ورقة أعدها للنشر: أحمد بيضي
في أمسية دافئة من أمسيات الجنوب، لبست زاكورة حلتها البهية لتحتضن لحظة استثنائية من تاريخها الثقافي والتربوي، احتفاءً بالذكرى الخمسين لتأسيس جمعية الشعلة، لم يكن الحدث مجرد احتفال عابر، بل موعدا عميق الدلالة، استحضرت فيه المدينة والذاكرة الجماعية خمسين سنة من النضال الثقافي والتربوي، ومسيرة حافلة بالعمل الدؤوب في تربية الأجيال، وصون الحلم، وتكريس الثقافة كحق أساسي للجميع.
بقاعة الحفل، تقاطرت الوفود من الجبال والواحات، رجالا ونساءً، أطفالا بأعين لامعة، وشيوخا يحملون حكايات الزمن الجميل، كأن زاكورة أرادت أن تقول: شكرا للشعلة لأنك صنعت الفرق، وحولت الصمت إلى غناء، والفراغ إلى فضاءات للحلم والإبداع، هنا، وفي أجواء يملؤها الدفء، صدحت أصوات الأطفال بأهازيج الحياة، وأضاءت الأنوار ركحا يتهيأ للبَوْح،
افتُتح الحفل بتلاوة عطرة لآيات من الذكر الحكيم بصوت الطفلة رشيدة الحايكي، تلته أهازيج الوطن من النشيد الوطني، ونشيد الجمعية، وأغنية “فرحتي” التي حملت الحضور إلى البدايات، إلى زمن الإيمان الصادق بأن التربية والثقافة ممكنة، بل وضرورية، لتتوالى الكلمات، لا كخطب بروتوكولية، بل كرسائل حب ووفاء، عبرت عن الامتنان لمن بنوا الجسور بين أجيال الشعلة.
كلمة رئيس الجمعية، ذ. سعيد العزوزي، تحدث فيها عن جمعية أنجبت أجيالا مؤمنة بالتغيير، وعن مدينة لم تكن محطة عابرة بل قلبا نابضا لمشروع جمعوي رائد، مستعرضا في كلمته تاريخ الشعلة كما لو أنه يقلب ألبوما عائليا، تحكي فيه كل صورة قصة تضحيات وصمود، وأكد أن الخمسينية ليست ذكرى رقمية بل محطة تأمل وتجديد للوفاء، واعتراف صريح بدور المدن البعيدة عن المركز في صناعة مغرب متوازن، عادل في توزيع الضوء والحلم.
ولم يفت العزوزي التأكيد أن اختيار زاكورة محطة للاحتفال لم يكن اعتباطياً، بل وفاء لمدينة احتضنت الشعلة منذ بداياتها، وأن فروع الجمعية في الجنوب الشرقي تشتغل بإمكانات بسيطة، ولكن بإرادة جبارة تصنع المستحيل. وختم كلمته برسالة واضحة: فلنحمل المشعل مجدداً، ولنجعل من الثقافة والتربية أدوات للتغيير، ومن الطفولة والشباب مشروعاً لبناء المستقبل.
مندوبة فرع زاكورة، مريم العمراني، تحدثت بدورها بفخر واضح، مؤكدة أن الفرع استطاع أن يعانق إشعاعه كل الجماعات المجاورة، من محاميد الغزلان إلى تاكونيت وتامكروت وتينزولين، حيث لا يزال المتطوعون يزرعون بذور الأمل وسط تحديات التهميش، موجهة تحية خاصة لأطر الشعلة التي آمنت بجدوى الرسالة، ودعت الشباب إلى احتضان المشروع الجمعوي والانخراط في دينامية التغيير نحو غد أجمل.
لحظة التكريم الأولى جاءت صامتة في مظهرها، لكنها مشحونة بالمعاني والدلالات، حين صعد الرواد يتقدمهم رئيس الجمعية وعضو المكتب الوطني حسن صبوري إلى المنصة، حاملين في قلوبهم قصصاً لا تنسى، وتسلموا دروعا رمزية كانت بمثابة عربون اعتراف وعرفان، وذلك في لحظة تهاطلت فيها التصفيقات الملفوفة في زمن يقرأ جيدا نصف قرن من الذاكرة.
بعدها جاء دور الفن، والبداية من فرقة “جذور الصحراء” التي أطلقت أهازيجها فارتعشت الرمال طربا، وتوالت الفقرات الفنية بانسجام عجيب: مسرحية “من حقي نقرا” سلطت الضوء على معاناة أطفال المغرب العميق، ثم فقرات باللغة الإنجليزية أبرزت انفتاح أبناء زاكورة على العالم دون التفريط في الهوية، قبل تكريم ثانٍ خُصّ به أساتذة جعلوا من التعليم والفن والرياضة رسالة نبيلة.
وجاءت رقصة “الحق سلاحي” لتجسد بأجساد الأطفال قيم المواطنة والتحدي، قبل أن تعود نغمة “الغيوان” لتوقظ الذاكرة من سباتها، وتحيل على وجدان مشترك لا يشيخ، في لحظة أخرى من الحفل، قدمت جمعية شباب تمكشاد رقصة “الركبة” الصحراوية، كأن الأرض تكتب رسالة حب على جسد الرمل، واختتمت لوحات مستلهمة من فلسطين الأمسية، بين أوبريت ومسرحية جسدتا التضامن كفعل مقاومة، والرقص كشهادة حياة.
ومع عودة “جذور الصحراء” إلى الركح، كانت الأجساد تنطق بما لا تقوله الحروف، قبل أن تختتم فرقة “شهب” الحفل بمقطوعة موسيقية عمّت أصداؤها المكان، وبدت معها زاكورة وهي توقع عقدا جديدا مع الحلم والأمل والإنسان، وفي حضنها أثبتت جمعية الشعلة أن خمسين سنة من النضال ليست سوى بداية جديدة، وأن القصائد القادمة تُكتب الآن… في أعين الأطفال وقلوب الحالمين.
تعليقات
0