في لحظة دقيقة من مسار قضية الصحراء المغربية، يترسخ في الوعي الجماعي المغربي أن المرحلة الأولى قد حُسمت لصالح السيادة المغربية، ليس فقط بفعل حركية دبلوماسية نشطة، بل بفضل إجماع داخلي نادر يلتف حول الثوابت الوطنية الكبرى. لقد استطاع المغرب أن يُقنع المجتمع الدولي بمشروعية موقفه، متسلحاً بمقترح الحكم الذاتي كحل جدي وواقعي، ومؤسساً لمسار تفاوضي يأخذ بزمام المبادرة. غير أن المعركة لم تنتهِ بعد، بل إنها تدخل طوراً جديداً أكثر تعقيداً، حيث بدأت بعض القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في الدفع نحو تعميق مضامين المقترح المغربي، في محاولة لتحقيق توازن هش بين المغرب والجزائر، ولو على حساب وضوح السيادة.
في هذا السياق المليء بالتحديات والمناورات، جاءت الكلمة السياسية القوية للكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، خلال افتتاح المؤتمر الوطني التاسع للنقابة الوطنية للصحة العمومية، لتضع النقاط على الحروف وتبعث برسائل واضحة إلى الداخل والخارج. لم يكن خطابه طويلاً ولا تقليدياً، بل جاء مختزلاً ومركزاً على جوهر اللحظة، منبهاً إلى أن الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا ليست نهاية المطاف، بل مجرد خطوة ضمن مسار يجب أن يُتوَّج بقرار واضح من مجلس الأمن الدولي، يقر صراحة بأن لا حل خارج سيادة المغرب وحكمه الذاتي على أقاليمه الجنوبية.
كلمة لشكر حملت وعياً متقدماً بخطورة الاسترخاء السياسي أمام ما يبدو مكاسب دبلوماسية، مبرزاً أن الإشادة بإشارات التقدم لا يجب أن تحجب استمرار وجود “الجمهورية الوهمية” داخل الاتحاد الإفريقي، رغم سحب أغلب الدول الإفريقية لاعترافها بها. إن المطبة الإفريقية، كما سماها لشكر، تمثل اليوم تحدياً موازياً للضغوط الدولية الرامية إلى إعادة تدوير الملف على أساس حلول رمادية.
ولهذا، جاءت دعوته الجريئة لتنظيم ندوة وطنية بمدينة العيون، لا لتكرار الخطابات، بل لفتح ورش حقيقي، صادق، داخلي، يضم كل الصحراويين المؤمنين بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، من داخل الوطن وخارجه، لإعادة تملك الملف من طرف أصحابه، بمن يمثلون ساكنة الصحراء فعلياً في المجالس المنتخبة، لا عبر واجهات مزيفة مفروضة من الخارج.
هذه الدعوة، في جوهرها، ليست فقط مقترحاً حزبياً عابراً، بل تمثل استشرافاً وطنياً لمرحلة قادمة ستكون فيها الكلمة لمن يملكون وضوح الموقف وشجاعة القرار. فالتحول الذي دعا إليه جلالة الملك لا يجب أن يبقى في خانة النوايا، بل يجب أن ينتقل إلى تغيير فعلي في تمثلنا للقضية وفي أساليب إدارتها. ولعل أكبر خطر يتهدد هذا المسار اليوم هو أن يتحول “الحكم الذاتي” إلى صيغة تقاسمية غير معلنة، تنال من سيادة المغرب بالتقسيط، عبر ضغوط مفروضة أو تسويات مشروطة.
وهنا، تكمن الحاجة الملحة إلى مجتمع واعٍ وناقد، لا يكتفي بالتلقي، بل يشارك في صياغة الموقف، ويقوي الجبهة الداخلية بإدراكه العميق لحجم اللحظة، بعيداً عن المزايدات أو الارتهان لخطابات الفتنة أو الاستسهال. دعم الدولة اليوم لا يعني الصمت، بل يعني الانخراط الواعي، والفعل السياسي المسؤول، ورفض كل تقزيم أو ابتذال للحق المغربي. نحن أمام مفترق طرق حقيقي، لا بد فيه من الارتقاء في الطموح، ورفع سقف التفاوض، والتأهب لكل السيناريوهات، حتى لا نُفاجأ بمرحلة يتراجع فيها منسوب الإجماع الوطني أو تضيع فيها معالم السيادة تحت ضغط التوازنات الدولية.
إن ما جاء في كلمة إدريس لشكر، وفي الدعوة لندوة وطنية شاملة، ليس مجرد ترف سياسي، بل هو التمرين الحقيقي على المساهمة الفعلية في حماية الوطن، وهو ما يجب أن يكون شعار المرحلة: أن نكون جميعاً شركاء في السيادة، لا متفرجين على تفاصيلها، وأن نكون مستعدين لكل شيء، لأننا نعيش بالفعل مرحلة حساسة وخطيرة، تحتاج إلى وعي متبصر وقرار سيادي لا يخضع إلا للمصلحة العليا للوطن.
تعليقات
0