بين دمارٍ لم يترك حجرًا على حجر، وتهجيرٍ قسري يجبر آلاف العائلات على النزوح مرارًا، وغياب أي أفق سياسي، يترنح قطاع غزة على حافة الهاوية. المشهد اليومي في القطاع لم يعد مجرد حرب عسكرية، بل تحول إلى عملية تفكيك منهجية لمقومات الحياة نفسها، في سيناريو يذكر بأقسى حالات التطهير العرقي في التاريخ الحديث.
الجيش الإسرائيلي، الذي حوّل ما يقارب 30% من مساحة القطاع إلى “مناطق عازلة”، لم يكتف بفرض سيطرته العسكرية، بل شرع في تدمير شامل للبنى التحتية. مباني سكنية بأكملها تتهاوي تحت جرافات عسكرية، مستشفيات تحولت إلى أنقاض، مدارس أصبحت مراكز إيواء للنازحين الذين يفتقدون لأبسط مقومات الحياة الكريمة. تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن تدمير 80% من المنشآت المدنية، في عملية تبدو وكأنها إعادة هندسة ديموغرافية بآليات عسكرية.
الوجه الآخر لهذه الكارثة يتمثل في سياسة التهجير القسري الممنهج. ما تسميه إسرائيل “أوامر إخلاء أمنية” يتحول على الأرض إلى عملية نزوح جماعي بلا عودة. عائلات بأكملها تُجبر على ترك منازلها للمرة الثالثة أو الرابعة، لتنتهي في خيام مكتظة تفتقر لأدنى شروط الصحة العامة. وكالات الغوث تتحدث عن أزمة إنسانية غير مسبوقة، حيث يعتمد معظم سكان القطاع على المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
في غياب أي رؤية سياسية واضحة، تتصاعد التكهنات حول مستقبل القطاع. بعض الأصوات داخل الحكومة الإسرائيلية تتحدث صراحة عن “إعادة التوطين” أو تحويل غزة إلى منطقة اقتصادية تحت السيطرة الإسرائيلية، بينما يرى مراقبون أن الهدف الحقيقي هو جعل الحياة في القطاع مستحيلة، لدفع السكان إلى الهجرة الطوعية. هذه السيناريوهات تذكر بما حدث في فلسطين التاريخية عام 1948، وإن بآليات مختلفة.
المفارقة الأكثر إيلامًا تكمن في الصمت الدولي المطبق. فبينما تدين بعض الدول الأعمال العسكرية، لا يوجد أي ضغط حقيقي لوقف آلة الدمار أو وضع حد لمعاناة المدنيين. حتى الدعوات إلى “حل الدولتين” تبدو اليوم أكثر بعدًا عن الواقع من أي وقت مضى، في ظل غياب أي إرادة سياسية للتفاوض.
في النهاية، يبدو أن غزة تدفع ثمنًا ثلاثيًا: ثمن مقاومتها، وثمن موقعها الجيوسياسي، وثمن عجز المجتمع الدولي. السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل يمكن لشعب أن يصمد إلى ما لا نهاية في وجه آلة دمار لا تعرف الرحمة، وفي ظل عالم يبدو وكأنه قرر التخلي عن أبسط مبادئ العدالة؟ التاريخ قد يحمل الإجابة، لكن الثمن يبدو فادحًا جدًا.
تعليقات
0