي بامتياز، يراهن على التغيير، ويجعله أفقا يُتطلع إليه من خلال الجمع بين مختلف حقائق الواقع، الثقافي والفكري والسياسي والاقتصادي وحتى الجغرافي، هو رصد تتبع الجانب الواقعي الذي له دور في تشكيل العمل الروائي وعًبر عنه في قالب تخييلي، ومنه عدت المزاوجة بينهما حاكما لنسيج النص.
يفتتح برادة روايته بعنوان بارز اختار له وسم: ” على سبيل التوضيح وإثارة شهوة القراءة”، وقد أبرز تحته خطوطا عريضة مضمونها أن القصة لرجل يدعى ” هيمان”، لم يسبق له أن مارس الكتابة القصصية والروائية، فكلف السارد (الكاتب الذي كان يقرأ له) بأن يقوم بهذه العملية، مزودا إياه بكل تفاصيل الحكاية ومختلف الوثائق التي تؤكد واقعية القصة، هي إطار معطياتي قائم وقار يعبر عنه السارد بفاعلية وحيوية تنفذ بالحقائق خارج البؤر المغلقة متخذة من التخييل معبرا، ونجد في هذا الصدد، برادة نفسه، يؤكد على أن للمبدع حقه في التخييل وتأثيث الفضاء، وهذا ما جعله يقوم بدور القارئ الضمني الذي يستكنه الحقائق الوجودية معبرا عنها بلغات فئات اجتماعية متعددة مستعينا بما حكاه له “هيمان”.
وعلاوة على ما سبق، تظهر الأحداث الواقعية : الواقع السياسي الذي كانت تعيشه فرنسا في ستينات القرن الماضي، والواقع الذي عاشه المغرب عقب استقلاله إلى حدود نهاية الثمانينات، والواقع الاجتماعي عبر الإفصاح عن واقع المرأة المغربية في عهد الاستقلال، وقد مثلت شخصية ” جاذبية عبد العزيز”، هنا، حيث يجب أن يكون التغيير، دور المرأة المفصحة عن أفكارها وعواطفها دون الاعتراف برقابة المجتمع الرسمي، لينتهي بها المطاف في عداد المختفين.
يدور مضمون الرواية حول خمس رسائل، وهي تلك التي أرسلتها “جاذبية عبد العزيز” إلى “هيمان”، حيث يعتبرها هذا الأخير ليست كباقي الرسائل، لأنها تعبر عن كلام صادر من عمق الوجدان، كاشف المستور والمقنع، الراغب في التغيير والبحث عن الملاذ الحرياتي، هي الأسباب التي برر بها السارد اختفاء عشيقته، فإيمانها بقيم التحرر من القيود الاجتماعية يوضح غموض الاختفاء، وفي الآن نفسه، كانت مبادؤها قبيل ما وقع، معبر التحرر وسبيل الخلاص الذي من خلاله استطاعت أن تحرر جسدها من القيود متخذة من “هيمان” عشيقا لها، لتكون علاقتهما قائمة على الحرية والحداثة، تستجيب لرغباتها المشتعلة ونزواتهما المتدثرة بالرعونة المسرفة، إنها غير مقيدة بروابط مقدسة.
 وهذا تحصيل عصر التنوير، فـ “هيمان” هاجر إلى فرنسا باعتبارها النموذج بالنسبة للمغرب، لم يكن ” هيمان” يعرف خبايا فرنسا السياسية، فقدم لنا السارد الواقع الذي عاشته شخصيته في بلدها الأم وفي فرنسا عبر إقامة علاقة مقارنة بينهما، أي بين مكان الانتماء الأولي (الرباط)، ومكان الهجرة (فرنسا).
تتوزع أحداث الرواية بين فضائين، المغرب بمدنه، وهنا نشير إلى الرباط التي تمثل فضاء انتماء “هيمان”، والدار البيضاء،  مكان منشأ ” جاذبية عبد العزيز”، ومكان اللقاء الأول، ثم شاطئ الهرهورة، مكان اللقاء الثاني، ويمثل فضاء الأنا، وكذلك الهوية التي لطالما آمن أصحابها بالقيم الثقافية المتوارثة، وفرنسا التي تمثل الآخر المختلف ثقافيا ولغويا، والمتقدم اقتصاديا ….، وبين موطن الآخر وموطن الانتماء الأول الذي ينظر له موطنا يجب أن يتغير ليسير بعجلة التقدم، تتبدد حقوق الإنسان  والمرأة والحريات الإنسانية، وتنسلخ الأدوار، وتظهر التناقضات، وتتسربل الخبايا.
إن فرنسا بلد ديموقراطي يحترم الحريات الفردية، وهذا تحصيل عصر الأنوار، ففيها لا شيء يحظى بالتقديس، عكس المغرب (البلد المحافظ)، فالحداثة حملت قيم التنوير المتمثلة في: التجديد، والتغيير، والعقلانية، والحرية والإبداع بشتى أنواعهم، والديموقراطية وحقوق الإنسان، وضمن هذه الأخيرة يمكن أن نستحضر حقوق المرأة، التي كبحها التيار المحافظ الذي يعيش تحت سلطة الثقافة لتحقيق أهدافه.
وهذا ما عكسته شخصيتي “جاذبية” و”هيهان”، التي لم يبق من ذكرى الأولى سوى وريقات الورد ومحتويات الرسائل التي ظل “هيمان” يقرأها، ويتذكر من خلالها اللحظات الجميلة، العاطفية والثقافية التي جمعت بينه وبين معشوقته التي تعرف عليها بانفتاحه على المجال الثقافي، فعبره وجد “هيمان” نفسه أمام شخصية مميزة بحسها السياسي (مرحلة الاستقلال)، فكانت منفتحة على العالم السياسي بحسه الساخر، حيث ترى بقيمها الحداثية ما لا يراه أعداء الحرية، والمؤمنون بقيم حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية.
وهذا يبرز جانبا من الواقع الاجتماعي الذي كانت تعيشه المرأة المغربية قبل مرحلة الاستقلال، حيث كانت مضطهدة ومحرومة من حقوقها، وقد مثلت ” جاذبية عبد العزيز” صوت المرأة المتعلقة بالتجديد عن طريق رفض التراث، وهنا تلتقي شخصيتها بشخصية ” هيمان” الذي عاش ودرس الاقتصاد في فرنسا ليتشبع بقيم التحضر والليبرالية.
وعلاوة على التخييل الاجتماعي والثقافي، يظهر السياسي في الاتجاه الجانبي، حيث يقدم السارد مجموعة من الأحداث السياسية، مثل: المناخ الثوري الذي عاشه المغرب مع حكومة عبد الله بن إبراهيم مطلع الستينات، والصراع بين القصر والقوى الشعبية، وانتقال التمرد إلى المدارس وطلاب الجامعة والنقابات، وانبثاق حركة أقصى اليسار المنفصلة عن الأحزاب الوطنية، وانشغال فتائل الاحتجاج في مدينة الدار البيضاء في حوادث سنة 1965م، والتنظيمات السردية ذات المرجعية الماركسية التي كانت ترفض حكم المخزن، وهذا أدى بالحداثيين المتشبعين بقيم الليبرالية إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول الفكر والمناهج الإنسانية وزحزحة المبادئ.
وفي مقابل هذا، قد واجه المخزن المثقفين مواجهة عنيفة، وارتادوا بذلك جحيم التعذيب والسلطة والرقابة، فأزمة الرصاص وغيرها من الأحداث السياسية كانت نتيجة لرغبة المناضلين في التغيير، وقد طالت محاور التغيير تحرير الجسد والجري وراء الوجود، ومن هنا تبلور شخصية كل من ” هيمان” و ” جاذبية” واقعا حداثيا لا تقيده شروط عبر تغذية جسديهما اللذين لطالما تعطشا للذة وانتهاكا الممنوع، إذن، فمدخل التحديث هنا مدخل جسدي، صورته الشخصية الثانية التي كانت متزوجة و  تلتق سرا مع ” هيمان”، وبرهن السارد من منطلقه أن الزواج مملكة إكراهية، فأن تكون حداثيا معناه أن تحب الحياة، ومنه ظل دائما متطلعا للعدالة والحرية والحياة.
نخلص هنا أن أعمال برادة تخييلية بامتياز، آمنت بالتغيير وسعت إلى تحقيقه، وهذا أضفى على الأحداث الواقعية بعدا جماليا، فقد جعل هذا الروائي المبدع الرواية عالما مفتوحا على أفق فني يصور الحياة عبر صياغتها بطرائق تبدو في تفاصيلها كأنها واقعية، لتنطبق عليه قولة القائل: إنه هو المبدع الذي استطاع أن يخلق شخصيات من لحم ودم، وتجسد معه الرواية ذلك الوعاء القادر على استيعاب الأجساد للأرواح بأحداثها المفتوحة على عوالم متجددة.

ــــــــــــــــــــــــ

(°) طالبة باحثة في سلك الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية /جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال
 (°°) رواية “رسائل من امرأة مختفية” صادرة عام 2019
(°°°) محمد برادة، كاتب وروائي مغربي، له عدة أعمال منها مثلا: “لعبة النسيان“، “الضوء الهارب”، “مثل صيف لن يتكرر“، “موت مختلف”، ودراسات نقدية: “لغة الطفولة والحلم: قراءة في ذاكرة القصة المغربية”، “أسئلة الرواية، أسئلة النقد”، كما له اسهامات في الترجمة منها: “الدرجة الصفر للكتابة لرولان بارت”، “قصائد تحت الكمامة” لعبد اللطيف اللعبي”، “الخطاب الروائي لميخائيل باختين“، وهو حاصل على عدة جوائز منها: “جائزة المغرب للكتاب في صنف الدراسات الأدبية” و”جائزة كتارا للرواية العربية”.
تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 10:51

المجلس الأعلى للسلطة القضائية يناقش مستقبل التكنولوجيا الحديثة في المجال ‏القضائي

الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 06:41

يحيى الفخراني شخصية العام الثقافية بالمملكة المغربية

الإثنين 21 أبريل 2025 - 17:33

الداكي يزور رواق رئاسة النيابة العامة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط

الإثنين 21 أبريل 2025 - 10:55

وفاة الفنان المغربي محسن جمال…

error: