الدار البيضاء: أزمة الترحال السياسي وأزمة الحكامة المحلية
جواد رسام
السبت 22 مارس 2025 - 19:39 l عدد الزيارات : 124834
تعيش مدينة الدار البيضاء على وقع حراك سياسي غير مسبوق، حيث تعالت طبول بداية الترحال السياسي في صمت معلن عنه، و في مشهد يعكس هشاشة المشهد الحزبي وضعف الالتزام السياسي لدى العديد من المنتخبين. أصبح السعي وراء المناصب والمكاسب الشخصية هو المحرك الأساسي لدى فئات واسعة، في ظل غياب معايير واضحة لاختيار النخب السياسية، وضعف آليات الرقابة والتأطير داخل الأحزاب.
يطرح اليوم سؤال جوهري حول مدى قدرة الإطار القانوني والتنظيمي الحالي على ضبط هذه الظواهر، خاصة في ظل الاختلالات العميقة التي تشوب عمل الجماعات الترابية، والتي تجعل من الإصلاح ضرورة حتمية لضمان حكامة جيدة، وتحقيق تنمية محلية فعلية.
لقد عرفت الدار البيضاء، كغيرها من المدن الكبرى، موجات من الترحال السياسي، حيث يسعى المنتخبون إلى تغيير انتماءاتهم الحزبية بحثا عن مواقع أكثر نفوذا، أو للهروب من التزاماتهم السابقة. هذه الظاهرة ليست بالجديدة، لكنها اليوم أصبحت أكثر خطورة، لأنها تعكس هشاشة الأحزاب السياسية نفسها، والتي عجزت عن خلق مناضلين حقيقيين مؤمنين ببرامجها وتوجهاتها.
التفسير الرئيسي لهذه الظاهرة يكمن في ضعف القوانين المنظمة للترحال السياسي، حيث لم تفعل العقوبات بشكل صارم، كما أن بعض الأحزاب نفسها أصبحت تتساهل مع الظاهرة، بل وتستغلها لاستقطاب المنتخبين دون أي اعتبار للأخلاقيات السياسية.
فمن بين الإشكاليات الاخرى التي تواجه المشهد السياسي المحلي، بروز فاعلين جمعويين يقفزون مباشرة إلى عالم السياسة دون أن يمتلكوا الحد الأدنى من الكفاءة أو التكوين السياسي اللازم.
لقد أصبحنا نرى شخصيات لم تنجح في مهامها الجمعوية، لكنها تجد في السياسة وسيلة للوصول إلى مواقع القرار، دون أي رؤية أو مشروع حقيقي لخدمة المصلحة العامة.
هذا الوضع يعكس تقصير الأحزاب السياسية في تكوين مناضليها، حيث تفتقد العديد من الأحزاب إلى مدارس تكوينية تؤهل المرشحين لتحمل المسؤولية، سواء من الناحية القانونية، أو التدبيرية، أو حتى من حيث الوعي بالمصلحة العامة.
من المفارقات العجيبة في العمل الجماعي الحالي أن العديد من المنتخبين يصلون إلى مناصب المسؤولية دون دراية كافية بالاختصاصات المنوطة بهم، سواء الذاتية أو المنقولة أو المشتركة. والنتيجة هي مشهد من العشوائية والارتجال، حيث يجد بعض المنتخبين أنفسهم عاجزين عن اتخاذ القرارات المناسبة، بل إن بعضهم يختزل دوره في البحث عن الامتيازات الشخصية بدل خدمة المصلحة العامة.
هذا الجهل بالإطار القانوني والتنظيمي يفرز مجالس ضعيفة، غير قادرة على بلورة مشاريع تنموية حقيقية، فتظل المجالس رهينة للشلل والصراعات الداخلية، في غياب أي رؤية واضحة أو قدرة على التسيير الفعال. والدار البيضاء نموذج صارخ لهذا الواقع، حيث تعاني العديد من المقاطعات من تعثر المشاريع وتوقف الخدمات بسبب سوء التدبير، مما يجعل الإصلاح التشريعي والتكويني ضرورة مستعجلة لتجاوز هذه الإخفاقات.
و لتشخيص الوضع الراهن لا بد من التوقف عند طبيعة الاختصاصات التي تتمتع بها الجماعات الترابية، والتي تنقسم إلى ثلاثة أصناف:
الاختصاصات الذاتية: وتشمل المجالات التي تمتلك فيها الجماعات صلاحيات كاملة، مثل تدبير المرافق الجماعية، وتخطيط التنمية المحلية، والنقل الحضري، وتنظيم الأسواق. لكن هذه الاختصاصات تواجه صعوبات في التفعيل بسبب ضعف الإمكانيات المالية، والتداخل مع السلطات المركزية.
الاختصاصات المنقولة: وهي الصلاحيات التي تنقلها الدولة للجماعات، مثل بعض الخدمات الصحية والتعليمية، لكنها تظل مشروطة بقرارات السلطة المركزية، مما يحد من فعاليتها.
الاختصاصات المشتركة: وهي المجالات التي تتقاطع فيها مسؤوليات الجماعات مع الدولة، مثل التهيئة العمرانية والبيئة، لكن ضعف التنسيق يجعل هذه الاختصاصات غير واضحة في التنفيذ.
تشكل مدينة الدار البيضاء نموذجا صارخا لفشل نظام التدبير المحلي، حيث تعرف مختلف المقاطعات حالة من الصراع الداخلي والبلوكاج، ما يؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات العمومية، والمشاريع التنموية.
و من بين أبرز الاختلالات التي تعاني منها المجالس المنتخبة هو تركيز الصلاحيات في يد الرؤساء، حيث يرفض العديد منهم تفويض بعض المهام لنوابهم، مما يخلق حالة من الجمود والشلل داخل المجالس. هذا الوضع يجعل من النظام الحالي أقرب إلى النظام الرئاسي غير الديمقراطي، حيث يتحكم الرئيس في كل القرارات، دون إشراك حقيقي لباقي المنتخبين.
و هناك امر آخر اصبحنا نلاحظه في المشهد الجماعي الحالي هو إطلاق الإشاعات المغرضة كسلاحا يستخدمه بعض المنتخبين الفاشلين لمحاربة كل من يحمل رؤية إصلاحية حقيقية. فبمجرد أن يظهر منتخب جاد جاء بفكرة وبرنامج طموح لتنزيله على أرض الواقع، تتكالب عليه حملات التشويه والتشكيك، ليس لأنه أخطأ، بل لأنه يفضح بفكره وعمله عجز الآخرين وتهاونهم. هؤلاء الذين لا يملكون سوى السعي وراء المصالح الشخصية، يجدون في نجاح أي مبادرة إصلاحية تهديدا يكشف زيف شعاراتهم، فيلجؤون إلى بث الأكاذيب، وتحريف الحقائق، لإيقاف عجلة التغيير وإبقاء الأمور على حالها. لكن الحقيقة تظل أقوى من الإشاعة، والمشاريع الجادة وحدها قادرة على إسكات الأصوات التي لا ترى في العمل الجماعي إلا وسيلة للربح الشخصي، لا لخدمة الصالح العام.
و للخروج من هذه الأزمة، لا بد من بذل مجهود ، و لابد من تظافر القوى الحية و اعتماد إصلاحات جوهرية تشمل:
* تعديل القوانين المنظمة للانتخابات: يجب وضع نصوص صارمة تمنع الترحال السياسي، وتعاقب المتورطين فيه، كما يجب تعزيز آليات الشفافية في تمويل الحملات الانتخابية، للحد من استخدام المال الفاسد.
* إصلاح الأحزاب السياسية: على الأحزاب تحمل مسؤوليتها في تكوين مناضليها، وإعدادهم بشكل جيد، لضمان كفاءة المنتخبين، بدل التركيز على الولاءات الشخصية والمصالح الضيقة.
* تعزيز صلاحيات نواب الرؤساء: يجب إجبار الرؤساء على توزيع الاختصاصات داخل المجالس، وتفعيل مبدأ الديمقراطية التشاركية، لضمان اشتغال المجالس بشكل سلس ومنظم.
* مراقبة العمال والولاة لعمل المنتخبينو مواكبتهم : ينبغي تفعيل دور السلطات المحلية في تتبع أداء المنتخبين، وضمان احترامهم للالتزامات القانونية، تفاديًا لحالات التعطيل والجمود داخل المجالس.
* الاستثمار في العنصر البشري: بدل التركيز على مشاريع غير ذات جدوى، يجب توجيه الجهود نحو تكوين وتأهيل العنصر البشري، باعتباره حجر الأساس في أي عملية تنموية.
إن الأزمة السياسية التي تعرفها الدار البيضاء ليست سوى انعكاس لمشاكل أعمق تعاني منها المنظومة الحزبية والإدارية بالمغرب ككل. إذا لم يتم تدارك الوضع عبر إصلاحات جوهرية، فإن المدينة ستظل رهينة صراعات سياسية عقيمة، على حساب التنمية والمصلحة العامة. الكرة اليوم في ملعب الأحزاب، والمشرع، والسلطات المحلية، لتصحيح المسار وضمان حكامة جيدة تعيد الثقة للمواطن في مؤسساته المنتخبة.
تعليقات
0