الكتاب كنز ثمين. صيد من درجة رفيعة بالنسبة للسياسيين والصحافيين من كل فج عميق: ففي الأركيولوجيا الإعلامية لن ينضب تأثيره وإشعاعه ولن ينحسر ضوؤُه في معرفة الراهن.
المقارنة مع الحاضر تفرض نفسها. والبيداغوجيا أيضا..
فالمرة الأولى، ولعلها الأخيرة، التي قَبِل فيها الملك الراحل الحسن الثاني، أن يحاور صحافيا مغربيا، كانت مع حميد برادة. أحد كبار الصحافيين المغاربة وفي العالم. كان الصحافي مناضلا معارضا سبق أن حوكم بالإعدام، وكان الحوار حدثا في حد ذاته: فقد كان برادة الصحافي المحكوم بالإعدام يحاور الملك الذي صدر الحكم باسمه!
مشهد غير مألوف، ولا بد أن يثير الدهشة ويكشف عن شيء ما كان يتغير، على مستوى المهنة الإعلامية قبل أن يحدث في الواقع السياسي، ومن المفارقات المدهشة أن الحوار جرى تحت مظلة المكتب الوطني للفيلم الكندي أياما فقط بعد حوار مع الخصم اللدود للملك، الرئيس الجزائري وقتها الهواري بومدين. أكبر من وثيقة هذا الحوار بل مؤشر على مرحلة.
دار الحوار كما هو في الكتاب الذي صدر بمناسبة المعرض .. يوم الاثنين 26 غشت 1985. بعد حوالي 20 عاما من حكم الإعدام في 1965.
في مثل هذا الحوار، كان كل من تابعه ينتظر السؤال الأول: فكان سؤالا مغايرا لكل التوقعات الذهنية التي تغذت من سيرة الصحافي المناضل وسيرة الملك رئيس الدولة: جلالتكم كيف تشرحون قضية الصحراء لطفل صغير ولنقل حفيدكم؟ ..
ليس مهما التفاصيل التي تكتسي اليوم راهنية أكبر في كل ما يتعلق بالصحراء .. نستخلص فقط أن بعض الصحافيين يولدون ويستمرون، وتستمر معهم السياسة في أوجها، هم فصيلة من الصحافيين في طور الانقراض إن لم تكن قد انقرضت مشاتلها، عندما يرفضون في المقابل اقتسام السردية الوطنية مع سياسيين من نفس الالتزام الأخلاقي المهني، يختلط لديهم الظاهر مع العمق والسطحي مع الجوهر ..
ومن حسن الصدف أو من ثرائها القدري أنني كنت أقرأ الفصل المتعلق بقضية برادة وحرب الرمال وما تلاها، في سيرة فتح لله ولعلو (زمن مغربي، التي تستحق العودة إليها)، ولاحظت بغير قليل من الدهشة تفاصيل القضية التي ستكون وراء الحكم بالإعدام غيابيا، موقفه من حرب الرمال في 1963، وكيف أن الصدفة العابثة بل الساذجة ربما، حالت دون وقف تصريحه ضد مغرب الحسن الثاني نفسه في هاته القضية.. لو كبيرة ترتسم في الأفق.!
حميد برادة بالنسبة لجيلين، على الأقل، من اليساريين والاتحاديين الذين لم يعيشوا مراحل التأسيس والانبثاق من اللحظة الوطنية، كان رفيق المهدي بنبركة، والشاب الذي ترأس «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أوطم»، الطلابية في زمن الصراع المباشر مع دولة الحسن الثاني، زمن أوفقير والمذبوح والضباط الانقلابيين، وزمن الوطنيين الكبار. وهو الهارب إلى المنفى في الجزائر ثم فرنسا، والذي سيحاور الحسن الثاني.. ومنذ ذلك الحين لم يكن له ثان أو رديف.
لكن الحوارات التي جمعها برادة وأصدرها لا تقدم لنا هذه الصفحة وحدها، بل تقدم لنا نموذجا من التراث السياسي ـ إعلامي مما يستطيعه الصحافي الطالع من عمق الكفاح والالتزام. الذي استطاع أن يشرف الصحافة كامتداد لتراشحها مع السياسة والنضال الطلابي والالتزام الفكري (في مرحلته المتقدمة من الالتزام الإيديولوجي)..
إن الكتاب في حد ذاته يضم جزءا من السيرة الخاصة بالوطنيين، وهو عملية تكاد تقود إلى ما يسمى «إنقاذ السيرة الذاتية للوطن»، تحضر فيها ومن خلالها ظلال كثيرة لوجوه وقامات وشخصيات سياسية كما هو ظل عبد الرحمان اليوسفي عندما يتحدث عن برادة، وهو يخلف المهدي بن بركة على رأس منظمة القارات الثلاث: فيقول له :محكوم بالإعدام يخلف محكوما آخر بالإعدام».
ومن الكتاب نفهم أن سؤال الصحافي برادة عندما يطرح على الآخرين يؤسس السيرة الأخرى، بضمير المتكلم، من خلال رجال السلطة في أعلاها، أي من قادة الدول الملوك والرؤساء، أمثال الحسن الثاني وأحمد بن بلة أو سيدار سنغور السينغالي، أو من خلال رجالات السياسة الوطنيين أمثال بوستة، بوعبيد ولفقيه البصري، إذا اقتصرنا على المغرب أو من خلال سلطة الظل، في حالة أحمد اكديرة ووسيلة زوجة بورقيبة أو رفيق هوفويت بوانيي أو سلطة المعارضة، وسلطة المثقفين من خلال محمد حربي والطوزي وآسيا جبار ..رشيد المومني وبوعلام صنصال..
هذا الكتاب (حوالي 690 صفحة) لا بد من ترجمة حواراته كما مقالاته التي وقعها برادة بانتقائية مهنية عالية، كتاب نادر في المكتبة العربية تكتسي حواراته راهنية متجددة وظلالا خضراء تمتد إلى حاضرنا وحاضر جيراننا في فترة نعلن من الآن أنها ستكون مفصلية وحاسمة في تاريخنا وتاريخ المنطقة .. ولنا عودة إلى الكتاب بشكل مطول!
تعليقات
0