في حوار مع الباحث كمال الكوطي حول الفلسفة والترجمة
أحمد بيضي
الأحد 14 مايو 2023 - 20:23 l عدد الزيارات : 16061
أنوار بريس
أجرى الناقد والروائي والشاعر أمجد مجدوب رشيد حوارات متنوعة مع عدد من الأكاديميين والمبدعين: د. عبد الواحد المرابط، د. مصطفى سلوي، د. أحمد مفدي، ذ. إدريس أمغار مسناوي، ذ. كمال الكوطي، والفنان عبد الله المهدي، والمبدع العربي بنجلون (من المغرب)، ثم مع د. شربل داغر (من لبنان)، دة. أسماء الصمايرية ودة. فتحية بنفرج (تونس)، والقاص ذ. علي السباعي (من العراق) والشاعر ذ. محمد الشحات (مصر)، وذلك في إطار “حوارات في الأدب والنقد والفن”لفائدة الجزء الأول من كتاب، صادر عن مطبعة ووراقة بلال بفاس، تحت عنوان “سيمياء المبدع وسموات الإبداع”، وهو من تقديم الروائي مبارك السعداني، وهنا الحوار مع المترجم والباحث في الفلسفة وفلسفة العلوم ذ. كمال الكوطي.
ماذا تعني الترجمة بالنسبة لك؟
– الترجمة بالنسبة لي هي شكل آخر من أشكال الانخراط في الإبداع الفكري، أكان هذا الإبداع فلسفيا أو غير فلسفي، بل أن فعل الترجمة هو في حد ذاته إبداع، فضلا عن ذلك، أرى أن الترجمة سفر، سفر في ثنايا فكر مغاير وليست، كما قد يعتقد البعض، نقلا لكلمات وجمل من لغة إلى أخرى. لذا يقتضي ويستلزم هذا الفعل استيعابا لهذا المغاير ومحاولة تمثله، بحيث أن الأمر شبيه هنا بمن سافر لبلد غريب، بلد يشترط الاندماج فيه استيعاب عالمه الرمزي، بدء بلغته، لأن اللغة كما يقول الانتروبولوجيون حاملة لرؤية أهلها للعالم، إنها البوابة التي تمكننا من الولوج إلى ثقافة الآخر في أبعادها وتجلياتها المتعددة.
ما هي محددات اختيارك لعمل ترى أنه جدير بالترجمة؟
– المحدد لا ينفصل في اعتقادي عن طبيعة الاهتمامات الفكرية للمترجم، على الأقل بالنسبة لي، لهذا حين اخترت ترجمة أعمال بعينها، وهذا يصدق على مشاريعي المستقبلية، سواء تعلقت هذه المشاريع بالترجمة أو التأليف، فإن اختياري ذاك لا ينفصل عن مشروع فكري أعم يرتبط بالدرجة الأولى بحقل متخصص، وأعني بذلك فلسفة العلوم وتاريخها. لهذا لن تجدني أترجم أعمال أدبية، مع عشقي للآداب، رواية وشعرا.
هناك بعض المترجمين لا خلفية معرفية لهم بما يترجمون، ما مدى الحاجة في نظرك لميثاق الترجمة؟
– سؤالك هذا، إذا كنت قد فهمته جيدا، يعود بنا إلى السؤال الأخير، فهل يمكن الانخراط في الترجمة دون خلفية معرفية، وبدون مشروع فكري ثاو خلفها؟ في اعتقادي لا يمكن ذلك، لأنه كما سبق وقلت الأمر يتعلق بسفر في خارطة فكر مغاير، الأمر الذي يقتضي من المسافر التوفر على بوصلة، وأعني بذلك استيعاب لغة ذلك الفكر واستيعاب ما تفضلتم بتسميته خلفيته المعرفية والنظرية.
لهذا السبب قلت بأنه لا يمكنني الانخراط في ترجمة أعمال أدبية لغياب تلك الخلفية ولخصوصية الإبداع الجمالي الذي يقتضي تملك خطاب رمزي من نوع آخر، وكذا حساسية وذوق فني متميز. وبهذا أكون قد وضعت بعض ملامح هذا الميثاق الذي ألمح إليه سؤالكم.
لو سألناك عن المشترك بين عمليك الأخيرين “من الكينونة إلى الصيرورة” ل “إليا برجوجين”، و”الموضوع الرباعي” ل “جرهام هارمن”؟
– لقد أشرت في المقدمة التي خصصتها لكتاب “الموضوع الرباعي”، إلى أن ترجمتي لهذا العمل تدخل في نطاق اهتمامي بفلسفة العلوم، ولبعض قضاياها الكبرى وأخص بالذكر هنا ما ارتبط بالنزعة الواقعية. لذا استطيع القول بشكل عام جدا، لأن سؤالكم هذا يقتضي استحضار تفاصيل عديدة ومتخصصة لتبرير أبعاده، أستطيع القول بأن هناك تقاطع في الرؤى ما بين “برجوجين” و”هرمان” في ما يتعلق برفضهما لنوع من النزعة المثالية التي تريد رهن العالم، أشياء وظواهر، بالذات التي تدركه.
لهذا لم يتردد “هرمان” في نعت، إن شئنا القول، أنطولوجيته ب”الانطولوجيا الممركزة حول الموضوع” مؤكدا على استقلالية العلاقات التي تربط الموضوعات في ما بينها عن علاقتنا بها، ومؤكدا أيضا على عدم أولوية العلاقة التي تربط الذات بالموضوع كما رسمت معالمها الفلسفة الحديثة بدء من “ديكارت”.
في الآن نفسه أصر “برجوجين” على رفض المكانة المتميزة التي منحها العلم الكلاسيكي، من “نيوتن” إلى “اينشتاين”، وصولا إلى فيزياء الكوانتم، “للزمن الفيزيائي” الحتمي والراجع على حساب “الزمن الظاهراتي” الاحتمالي وغير الراجع، مؤكدا على عدم مشروعية اختزال هذا الأخير إلى تقديرات ذاتية أو جهل بتفاصيل وتعقيدات الظواهر المدروسة؛ بمعنى آخر: يؤكد “برجوجين” على أن الزمن الظاهراتي سمة ملازمة وجوهرية للكون بأكمله وليس إسقاطا لخصائص ذاتية على الأشياء…
المترجم قارئ، فما الذي شدك إلى فلسفة “هارمن”؟
– لقد أتيت للتو على بيان السبب الذي دفعني إلى ترجمة عمله هذا …
ما الصعوبات التي واجهتك أثناء ترجمة عمل “هرمان”؟
– أعود وأقول بأن الترجمة هي سفر داخل خريطة فكر مغاير، خريطة مليئة بمسالك وعرة، أو “حقل ألغام” يتطلب من مقتحميه تفادي المسار الخاطئ، وأول هذه المسارات الخاطئة، في اعتقادي، إسقاط تمثلات المترجم على النص المترجم، وثانيها الاحتياط من الشحنات التي تحملها المفاهيم الفلسفية، فلهذه الأخيرة تاريخ، وتاريخها هذا قد يشوش فهمنا لها، فالمطلوب هو فهمها داخل النص حيث هي، وفي العلاقات التي تربطها بمفاهيم أخرى داخل نفس النص، فالأمر شبيه هنا بنوع من “الحلول” الصوفي في فكر المؤلف الذي نسج خيوطها…هذه بعض أوجه الصعوبات التي قد يصطدم بها كل مترجم…
تقدم السيميائيات نفسها كتصور إبيستيمي عام وكمنهج إجرائي في قراءة الإنتاجات البشرية الأدبية وغير الأدبية، ما هي مناطق التقاطع التي ترى أن السيميائيات تتماس فيها مع الترجمة؟
– أعتقد، وهذا رأي شخصي يحتاج إلى تمحيص، بأن نقطة التقاطع الرئيسية بين المجالين هي في اشتغالهما معا على العلامات. وهذا يعني أنهما مجهود نظري غايته تملك المعاني الثاوية خلف النصوص (علما أن ميدان السيميائيات أعم وأشمل من حيث اشتغاله على جميع أنواع العلامات)، هذا مع افتراض أن هناك معنى أصلي يلزم على السيميائي والمترجم كشفه.
إن الأمر شبيه، في حدود معينة، بعلم التحليل النفسي أو نظرية المجموعات، حيث حضور بنيتين متقابلتين: بنية يشكلها “نص أصلي”، قد يكون خطاب اللاشعور أو عناصر مجموعة الانطلاق، و”نص” آخر مقابل للأول، نص يسلط الضوء على المعاني الممكنة للنص الأول. لذا فإن جهد الباحث، سيميائيا كان أو مترجما، هو في إبداع هذا المنهج القادر، كما أشرت، على تملك تلك المعاني عبر مقاربة منهجية لتلك العلامات.
في الحقيقة كنت أتوقع أن يتوجه هذا السؤال الأخير إلى أوجه التقاطع والقرابة ما بين النماذج العلمية، كما هي في الفيزياء مثلا، ومجال السيميائيات… على أي قد نطرق هذا الباب في حوار آخر.
لا تنهض السيميائيات إلا بالتأويل، والتأويل فعل لا يمارسه سوى قارئ نص أو ما يقوم مقامه؛ والترجمة اشتغال على نص، ومحاولة لمنحه المعنى انطلاقا من فضاء لغوي جديد، والترجمة هي أيضا اختيار واصطفاء لنسق على نسق، وهي بهذا الفهم تأويل وهذا ما جعل باب الترجمة وإعادة الترجمة دائما مفتوحا…إنها نقطة مشتركة، وعليه ألا تتقاطع الترجمة مع هذا التصور؟
– عند حصولي على الإجازة في علم النفس، قررت متابعة تكويني للحصول على دبلوم الدراسات المعمقة، تخصص علم النفس اللغوي أو ما يسمى بالسيكولسانيات psycholinguistique، وهو ما تم بالفعل؛ ومن بين العلوم التي كنا مطالبين بالاطلاع عليها وعلى نظرياتها”علم النفس المعرفي” la psychologie cognitive، أي ذلك العلم الذي يقارب طرائق اشتعال الذكاء البشري، ويعتبر الذكاء الاصطناعي من النماذج النظرية التي تعتمد في فهم وتفسير ذلك الاشتغال.
ومن بين ما توصل إليه هذا العلم هو أن تفاعلنا مع ما يحيط بنا هو في واقع الأمر معالجة لمعلومات traitement d’informations، شبيهة بتلك التي يقوم بها الحاسوب؛ فقراءة نص تأويلا وفهما هي في واقع الأمر تفاعل ما بين “برامج المعالجة” programmes de traitement، ما تسمونه “بالقارئ”، و”موضوع المعالجة” objet du traitement، فعلى سبيل المثال حين أصادف الجملة التالية: ” فاس مدينة عريقة”، فإن معالجة هذه القضية الأخيرة تقتضي منا إدراكها، والتعرف على حروفها، وعلى بنيتها التركيبية ومن تم بناء معناها (أقول هذا من باب التبسيط فقط).
لذا فالفهم هو في العمق عملية معقدة فيه استدعاء لبنية مبنينة structure structurée (القارئ) ولنص (ما دمنا نتحدث عن الترجمة) نفترض أنه حامل لمعنى يلزمنا كشفه. هذا بالضبط ما يجعل، كما تفضلتم بالإشارة إلى ذلك، باب الترجمة مفتوحا، بل ويجعل باب التأويل مفتوحا هو الآخر…
لهذا السبب أعود وأقول بأن التأويل لا ينفصل عن تفاعل القارئ مع النص، تفاعل فيه ابتكار لمعنى، أو لنقل ابتكار لمعنى من المعاني الممكنة. لنلاحظ كيف أن فعل “ترجم” في اللغة الفرنسية حامل لدلالات تقربنا كثيرا من فعل التأويل: فالفعل traduire الفرنسي يعني في الآن نفسه “نقل نص من لغة إلى أخرى”، كما يعني “تفسير شيء ما أو تأويله أو التعبير عنه”، كقولنا مثلا: Ces idées traduisent ça manière de voir le monde، “تعبر (وتكشف وتظهر وتفسر) هذه الأفكار الطريقة التي يرى بها العالم؛ كما يقصد بالترجمة أيضا: “عرض المتهم على أنظار العدالة” traduire quelqu’un devant la justice .
وإن نحن جمعنا ما بين هذه الدلالات الثلاث سنجد أن فعل الترجمة هو: “نقل لنص من لغة إلى أخرى، لكن هذا النقل لا ينفصل عن عمليات الكشف والإفصاح والتأويل، وفي النهاية عرضه أمام أنظار القراء قصد “محاكمته”!
تعليقات
0