سردية المدينة من المكان إلى الفضاء: قراءة في مجموعة “لا طمأنينة في مدينتي” للقاص عبد الحميد الغرباوي
أحمد بيضي
السبت 8 أبريل 2023 - 17:31 l عدد الزيارات : 27353
حسام الدين نوالي (الحسين والمداني)(°)
مدخل:
تعيد المجموعة القصصية (لا طمأنينة في مدينتي) لعبد الحميد الغرباوي، السجال النقدي حول المكان والفضاء، والذي عمّقَت اضطرابَه الترجمة العربية الشهيرة لكتاب باشلار (La poètique de l’espace)، التي أنجزها غالب هلسا: (جماليات المكان)، لدرجة أن حسن نجمي اعتبرها “جناية من ذلك النوع الذي يمكن أن نسميه بالجريمة الرفيعة في حق الحقل النقدي والأدبي العربي، ومات (غالب هلسا) ولاتزال ذيول الجناية حية متواصلة” .
ولننطلق من كون الفضاء يتجاوز الإطار المادي الهندسي والبصري، ليغدو عنصرا دامجا لكل مكونات العمل السردي، إنه مضمر، غير مرئي، وغير موصوف، لكن يمكن تلمسه في اللغة والأمكنة والحوارات والشخصيات والطباعة…. وغيرها، أنه – بتعبير بيير هربرت- “عنصر بنينة”، ومن ثمة فإن الفضاء ليس مجموعة الأمكنة وعلاقاتها بالوسط والحيز والديكور…، بحيث إن حضور أمكنة المدينة – مثلا- لا يفضي بالضرورة إلى الفضاء المديني في العمل السردي، ذلك أن الفضاء يشترط علاقات أخرى بين الشخصيات وحواراتها واللغات وتوزيع المشاهد وإيقاعاتها بما يؤول إلى منح النص روح المدينة التي ينبغي وضع القارئ في فضائها.
وتقدّم المجموعة القصصية (لا طمأنينة في مدينتي) مادة تتيح تتبّع مستويات الاشتغال على فضاء المدينة لكونها تزخر بأمكنتها ومرافقها ومجالها.
1- الطمأنينة والمكان:
في محاضرة قدّمها هايدغر، ضمن حوار (دار مشتات) حول “الإنسان والمكان”، وترجمها إلى العربية إسماعيل مشتات، ونشرها في (كتابات أساسية)، سنة 2003- فصل فيها هايدغر بين البناء والسكن وتتبّع علاقتهما بالتفكير، من خلال الجذور اللغوية الألمانية، وخلص إلى الربط بين السكن والإقامة والأمان والخصوبة…، وهي علاقات لا يندرج ضمنها البناء.
وعلى النحو ذاته الذي اعتمده هيدغر، إذا انطلقنا من الجذور اللغوية العربية، فإننا نسجّل تقاطعات كثيرة مع الأصول اللغوية للفظتيْ (السكن) و(المكان)، فإذا كانت الكلمة الألمانيةBAUEN التي تعني السكن، تنطوي على دلالات أخرى هي: (الكينونة، زرع الحقل، رعايته، الإقامة، البناء…)، فإننا لا نخرج عن الدائرة نفسها في اللفظ العربي.
فابن منظور في “لسان العرب” يصل “السكن” ب “المكان” أي بالإقامة، ثمّ يورد كلمة (مكان) في موضعين بجذرين مختلفين، فهي مرّة من (كَوَنَ)، ومرة أخرى من (مَكَنَ)، ثم يسردُ جزءاً من السجال اللغوي حول هذا الأصل، ومنه قول الليث: “المكان اشتقاقه من كان يكون، ولكنه لما كثر في الكلام صارت الميم كأنها أصلية”. ومن هنا فالمكان – الذي هو أصل السكن- ينطوي على الكينونة. كما يضيف “والسكن المرأةُ لأنه يسكن إليها” ، ومنه قوله تعالى: ( وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا).
واستنادا إلى هذا، فإن ربط هيدغر كلمة السكن BAUEN بزرع الحقل، يجد أيضا مقابلا له في الثقافة العربية، فالمرأة سكن، وهي أيضا توازي الحقل، (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ).على أن كلمة FRIEDE التي تتصل في اللغة الألمانية بالإقامة وتعني أيضا الأمان والحماية، نجدها في التعبير العربي المتعلّق بالمرأة المتزوجة التي بُني بها وصارت سكنا، فهي تغدو مصونة ومُحصنة.
وإذا كان هايدغر قد ربط السكن بحفظ ماهية الشيء وتركه على طبيعته، فإننا نجد تصاديا لهذا الاستعمال اللغوي في العربية أيضا باعتبار المسكن حماية وتحصينا، ليس عند الإنسان فقط بل عند الهوام أيضا. ففي القرآن:(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).أي أن السكن هنا هو حماية للنمل من التغيّر الذي يمثّله التحطيم.
وتبعا لذلك، فإن الدلالات العميقة التي تتبّعها هيدغر في الجذور اللغوية لألفاظ السكن والمكان، نجدها تتقاطع مع الدلالات التي تمنحها إياها اللغة العربية، كما لو أن الثقافتين اللغويتين تلتقيان في أن السكن يحمل دلالة الكينونة والزرع، والرعاية والإقامة، والأمان/التحصين. فالمكان يتيح البناء، والبناء –إذا توافرت فيه شروط وعوامل معينة- يغدو سكنا واطمئنانا.
2- الطمأنينة والمدينة:
ارتبطت نشأة المدن بالإقامة وبالاستقرار، وبالحماية التي توفرها الجماعة وتنظيمها، وكلها عوامل تفضي إلى الأمن والتحصين والطمأنينية، وما يتولّد عنها من الرفاهية والتقدير. غير أن الفجوة الحاصلة بين منحى البناء والتعمير من جهة، وسبل تحقيق السكّن والسكينة، جعل المدينة بعماراتها ومبانيها ومنشآتها تغدو “مجرّد تكويمات عشوائية راكمها الإنسان في المكان”، حتى غَدت المدينة “أدغالا حجرية نعيش داخلها”، فنتجت عنها أحاسيس الضيق وعدم الارتياح والقلق والتيه والاضطراب…، وصارت منشآتها وخدماتها تنتج التوتر وتُفزع أكثر مما تتيح الأمان والاطمئنان، وهو ما تشتغل عليه فنيا مجموعة “لا طمأنينة في مدينتي”، فتبني فضاء قلقا، مضغوطا، وسريعا، تنخرط فيه الشخصيات واللغة والبناء والتوزيع البصري للصفحات والأحداث…، فضلا عن ما يوفره المعجم المديني للأمكنة والعلاقات والخدمات والرموز وغيرها.
ويقدم السارد الركضَ مقابلا موضوعيا للقلق والتيه، حيث الجميع يركض في جميع الاتجاهات: العشاق، النشالون، المواطنون، العمال… “وقد تتقاطع الاتجاهات فيحدث جراء ذلك ما يشبه الاصطدام، ذلك المؤدي في حالات ما إلى تبادل الشتائم ونشوب عراك” (ص14). وهذا الوضع الذي آلت إليه المدينة في تحولاتها وانحرافاتها وأعطابها واختلالاتها، هو بؤرة التفكير والسؤال داخل المجموعة:
“أنا الآن أركض
إنما، لماذا أركض؟
هذا ما يحيرني وأدعوكم للتفكير فيه، لم لا؟” (ص15).
إن هذا التفكير الذي أفرزته التحولات المستمرة، هو نتاج حالات إنسانية ونفسية وذهنية لا تستوعبها الجماعات المتمدنة إلا متأخرة، تماما مثلما لم ينتبه أحد للشبح الذي يعبر الشوارع إلا حين صدمته سيارة، فبدت لحظة السقوط مشهدا مفجعا، و”لم يعد هو شبحا. جثة ممددة وسط الطريق” (ص51). فيما أن المدينة “التي كنت تفكّر أو تحلم بإنقاذها، لا تنفك تتغيّر، تتسع، وستظل تتغير، وأنت تتقدّم وتتوغل في العمر” (ص69)، وها هي بلغت نقطةّ صارت عبئا لا رفاهية فيه ولا أمان ولا طمأنينة ولا سكن ولا تحصين للذات والنفس والعلاقات…، وهو شأن لا يتعلق بمنطقة ما في العالم دون غيرها، ولكن يقع شيء من هذا القبيل في كل المدن: العالم يحترق (ص 94).
وسواء أكانت المدن قد نشأت بدافع الحماية، معسكرات تحوّلت إلى تجمعات مهيأة كما هو الحال بالفسطاط والكوفة وغيرهما، أم لتنظيم العلاقات الداخلية وتوزيعها بين الأفراد في الري والأعمال الحياتية، فإن مركز تشكّلها لا يخرج عن محور الرفاهية والطمأنينة. وما تزال المدن القديمة وأحيائها الأولى تشهد تناغم العمران والإنسان في احتياجاته وعاداته وقيمه، بيد أن ما آلت إليه المدن يفضي إلى اغتراب الفرد في محيطه، وعدم الشعور بالراحة في والأمان في الشوارع والأرصفة والأزقة … في مفارقة يوظّفها السارد ويستثمرها، إذ يقول:
“وأنت على الرصيف
سر على مهل، سر بطيئا
وتخيّل الرصيف نهرا تسبح فيه أسماك ملونة (…)
ماذا؟أقلت:
سر بطيئا؟
بل،سر سريعا
الرصيف ليس مرفأ لمراكب خيالك (…)
الرصيف ملوث بالعفن، بالبراز
بالبول والبصاق
(…)
لا طمأنينة على الرصيف
لا طمأنينة في المدينة (ص 75- 79).
تلك الطمأنينة التي أضحت مؤدّى عنها في المقاهي الراقية بالأحياء الحديثة، والتي “تبيعك الفترة الزمنية التي تقضيها في مكان هادئ (ص81).
3- المدينة/الفضاء والمدينة/المكان
تزخر المجموعة بأمكنة مدينية: (المقهى، الشارع، الرصيف، الشقق، الطوابق، سيارة الأجرة…)، وهي أحياز تمثل حوامل لأحداث وشخصيات ولغات، ويتم توظيفها لتأثيث الفضاء الذي يحيل على القلق والسرعة والانكسار والتيه وانعدام الأمان، فتنخرط مع باقي المشكّلات السردية في بناء فضاء المدينة.
ويتخذ المكان في النصوص السردية صيغة رمزية لأنه يُبنى باللغة وليس منظورا، فهو علامة إلى جانب باقي العلامات يؤدي وظيفة تتحقق في البناء لدلالي الشامل، أي أنه ينخرط في المعنى. ويظهر أن المجموعة استطاعت بناء التناغم بين المكان المديني وفضاء المدينة، بما يجعل العمل مقنعا على المستوى السردي والإيهام بواقعيته، ويمكننا تصنيف اشتغالها وفق منحيين:
أ- تقديم المكان بشكل عكسي يتجه من الجزء الصغير إلى الكل الكبير، ممعنا في تقزيم الكائن وتيهه داخل مجال عملاق يحيط به:
“غرفة تشكّل مع غرفة أخرى وصالون مربّع ومطبخ وحمام شقّة صغيرة في الطابق الثاني من عمارة تقع بشارع عريض وطويل ينتهي بساحة يتوسطها دوار…”، إنها جملة طويلة عملاقة مثل مدينة تبتلع سكانها، وإلى جانبها نجد الجمل القصيرة السريعة القلقة اللاهثة.
ب- تقديم المكان معزولا، مغلقا: (سيارة الأجرة، المقهى، الشقة…)، لا تكاد الشخصيات تتفاعل فيه مع الآخر إلا داخل إطار الرفض والتوجس والريبة، والاضطراب، كما لو أنها معزولة حتى ضمن سياقاتها الاجتماعية، ومن ثمة فإن عزلة الأمكنة تنخرط في بناء العزلة الكلية لباقي المكوّنات، مما يمنح فضاء سرديا يؤطر النصوص كلها، يمنح من واقع المدينة ومآلاتها.
4- خلاصة:
تقودنا النتائج هنا إلى سؤال العلاقة بين التخييلي والواقعي في مجموع “لا طمأنينة في مدينتي”، إذ لا تنحصر أشكال تقديم المدينة في الوصف وأسماء المدن والحدود الجغرافية واستحضار المرافق والخدمات المدينية وغيرها، إلا من باب مماثلة الواقع وقوانينه، واستمداده لمنح الأحداث والوقائع قدرة الإقناع، بل إن حضورها يتخذ أشكالا مختلفة تنسحب على الشكل والبنية والشبكة السردية، كتشظي بنية النص، وسرعة الجمل، وقلق الحوارات، وعزلة الكائنات، وتقزيم الشخصيات، وتيهها، وتباعدها… مما يجعل هاجس هذا الاشتغال، ليس نقل أمكنة المدينة ومنشآتها فحسب، ولكن نقل روح المدينة، وفكرة المدينة، وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى فضاء يمكن تتبع وقعه على مستويات مختلفة.”
(°) قاص وناقد، من أعماله “العقل الحكائي: دراسات في القصة القصيرة بالمغرب” ومجموعتي “الطيف لا يشبه أحدا”و”احتمال ممكن جدا”
تعليقات
0