الناقدة والباحثة المقارنة فاتحة الطايب: المغرب من بين أكثر البلدان العربية نشاطاً في الترجمة رغم غياب برامج ناظمة
أحمد بيضي
الخميس 6 يونيو 2024 - 21:00 l عدد الزيارات : 53510
حاورها: إبراهيم الكراوي
\ س-هل يمكن أن تُلخصي لنا مسارك البحثي في مجال دراسات الترجمة في إطار الأدب المقارن، من خلال محطات شكلت أساس بناء تصورك لعلاقة الترجمة بالمثاقفة؟
ج- أشير بداية إلى أن الترجمة كانت وما تزال بالنسبة إلي آلية مساعدة على تعميق الوعي بالطبيعة المركبة للهوية المغربية وبغنى التاريخ الثقافي المغربي، فالترجمة التلقائية بين الأمازيغية والعربية – مع كل ما تتوفر عليه اللغتان من عمق ثقافي هو نتاج عبور ثقافي متشعب وتليد – تعد جزءا لا يتجزأ من معيشي اليومي شأن نسبة كبيرة من المغاربة، أما علاقتي بها كممارسة بحثية أكاديمية، فتعود إلى السنة الرابعة من مستوى الإجازة، حينما كلفت بترجمة دراسة لأنطونان آرطو بالفرنسية إلى العربية وأنا أعد بحثا حول مسرح القسوة. ساعتها أدركت حجم المسؤولية الملقاة على عاتق المترجم –ة-، ودوره الجوهري في إنجاح أو إفشال عملية التلاقح بين ثقافته والثقافات الأجنبية.
أما متعة العبور الجمالي والثقافي فقد اكتشفتها سنتين قبل ذلك وأنا أحاول ترجمة الأغنية الروسية ” في كل أغنية شمس- وفي كل قلب أغنية”، تحت تأثير تعلمي للغة الروسية. فبفضل الترجمة يصبح بإمكان المترجم -ومن ثم القارئ عبر العالم- أن يلمس بعضا من فساحة الكون وسحره وغناه.
إلا أن المحطة الحاسمة في علاقتي بالترجمة (الدراسات الترجمية تحديدا)، فترتبط بمستوى الدراسات العليا – تخصص “الأدب المقارن”، ليس لأن الترجمة تمثل حجر الزاوية في هذا الحقل المعرفي فحسب وإنما لأن نهاية الثمانينات من القرن العشرين تزامنت مع تأسيس مشروع “دراسات الترجمة” في الجامعة المغربية.
فكان أن خصصت بحثي لنيل شهادة الدروس المعمقة، بتوجيه من أستاذي الدكتور سعيد علوش والدكتور محمد أبوطالب، للمقارنة بين ثلاث ترجمات عربية لكتاب رولان بارث:Le degré zéro de l’écriture تلت هذا البحث أطروحة السلك الثالث في الترجمات الأدبية المعاصرة في المغرب (رواية، شعر، ونقد)، فأطروحة دكتوراه الدولة في الترجمات الفرنسية للرواية المغربية الحديثة والمعاصرة.
و قد أتاحت لي كل هذه الأبحاث التي أنجزت في فترات حاسمة من تأسيس وتطوير نقد الترجمة في المغرب، فرصة التعمق في علاقة الترجمة بالمثاقفة وبناء تصوري الخاص عنها، استنادا إلى اطلاعي على نماذج أساسية من المنجز الترجمي المغربي والعربي في علاقته بالنصوص المصدر، بالموازاة مع تمثلي لتشعب نظريات الترجمة واستفادتها من شتى الحقول المعرفية. مفاد هذا التصور أن الترجمة هي مفتاح فهم جوهر الكون، القائم على التعددية والاختلاف في ظل التفاعل . ولعل “ما يتعذر ترجمته ” في كل نص/ ثقافة هو أفضل رد على دعاة التنميط والمنتصرين للفكر أحادي البعد هنا وهناك.
\ س– بحسب تصورك، كيف تتجلى مظاهر العلاقة بين الأدب المقارن و الترجمة ؛ بمعنى هل يمكن اليوم الحديث عن تخصص مستقل اسمه الترجميات ؟ أم أن الأمر يتعلق بفرع انبثق عن حقل الدراسات المقارنة ؟ ثم ما هي مظاهر العلاقة بينهما و بين العولمة؟
ج- سأبدأ بالسؤال الأخير لتوضيح الرؤية: يوجد بون شاسع بين الأدب المقارن والعولمة الثقافية: فالأدب المقارن حقل معرفي عابر لحدود اللغات والحقول والثقافات، في سياق مثاقفة عالمية إيجابية تؤكد على الانفتاح والتلاقي في ذات الوقت الذي تعمل فيه على تأصيل الكيان مما يؤدي حتما إلى الاحتفاء بالاختلاف والاعتراف بالآخر شريكا في بناء الحضارة. أما العولمة الثقافية الناتجة عن العولمة الاقتصادية كنظام يتم فيه إخضاع العالم لمعايير ومقاييس القوة المهيمنة على السوق، فتتقصد التنميط عبر تذويب الاختلافات الثقافية وفلكرتها لفائدة الأقوى.
استنادا إلى كل ما سبق يمكن القول، إن العولمة تسعى إلى تسخير الترجمة (الترجمة إلى اللغة الانجليزية بطبيعة الحال) لفائدة زعمها توحيد البشرية، مع العلم أن علاقات القوة تنشأ في الصراع اللامتكافئ بين لغات محلية مختلفة واللغة المسيطرة (اللغة الإنجليزية) في عالمنا هذا، كما أكد ذلك كل من سوزان باسنيت وهاريش تريفيدي.
فمن المفاهيم التبسيطية والامبريالية في آن واحد لظاهرة الترجمة ربط رعاة العولمة لها بادعاءات تشييد القرية الكونية، حيث يشاع أن “الترجمة أصبحت لغتنا الأم في عالمنا المعولم”. والحال أن ما يعتبر عالم “نا “-كما حق للمنظرة الهندية غياتري سبيفاك أن تسجل مستغربة -ليس واحدا ومتجانسا، وثلاثة أرباع العالم لا تعد من رعاياه بمن في ذلك : “المهاجرون” الذين يحملون “عالمهم الثالث” داخلهم وداخل عقول سكان” العالم الأول”.
بالنسبة للسؤال الأول، أقول: إلى حدود الثمانينيات شكلت الترجمة وعي الأدب المقارن الشقي حيث من الملاحظ أن الدرس المقارن الأكاديمي، الذي يزعم تعميق الروابط بين الآداب الوطنية وفق منظوري المدرسة الفرنسية التاريخية والمدرسة الأمريكية الجمالية ، لم يهتم إلا نادرا بالترجمة. مما يفيد، أن المقارنين المتبنين لهذين المنظورين أهملوا دراسة الترجمات لفائدة اللسانيين والمترجمين أنفسهم، لأسباب لها علاقة بتناقض ماهية الترجمة بوصفها نشاطا ثقافيا وسياسيا بامتياز مع أهداف هاتين المدرستين الغربيتين المتمركزيتن اللتين سيطرتا بالتالي على هذا الحقل المعرفي إلى حدود منتصف الثمانينيات.
فتثمين دور الترجمة في تشكيل الأنساق الثقافية يعني بالضرورة الاعتراف بفضائل وعبقرية الآخر والتسليم بأن الثقافة الإنسانية ليست أحادية البعد وإنما هي نتاج سيرورة مثاقفة لانهائية بين شتى أنماط الثقافات الإنسانية . هذا مع العلم، أن مقارنين استثنائيين قد انتبهوا إلى هذا الخلل منذ ستينيات القرن العشرين، وعلى رأسهم المقارن الفرنسي روني إيتيامبل الذي راهن على الترجمة لإنتاج أدب مقارن حقيقي ، متأثرا في ذلك بانتعاش دراسات الترجمة في ستينات القرن العشرين في ارتباط بعلم اللغة وبغنى الشعريات الشرقية التي كان منفتحا عليها.
في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات سيتأسس “علم الترجمة” كعلم مستقل عن حقل اللسانيات ومتفاعل معه في الآن ذاته، وقد ساهم في تأسيسه ابتداء من الستينيات تحديدا علماء لغة (جورج مونان مثلا) منهم من يمارس عملية الترجمة مثل أوجين نايدا، ومنهم من هو متعدد الاختصاصات، يجمع بين علم اللغة والاهتمام الفلسفي مثل جون روني لادميرال وبينهما والنقد الأدبي المقارن، مثل جورج ستاينر أو بين الممارسة الترجمية والشعرية والتنظير الأدبي مثل هنري ميشونيك .من بين المقارنين الذين ساهموا في تطور مجال الدراسات الترجمية في عقد الثمانينيات- وهوعقد التوجه الحقيقي نحو تجديد المقارنة بواسطة الترجمة– نذكر على سبيل التمثيل سوزان باسنيت. كما نذكر في عقد التسعينيات تيجاسويني نيرانجانا وغياتري سبيفاك.
\ س -هل الشق الأول من السؤال يمكن أن يدل على العنوان الفرعي لكتابك ”دراسات في الترجمة: من العام إلى الخاص”؟
أجل، فالمقصود بالعام في هذا العنوان الفرعي هو العلاقة بين دراسات الترجمة والأدب المقارن، مما يعني بالضرورة تسجيل انتماء الكتاب إلى حقل الأدب المقارن الذي يعد مجال الترجميات من بين أهم مجالاته البحثية . في إطار “الخاص” انصب اهتمامي على الترجمة الأدبية الحديثة والمعاصرة ، وعلى قطاع الترجمة المهنية وآفاق التنمية فضلا عن نقد الترجمة وتدريس الترجمة ومأسستها في النسق الثقافي المغربي .
\ س – في كتابك “الترجمة في زمن الآخر: ترجمات الرواية المغربية إلى الفرنسية نموذجا’ ، تربطين تطور الترجمة بعملية إشعاع الكتاب… إلى أي حد يعكس واقع الإنتاج الأدبي و الترجمي في العالم العربي هذه الأطروحة اليوم ؟
ج- ترتبط عملية الترجمة إجمالا بإشعاع الكتابة، فالأمم في الغالب الأعم، سواء كانت أنساقها في حاجة ماسة إلى الترجمة من أجل التشكل والنهوض أم لا، تقدم على ترجمة النصوص التي تمكنت من احتلال موقع متميز داخل نسقها الثقافي الخاص بصفتها إضافة نوعية. وغالبا ما يؤدي إقبال القراء على هذه النصوص وإشادة النقد الجاد بها دورهما في إثارة الانتباه إليها.تماما كما تفعل الجوائز التي تمنح لمنتجيها .
فمن المعروف مثلا فيما يخص الأدب العربي الحديث والمعاصر، أن حضوره كان شبه منعدم في المشهد الثقافي الفرنسي بل والعالمي قبل حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، إذا استثنينا طبعا مجهودات دار سندباد التي عززت ترجمات متفرقة سابقة. ومن نافلة القول الحديث عن مكانة روايات محفوظ في العالم العربي، وعن الدور الفاعل لجائزة نوبل في اهتمام المترجمين به وبالأدب العربي تعميما.
ولأن لكل صورة أكثر من وجه، استنتجت وانا أتمعن في حركة الترجمة من العربية إلى بعض اللغات الأوروبية في سياق استثمار جائزة نوبل العربية انحراف هذا المعطى الملازم لحركة الترجمة عن مساره الصحيح.
فإذا كان مما لاشك فيه أن الفضل الكبير في الانتشار النسبي للأدب العربي الحديث والمعاصر يعود إلى المترجمين والوسطاء العرب- بمن فيهم المؤلفون أنفسهم – الذين أدوا دورا جوهريا في التعريف به حيث تفوق نسبة المترجمين العرب بكثير نسبة المترجمين المستعربين، فمن الملاحظ تبلور ظاهرتين اثنتين لغير صالح الادب العربي والثقافة العربية تعميما:
– هرولة المؤلفين إلى ترجمة إنتاجهم الخاص إلى اللغات الأجنبية، وغالبا ما يتعلق الأمر بإنتاج متوسط أوضعيف القيمة لا يضيف شيئا يذكر للأدب العربي. كل هذا في ظل سيادة المجاملات في الوسط النقدي العربي وشبه غياب النقد الجاد .
-الكتابة من أجل الترجمة، بحيث يعتبر الكتاب الترجمة ملاذهم الخاص للدخول في الإطار العالمي، مما يؤدي طبعا إلى استحضار خصوصيات المتلقي الأجنبي والسقوط فيما يشبه الكتابة تحت الطلب .
في النهاية، نحصل على ترجمات من العربية نسبة ضئيلة منها هي التي تتوفر فيها شروط تمثيلية دينامية الأدب العربي المعاصر.
\ س-الترجمة هل هي نقل للسياق الثقافي كما ورد في كتابك المذكور سابقا، أم هي نقل للمعنى كما يقول البعض؟
ج . يعد تعريف الترجمة من المسائل الخلافية بين المنظرين، فمن بينهم من ينتصر للنص المصدر ومن بينهم من ينتصر للنص الهدف . بمعنى،أن من المنظرين من يرى أن على المترجم تطويع النص المصدر لمقتضيات الثقافة الهدف، وهناك من يطالب باحترام اختلاف النص المصدر وثقافته وعدم الفصل بين الشكل والمضمون أثناء الترجمة .
أنتصر، فيما يخصني، لثقافة الاختلاف التي تحترم طبيعة الكون، فإذا كنا سنطوع نص الآخر لمنظورنا الخاص فلم نسعى إلى ترجمته أصلا ؟
\ س -تشتغلين في البحث الأدبي المقارن، وأنت عضو في اللجنة التنفيذية للرابطة العالمية للأدب المقارن. ماذا عن حضور ومساهمة النقاد العرب في تأسيس وتطور حقل الأدب المقارن؟
ج –لابد من التمييز بداية بين الموازنة والمقارنة بوصفها ممارسة ثقافية إنسانية تتصل بمسار مختلف الثقافات العالمية، ومن بينها الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية، وبين “الأدب المقارن” بوصفه حقلا معرفيا ترتبط نشأته بالتاريخ السياسي والثقافي الأوروبي في القرن التاسع عشر. استنادا إلى هذا التمييز، إذا، يكفي أن نستحضر واقع الثقافة العربية خلال هذا القرن، لنستنتج أنه لم يكن بإمكان النقاد العرب أن يسهموا في تأسيس حقل الأدب المقارن الذي يتضمن مجالات ومباحث وثيقة الاتصال بفكر الحداثة.
إلا أن استنبات المثقفين العرب للأدب المقارن في النصف الأول من القرن العشرين وتفاعلهم معه في سياق تطور مفهومه ومجالاته ابتداء من النصف الثاني من القرن ذاته أدى إلى ظهور إنجازات عربية استثنائية في المجال وأخرى مواكبة ومؤسسة لدينامية مقارنية عربية لها خصوصيتها. ذلك أن المقارنة في الحقل الثقافي العربي، مثلما وضحت في دراسة سابقة، تعيش مفارقة بالنظر إلى تعدد مظهرها المتصل اتصالا وثيقا بدرجة المواكبة وبتقاليد لغات الكتابة والقراءة المتعددة في المنطقة العربية، حيث نسجل تفاوت مستويات النقاد والمقارنين العرب في علاقتهم بالحقل النقدي والمقارني العالمي.
ففي الوقت الذي نجحت فيه أسماء وازنة في تخصيب المشهد الثقافي المقارني العربي من زاوية نقدية، تقف الأغلبية على أعتاب الحقل، لتبرز في المقابل أسماء استثنائية وصلت إلى مرحلة التفاوض مع كبار المفكرين والمقارنين الغربيين وأصبحت بذلك مراجع عالمية. مما يستوجب بالضرورة أخذ تعدد البلدان العربية بعين الاعتبار، ومن ثم تعدد لغات الكتابة فيها أثناء تشخيص وضعية النقد والأدب المقارن في المنطقة العربية وتخصيصا مجال تداخل الاختصاصات والدراسات الثقافية المقارنة.
على العموم، يمكن القول إن تاريخ الأدب المقارن في الحقل الثقافي العربي، يحتاج إلى مزيد من الاهتمام الأكاديمي والمؤسساتي ليترسخ كحقل مؤثر في ظل التفاعل مع المقارنة العالمية. فمما نتج عن التحاقي باللجنة التنفيذية للرابطة العالمية للأدب المقارن، هو تجدد انبهاري بعصامية المقارنين العرب الذين لا تقف وراءهم مؤسسات وفرق بحث عريقة في المجال تسندها ميزانيات محترمة للبحث كما هو الشأن بالنسبة لنظرائهم الغربيين أو الآسيويين (الصين، اليابان،…)، والذين تمكنوا بوسائل مادية محدودة للغاية وفي ظل ظروف معيقة في أغلب الأحيان أن يكونوا أجيالا من الباحثين في المجال، وأن يسايروا الركب المقارني العالمي من زاوية نقدية مراهنين على قدرة الدراسات الثقافية المقارنة على إخصاب “الدراسات العربية”، بل وتوسيع أفقها بجعلها قادرة على الانخراط في دينامية الائتلاف والاختلاف .
في هذا السياق، أسجل أنه ما كان بإمكاني وزميلتي المصرية لبنى إسماعيل (جامعة القاهرة) التي فازت معي بعضوية اللجنة التنفيذية-ونحن نعيش الظروف نفسها في مؤسستينا-اقتراح تأسيس “فريق بحث عربي في الأدب المقارن” لأول مرة في تاريخ هذه الرابطة التي يعود تأسيسها إلى خمسينات القرن العشرين ، لو لم نكن مسنودتين بما أفرزته هذه العصامية الفذة من إنجاز في شتى مجالات الأدب المقارن وبلغات مختلفة. مع العلم أني أتحدث هاهنا عن الأدب المقارن بمفهومه الواسع الذي يعادل حاليا الدراسات الثقافية المقارنة .
\ س– ما تأثير دينامية المقارنين العرب العصاميين على تطور دراسات الترجمة في العالم العربي ؟
ج- من مظاهر دينامية المقارنة العربية بالشكل الذي وضحته، الاهتمام بدراسات الترجمة والدخول في حوار أكاديمي جاد مع نظريات الترجمة ومسارات النقد الترجمي التي أنتجها الآخر. فإذا لم يكن بإمكاننا حاليا ادعاء توفر النسق الثقافي العربي المعاصر على علماء في ميدان الترجمة ، فإن ألف باء الانخراط في إنتاج النظرية، هو حسن تلقيها واستيعابها .
وفي هذا الاطار أشير إلى أن الاهتمام بالترجمة والتفكير فيها ليس قصرا على بعض المقارنين العرب بالمفهوم التقليدي للمقارنة. ففي النسق الثقافي المغربي مثلا تبرز أسماء من حقل الفلسفة تفكر في الترجمة من زاوية اختلافية (طه عبد الرحمن)، وأخرى تفكر فيها استنادا إلى ممارستها لها وإلى مخزونها المعرفي في المجال (عبد السلام بنعبد العالي ).
\ س – يلاحظ أن نسبة الأدب المترجم من وإلى العربية ماتزال دون مستوى التطلعات مقارنة بما أنجز في دول أخرى على صعيد ترجمة الآداب الأجنبية. خصوصا إذا قارنا هذه النسبة بنسبة دول مثل الصين أو فرنسا أو غيرها …كيف تفسرين ذلك؟ وهل غياب مؤسسات متخصصة ساهم في هذه الوضعية؟
ج – إذا نحن قارنا ما ينجز في العالم العربي برمته -بالرغم من كل الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة – بما يترجم في البلدان المتقدمة فإن النتيجة لن تكون بطبيعة الحال لصالح الإنجاز الترجمي العربي. لكن هذا النوع من المقارنة فيه ظلم كبير للجهود الترجمية العربية مثلما انتبهت إلى ذلك في دراستي حول مسارات ورهانات الترجمة الأدبية في المغرب. فمن أجل تثمين الدينامية الترجمية العربية في الألفية الثالثة تخصيصا يجب استحضار الشروط المحيطة بها، وعدم مقارنتها بحركات الترجمة في بلدان غربية متقدمة تملك البنيات والإمكانات اللازمة للنهوض بالمجال. وأعطي مثالا هاهنا بالمغرب:
بحسب ما كشفته إحصائيات النشر في المغرب وحده ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، وكذا البيانات الصادرة سنة 2018عن مؤسسات وطنية ودولية (مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية بالبيضاء، ومؤسسة آنا ليند الأورو-متوسطية للحوار بين الثقافات ومجلة ترانس أوروبيان)، حدث تطور لافت للانتباه في حركة الترجمة الأدبية والثقافية إلى العربية ممثلة بترجمة الإبداع والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
فالمغرب اليوم يعد من بين أكثر البلدان العربية نشاطاً في مجال الترجمة إلى جانب لبنان وسوريا ومصر؛ فهو بالإضافة إلى نشاطه المتزايد في مجال الترجمة الإبداعية، يتصدر–بعد سوريا- لائحة الدول العربية في مجال ترجمة العلوم الإنسانية والاجتماعية، بالرغم من غياب برامج خاصة ناظمة وداعمة للترجمة في المغرب، حكومية كانت أم غير حكومية، من مثل برنامج المركز القومي للترجمة في مصر، وبرنامج المنظمة العربية للترجمة في لبنان، وهي منظمة غير حكومية عالمية المستوى.
هذا لأقول ، إن النتائج كانت ستكون في مستوى التطلعات لو أن الجهود العصامية في المغرب وجدت سندا في هيئات ومؤسسات قوية داعمة، فبحسب علمي ما تزال “الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة” التابعة لأكاديمية المملكة المغربية في مرحلتها الجنينية وهي مرحلة التأسيس وتلمس الطريق.
على كل حال، سنتفاءل بالمستقبل ولا شك إذا نحن أضفنا النتائج التي أفرزتها عصامية المترجمين المغاربة -(في انتظار السند المؤسساتي)- إلى نتائج برنامجي المركز القومي للترجمة بمصر والمنظمة العربية للترجمة بلبنان- (في انتظار مزيد من الهيكلة) – وكذا نتائج الدينامية التي تعرفها حركة الترجمة إلى العربية في بعض دول الخليج التي نمثل لها ببرامج بعض المشاريع الإماراتية مثل مشروع كلمة.
هذا بالنسبة للترجمة إلى العربية ،أما عملية ترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأجنبية (اللغات الغربية تحديدا) فتخضع لشروط مختلفة متصلة بخصوصيات الأنساق الغربية ونظرة الآخر إلى الإنتاج العربي أدبا ونقدا. وحتى أقربك من الصورة أعطي مثالا بترجمة الأدب العربي الى اللغة الفرنسية التي تأتي على رأس اللغات الأجنبية التي تترجم من العربية.
فاستنادا إلى دراسة أنجزتها عن ترجمة الأدب العربي إلى هذه اللغة في الألفية الثالثة،نكتشف أن نسبة تقل عن1% – (0,6 % سنة 2016)- من ترجمات النصوص الأجنبية إلى الفرنسية هي نصوص عربية، تكرس عملية اختيار عناوينها والمتون المثبتة على أغلفتها ظاهرة تسييس الأدب العربي من جهة، والتراتبية التي لا تراعي قانون التطور بين المشرق والمغرب من جهة أخرى.
وإذا كان صحيحاً أن هذه النسبة لا تختلف، وقد تزيد أحياناً، عن نسبة الترجمة عن لغات أخرى أوروبية وغير أوروبية (الهنغارية، البولونية، السلوفاكية، الهندية …، مثلاً)، فهي تظل مع ذلك نسبة ضئيلة جداً بالنظر إلى عدد البلدان العربية، بحيث لا تستقيم المقارنة بين ما يترجم من لغة بلد واحد، أوروبياً كان أم غير أوروبي، وما يترجم من لغة 22 بلداً عربياً يعرف فيها الإنتاج الروائي -على سبيل التمثيل – امتداداً وانفجاراً غير مسبوق، مثلما تدل على ذلك جائزة الشيخ زايد للكتاب في أبو ظبي، والتي تتوصل لجنة الرواية فيها بما يناهز 250 رواية متسابقة كل سنة.
إلى هذه النسبة الضئيلة المتراوحة ما بين 1% و 6،0% التي تمثلها الترجمة من العربية في بلد ما يزال إلى حدود الساعة على رأس قائمة الدول الغربية المترجمة للأدب العربي الحديث – تتلوه من بعيد إسبانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا- تنضاف الترجمات التي تصدرها الدور العربية الفرنكفونية (والأنجلوفونية)، والتي كثيراً ما تستقبلها الصحافة العربية بالتهليل والتهنئة بوصول الأدب العربي إلى العالمية، مع أنها موجهة في الغالب الأعم إلى الأسواق المحلية.
مما يعني أن نسبة الترجمة من العربية نسبة ضئيلة مقارنة باللغات المهيمن وبهذا نخلص ، مع المترجم الفرنسي ريشارجاكمون، إلى أن وضعية الأدب العربي، ضداً على ما وصل إليه هذا الأدب من نضج وما عرفه من تطور يسمح له بأن يكون نداً للآداب العالمية، وضعية هامشية تماما في السوق الأدبي العالمي سواء من حيث أرقام المبيعات أو من حيث الاعتراف الرمزي بهذا الأدب.
\ س -يقول أندري لوفيفر «الترجمة ليست فقط نافذة مفتوحة على عالم آخر أو أيا من هذه التعبيرات المستهلكة، و لكنها قناة تفتح، وغالبا ما يقابل هذا بإحجام غير قليل، وتنفذ عبرها التأثيرات الأجنبية إلى الثقافة المحلية، فتتحداها بل تساهم أيضا في تحويل مسارها»، على ضوء هذه الفكرة إلى أي حد استطاع ما ترجم إلى العربية من الثقافة والأدب والفكر الأجنبي أن يتحدى الفكر والثقافة التقليديين؟
ج –مما لاشك فيه أن الثقافة العربية في عصور الانحطاط ، ليست هي نفسها الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة التي أدت فيها الترجمة دورا رياديا. في هذا السياق، استحضر تعريف النظرية البرازيلية للترجمة بوصفها عملية نقل دم .وأظن أن ماحدث خلال مرحلة النهضة العربية الحديثة من شد وجذب بين أنصار القديم وأنصارالحديث، قبل أن تتمكن الترجمة من تحويل مسار الثقافة العربية الموروثة بواسطة تطعيمها بدم جديد ،يضيء استنتاج لوفيفر.
فيما يخص المغرب يكفي أن نقارن بين إنتاج المغاربة الأدبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والإنتاجات الأدبية المغربية في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين ، لنتمثل الفرق الذي يحدثه الاحتكاك بالآداب الأجنبية.
\ س -هل أحدث التراكم على صعيد ما ترجم من الأدب والفكر الغربيين تأثيرا سلبيا على الهوية ؟
ج .يبدو لي أن التمييز بين الاستلاب والانخراط الواعي في السيرورة التاريخية ، كفيل بإضاءة علاقة الترجمة بالهوية. إن ما يعد خطرا على الهوية في نظري أمران اثنان هما على النقيض : يتمثل الأمر الأول في التقوقع على الذات في ظل الإيمان بأسطورة الأصل وصفاء الثقافات ، فمن العزلة تموت الحضارات. أما الأمر الثاني فيتجلى في النزوع إلى “أسطرة” ثقافة الآخر في مقابل احتقار ثقافة الذات، وذلك في جهل تام بميكانيزمات التلاقح المثمر بين الثقافات التي عبر عنها غوثه أحسن تعبير حينما قال إن كل ما له قيمة ينتمي إلى العالم أجمع. وهذا يعني، أن التثاقف البناء مع الأدب والفكر الأجنبيين يقوي الثقافة العربية ويغني الهوية العربية الإسلامية وليس العكس .
\ س– هل بالإمكان القول إن العولمة فرضت هوية ثقافية كونية؟
ج –أجيبك عن هذا السؤال بطرح سؤال مقابل ناقشته في كتابي “الوطن-الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة “: ما المقصود اليوم بالهوية الكونية ؟ أي ما معنى أن تكون مواطنا كونيا اليوم؟ إن العالم ليس قرية صغيرة مثلما يدعي رعاة العولمة، وهم يسعون جاهدين إلى فرض سياسة التنميط التي تتعارض مع الانتماء الإنساني الاختياري للعالم من زاوية الاحتفاء بالاختلافات الثقافية:
في غياب وطن موحد مخصوص اسمه “العالم” ينتسب إليه المواطن بواسطةأوراق قانونية ثبوتية يكتسب من خلالها الحق الفعلي في المواطنة؛ تظل المواطنة الكونية- بمعنى الانتماء الإنساني الذي يعني بالضرورة رفض “فلكرة” الاختلافات الثقافية لفائدة الأقوى – اختيارا فرديا في واقع أمرها وأسلوب حياة يتبناه الفرد.
إلا أن هذا الاختيار الفردي، لا ينفصل من ناحية عن الموقع الجيو-سياسي والإرث التاريخي والثقافي للوطن الذي تنتمي إليه الذات بأوراق ثبوتية، ويتصل من ناحية ثانية بالتركيبة الشخصية لهذه الذات ومنظورها الخاص لهويتها. مما يعني بالضرورة، أن الذات التي لا تنتمي إلى وطن خاص يمتلك ثقافة خاصة-هي في الآن نفسه ثقافة متفاعلة ومتفردة – ذات لا تملك ما يخول لها السعي وراء المواطنة الكونية لأنها تعد في هذه الحالة على هامش العالم.
(°) عن مجلة الجوبة العدد 83 -2024
(°°) فاتحة الطايب، أكاديمية، أستاذة بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس الرباط، دكتوراه دولة في “الأدب المقارن”، روائية وناقدة ومترجمة، عضو الرابطة العالمية للأدب المقارن، لها مجموعة من الأعمال والأبحاث، شاركت في عدد من الملتقيات والمؤتمرات الأدبية المغربية والعربية.