رغم مرور أكثر من شهر على توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، لا تزال تركيا تعيش على وقع غضب شبابي آخذ في الاتساع، يتحدى سلطة حزب العدالة والتنمية ويعيد إلى الأذهان مشاهد حراك “غيزي بارك” الذي هز البلاد عام 2013. وبينما نجح الرئيس رجب طيب أردوغان في إبعاد أبرز خصومه السياسيين، إلا أن الشارع التركي، وخصوصًا الشباب، ما زال يردّ برفض متصاعد وصوت يعلو للمطالبة بالتغيير.
في 19 مارس/آذار، أوقف إمام أوغلو في منزله بتهم تتعلق بالفساد والإرهاب، وهي اتهامات وصفها أنصاره والمراقبون بأنها ذات دوافع سياسية تهدف إلى إقصائه عن الساحة، بعد أن بات يشكل تهديدًا حقيقيًا لطموحات أردوغان السياسية، خاصة بعد فوزه في انتخابات بلدية إسطنبول لعامي 2019 و2024. هذا التوقيف لم يكن مجرد حدث قضائي، بل نقطة تحول فجرت واحدة من أكبر موجات الغضب الشعبي في تركيا منذ أكثر من عقد.
في الأيام الأولى من الاحتجاجات، تدفق عشرات الآلاف كل ليلة إلى ساحة بلدية إسطنبول، وامتدت التظاهرات إلى شوارع عشرات المدن، في مشهد تجاوز الأطر الحزبية والتقسيمات التقليدية، وجمع مواطنين من مختلف الأعمار والانتماءات. هدأت هذه الموجة مؤقتًا مع حلول عيد الفطر، غير أن الهدوء لم يكن سوى استراحة مؤقتة لعاصفة يبدو أنها تتجدد الآن، بشكل أكثر تنظيما وعمقًا.
فعلى مدار الأيام العشرة الأخيرة، عادت الاحتجاجات لتنبض من قلب الجامعات في إسطنبول وأنقرة، وامتدت إلى العشرات من المدارس الثانوية في أنحاء البلاد، حيث خرج الطلاب في مظاهرات تندد بقرارات حكومية تقضي باستبدال عدد من المعلمين، وهي خطوة فسّرها كثيرون على أنها محاولة لفرض السيطرة الأيديولوجية على المؤسسات التربوية من قبل حزب العدالة والتنمية.
وفي هذا السياق، قالت ديميت لوكوسلو، أستاذة علم الاجتماع في جامعة يدي تبه بإسطنبول، لوكالة فرانس برس، إن مشاعر الرفض لدى الشباب “كانت كامنة، لكنها ظهرت إلى العلن بشكل واضح منذ منتصف مارس”. وأضافت أن العديد من الشباب “يرفضون النزعة المحافظة وأسلمة المجتمع، ويطالبون بمزيد من الحقوق والحريات”.
هؤلاء الشباب الذين لا يعرفون سوى عهد حزب العدالة والتنمية، والذي دام أكثر من عقدين، بدأوا يرفعون أصواتهم للتشكيك في شرعية الهيمنة القائمة، بل وتحديها. تقول إيدا، طالبة في سنتها الأخيرة بإحدى ثانويات إسطنبول، “إنه تراكم الغضب بين ملايين الشباب الذين لم يعرفوا سوى حزب العدالة والتنمية والذين لم تتم مراعاتهم”. وتضيف: “نريد أن نكسر الصمت الذي بنت عليه الحكومة هيمنتها”، مشيرة إلى استمرار احتجاز عشرات من الشبان الذين شاركوا في التظاهرات.
لا يقتصر المشهد على غضب شبابي عابر، بل يعكس أزمة أعمق تتعلق بشرعية الحكم ومكانة الحريات العامة في تركيا اليوم. فمع كل تظاهرة، وكل صوت معارض يعلو، يتضح أن توقيف إمام أوغلو لم يكن نهاية لمشكل سياسي، بل بداية لحراك اجتماعي قد يعيد تشكيل المشهد السياسي التركي برمته.
وفي ظل هذا الاحتقان، يجد حزب العدالة والتنمية نفسه في مواجهة جيل جديد من الأتراك، لا يهاب القمع، ويستخدم أدوات جديدة للتعبير عن رفضه، في الشارع كما على المنصات الرقمية، رافعين شعار “لا صمت بعد اليوم”.
وفي الوقت الذي تراهن فيه الحكومة على الزمن والإنهاك لإخماد هذه الحركة، تشير المؤشرات إلى أن الغضب الشعبي، وخاصة في صفوف الشباب، لا يزال في بداياته، وربما يحمل في طياته تحولات عميقة في مستقبل تركيا السياسي.
تعليقات
0