المسألة الثقافية عند أنطونيو غرامشي

أنوار بريس السبت 8 مارس 2025 - 16:24 l عدد الزيارات : 99590

بقلم ذ محمد المختاري

تعريف المثقف عند غرامشي:

إن نقطة الإنطلاق في رصد مفاهيم غرامشي في حقل الثقافة هي مسألة تعريف المثقف .فبتأسيس هذا الأخير لمعايير جديدة في تعريف المثقف وتمييزه عن غير المثقف يدشن شروعه في نحت مفاهيم وأدوات ثقافية جديدة ،فإذا كان السائد في الأدبيات الماركسية عموما هو تحديد المثقف باعتباره شغيل فكري بالتناظر مع الشغيل اليدوي ،فإن غرامشي يقطع مع هذا التحديد ،ويستبدله بتحديد المثقف لا إنطلاقا من الصفة الفكرية التي تميز عمله بل انطلاقا من وضعه في منظومة العلاقات الإجتماعية في فترة تاريخية معينة.

يشرع غرامشي إذن برفض هذا المعيار الباطني الذي يعتمد في تحديد المثقف ،أي المعيار الذي يقوم على تقسيم المجتمع إلى شغيلة يدويين وفكريين ، ومقتضى رفضه لهذا المعيار هو تعسفيته ،ذلك أن كل عمل يدوي يتضمن بشكل أو بآخر مجهودا ذهنيا إن قليلا أو كثيرا ،كما أن كل عمل ذهني يتضمن معالجات يدوية.

والإشكال في هذه الحالة يطرح بالشكل التالي: ما هي المعايير التي يمكن الإستناد إليها لاعتبار نشاط ما يتضمن قدرا أكبر من النشاط الفكري أو اليدوي ،هذا أولا ،وثانيا ماهي الدرجة التي يمكن انطلاقا منها القول بالتحول من النشاط اليدوي إلى النشاط الفكري ؟

إن رفض المعيار الباطني لتحديد المثقفين يقتضي معيار بديل يتجاوز تعسفية الأول ،ويعطي معيارا أكثر خصوبة ،ولن يكون هذا المعيار عند انطونيو غرامشي سوى تحديد المثقف بالمكانة والوظيفة اللتين يشغلهما في مجمل العلاقات الإجتماعية ،فإذا كان المعيار الباطني السالف الذكر يميز العامل عن الرأسمالي بالتركيز على الطابع اليدوي لنشاط الأول ،والطابع الذهني لنشاط الثاني ،فإن غرامشي وانطلاقا من المعيار الذي يقترحه ،يعتبر أن ما يميز العامل كعامل ليس هو الطابع اليدوي لعمله،وإنما كونه في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي غير مالك لوسائل الإنتاج من جهة ،ومنتج للقيمة ولفائض القيمة من جهة ثانية،ثم ووفق نفس المعيار دائما ،فإن ما يميز الرأسمالي كرأسمالي ليس هو الطابع الذهني لنشاطه ،وإنما كونه مالكا لوسائل الإنتاج ومحتكرا لفائض القيمة .

والخلاصة هي أن المعيار المحدد للمثقف ليس هو الطابع الذهني لنشاطه وإن كان يفترض هذه الصفة ،وإنما مكانته ووظيفته في منظومة العلاقات الإجتماعية، وبامتزاج المعيارين عن طريق احتواء المعيار التاريخي لرذيفه السوسيولوجي ،نكون أمام معيار موحد ينتج لنا صنفين من المثقفين : المثقف العضوي والمثقف التقليدي

تعريف المثقف العضوي عند غرامشي:

إن تحديد المثقف العضوي بكونه المثقف المرتبط بطبقة اجتماعية معينة يجد مشروعيته الواقعية في كون أن كل فئة اجتماعية ترى النور في باديء الأمر على أرض وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي ،تخلق عضويا في نفس الوقت الذي ترى النور فيه شريحة أو عدة شرائح من المثقفين الذين يزودونها بتجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة ، لا في المضمار الاقتصادي فحسب ،وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي أيضا.

بهذا المعنى، فإن كل طبقة اجتماعية في ظل نمط إنتاج محدد، تنحو في إحدى مراحل تطورها إلى خلق مثقفين مرتبطين بها عضويا ،يقومون بنشاطات فكرية تدخل في صميم إحدى التخصصات المتفرعة عن الوظيفة التي تقوم بها تلك الطبقة في ظل نمط إنتاج معين بحكم موقعه فيه، وإذا انطلقنا من كون أن الطبقتين الأساسيتين في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي هما البورجوازيا والبروليتاريا بحكم التناقض الرئيسي في ظل الرأسمالية هو بين الرأسمال والعمل ، فإن الطبقتين المؤهلتين موضوعيا إلى خلق مثقفين عضويين مرتبطين بهما هما الرجوازية والبروليتاريا ، وسوف تسعى إذن كل من الطبقتين إلى خلق مثقفيها العضويين الذين يقومون بكل المهام الفكرية الداخلة في إطار التخصصات المتفرعة عن الوظيفة الأساسية التي تحتلها الطبقة بحكم موقعها في علاقات الإنتاج، وعليه ستحاول البرجوازية خلق هؤلاء المثقفين لتأمين وضمان سيادتها الطبقية ،في حين أنه سيكون على مثقفي البروليتاريا العضويين أن يناهضوا هذه السيطرة ، ويقودوا الطبقة البروليتارية للإطاحة بسيادة البرجوازية وبناء المجتمع اللاطبقي ،وسوف يكون حقل الصراع متوزعا في شتى المستويات التي يحتويها بشكل عام كل من المجتمع المدني والسياسي. إن مستويات الصراع بين المثقفين العضويين لكل من الطبقتين سوف لن تكون سوى مجموع الوظائف التي يقوم بها المثقف العضوي ، والتي تجعل منه بالضبط مثقفا عضويا، ويركز غرامشي هذه الوظائف في المستويات التالية:

1-الوظيفة الاقتصادية :

المثقفون هم منظمو الوظيفة الاقتصادية للطبقة التي هم مثقفوها العضويين ، فلتنظيم الإنتاج داخل المؤسسات الصناعية ولضبط استغلال البرجوازية لفائض القيمة المنتج من طرف العمال داخل المصانع ،تحتاج هذه الأخيرة إلى تقنيين واختصاصيين . ولتنظيم الاقتصاد  على الصعيد الوطني وفق المصالح الطبقية تحتاج أيضا إلى متخصصين في الصناعة المالية ، وهؤلاء جميعا وإن كانوا ينحدرون في الغالب من صفوف البرجوازية الصغرى ،فإنهم يشكلون  بقيامهم بمهام الوظيفة الاقتصادية هاته، وبقاء الطبقة الاجتماعية عند حدود خلق مثقفين عضويين في المستوى الاقتصادي يجعلها غير قادرة على فرض تصوراتها وايديولوجيتها بوجه عام على المجتمع ،وغير قادرة بالتالي على تأمين الوصول إلى السيادة الطبقية بحيث أنها بعجزها عن خلق مثقفين عضويين على مستوى الهيمنة تعجز عن توسيع قاعدة تحالفاتها ،مما يعيق قدرتها على فرض قيادتها لمجمل المجتمع.

2-وظيفة الهيمنة :

من أجل السعي لفرض المصالح الطبقية ، فإن الطبقات الأساسية تسعى إلى فرض هيمنتها على باقي الطبقات ، وهنا تخلق كل من الطبقتين مثقفيها العضويين بغرض فرض الهيمنة، فمثقفي البرجوازية يعملون في الأحزاب السياسية وفي مختلف الهيئات الثقافية كالمدرسة والصحافة والاعلام عموما والمنتديات الأدبية والفنية لنشر تصورات الطبقة السائدة ولخلق نوع من الإجماع حولها، وفي ذلك ضمان لقبول باقي الطبقات بالقيادة الطبقية للطبقة السائدة البرجوازية . وفي مقابل البرجوازية تخلق البروليتاريا مثقفيها العضويين ،والذي عبرهم تسعى إلى مناهضة الهيمنة البرجوازية والإطاحة بها،وذلك عبر حزبها وعبر المدارس أو الهيئات التي تنشئها وكذا عبر وسائل إعلامها من جرائد ومجلات …

إن وظيفة الهيمنة تفرض وظيفة أخرى سابقة عليها منطقيا ، فإذا كانت الهيمنة تتلخص في عمل طبقة معينة عبر مثقفيها العضويين عبر نشر مفاهيمها وتصوراتها للحياة لخلق وعي طبقي ،فإن ممارسة الهيمنة تقتضي مسبقا أن هذه الطبقة لابد أن تمتلك تصورا واحدا وموحدا ومتجانسا ومطابقا للإمكانات التي توفرها لها وضعيتها كطبقة في علاقات الإنتاج،وبذلك تقع على كاهل المثقفين العضويين مهمة شاقة وجد معقدة لكنها ذات أهمية حاسمة .

3-وظيفة الإكراه :

إذا كان الهدف من الهيمنة التي تمارسها الطبقة السائدة هو ضمان قبول باقي الطبقات الاجتماعية بقيادتها الطبقية ، وهنا علينا أن نفترض وضعا تكون فيه الطبقات الأخرى متوفرة على وعي طبقي متجانس ومستقل ، في هذه الحالة سوف يكون من الصعب على الطبقة السائدة ضمان استمرارية سيادتها الطبقية بالإعتماد بشكل أساسي على الهيمنة ،بل سيكون عليها لتأمين سيطرتها الإلتجاء إلى وسائل الإكراه أو بلغة غرامشي التركيز على المجتمع السياسي كمستوى من مستويات الصراع الطبقي في البنية الفوقية. وأمام رفض باقي فئات المجتمع لهذه القيادة الطبقية ستلجأ الطبقة السائدة إلى تأمين سيادتها بالعنف والعنف المنظم ، وفي هذا السياق تتدخل أجهزة الشرطة والسجون والجيش ومختلف آليات الجهاز الأمني، وهذا لايعني أن الطبقة السائدة لا تلجأ إلى الإكراه إلا عند عجزها عن ممارسة الهيمنة ،بل إن ممارسة الإكراه تبقى موازية في نفس الوقت لآلية الهيمنة،ويبقى التركيز على أحدهما أكثر من الآخر في ظروف معينة هو الذي سيتغير.والخلاصة هي أن كل من يمارس إحدى الوظائف المشار إليها لفائدة إحدى طبقات المجتمع هو مثقف عضوي لهذه الطبقة نفسها.

  • تعريف المثقف التقليدي :

بتركيز كبير يمكن تعريف المثقف التقليدي بكونه المثقف المرتبط عضويا بطبقة زائلة أو في طريقها إلى الزوال ،بحيث بقيت رواسب ايديولوجيتها متجسدة في شريحة من المثقفين بحكم الاستقلالية النسبية للفكر عن الواقع.وبلغة أخرى يمكن حصر المثقفين التقليديين بكونهم المثقفين الذين يبقون في الوجود بعد زوال نمط الإنتاج الذي أنتجهم. إن الطبقات الأساسية في نمط الإنتاج هي البرجوازية والبروليتاريا ،وهاتان الطبقتان هما اللتان لا تنتجان مثقفين تقليديين في ظل الرأسمالية، وبالتالي فإن مثقفي الاقطاع سوف يكونون بالنسبة إلى مثقفي البرجوازية والبروليتاريا مثقفين تقليديين، كما أن مثقفي الرجوازية أنفسهم يعتبرون تقليديون بالمقارنة مع مثقفي البروليتاريا في فترة الانتقال إلى الاشتراكية، وبهذا المعنى ينسحب مصطلح التقليدي على المثقفين الذين لايرتبطون عضويا بالطبقات الأساسية ،ينعت المثقف بكونه تقليدي بالمقارنة مع الطبقة المتقدمة ،وهذا ما يترتب عليه بالتلازم أن المثقفين الذين هم تقليديون بالنسبة للطبقات الأساسية كانوا أو لايزالون في الوقت نفسه المثقفين العضويين لطبقات زائلة أو في سبيلها إلى الزوال.

محمد المختاري: متصرف تربوي

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

السبت 26 أبريل 2025 - 00:08

المكتبة الوطنية تعلن عن إصدار تقرير سنوي حول حصيلة النشر والكتاب في المغرب

الجمعة 25 أبريل 2025 - 22:53

تتويج الصحفية المغربية سعيدة الحاجي من قبل مجلس العالم الإسلامي للإعاقة والتأهيل بالسعودية

الجمعة 25 أبريل 2025 - 15:17

عقد اجتماع بين وزير التعليم العالي عز الدين ميداوي والمرصد الوطني لمنظومة التربية و التكوين

الجمعة 25 أبريل 2025 - 12:16

المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تعقد مؤتمرها الوطني الثاني عشر أيام 25-26-27 أبريل 2025 بالرباط

error: