المجال القروي في صلب الاهتمام الملكي: إعادة تشكيل القطيع كمدخل لإنصاف الفلاح وتثبيت الأمن الغذائي

علي الغنبوري الثلاثاء 13 مايو 2025 - 11:35 l عدد الزيارات : 12208

بناء على التوجيهات السامية التي صدرت عن جلالة الملك محمد السادس نصره الله خلال المجلس الوزاري المنعقد يوم 12 ماي 2025، أضحت عملية إعادة تشكيل القطيع الوطني للماشية مسألة مركزية في صلب السياسات العمومية الرامية إلى تحقيق الأمن الغذائي ودعم الاستقرار الاجتماعي في العالم القروي، ويكتسي هذا الورش أهمية خاصة في ظل تداعيات التغيرات المناخية وموجات الجفاف المتكررة التي أثرت سلبا على النشاط الفلاحي، وعلى مردودية قطاع تربية الماشية، ما يجعل من إعادة بناء هذا القطيع خطوة استراتيجية، ليست فقط لحماية دخل الفلاحين ومربي الماشية، بل أيضا لضمان توازن الأسواق وتوفير المواد الأساسية للمستهلك المغربي بأسعار معقولة.

وقد جاء القرار الملكي بإسناد تأطير هذه العملية إلى وزارة الداخلية كتعبير واضح عن الإرادة العليا لتجاوز المقاربة التقنية الضيقة، واعتماد منطق المرفق العام المتكامل، القادر على التعبئة الميدانية والاستجابة الفورية، فوزارة الداخلية باعتبارها الجهاز الأكثر قربا من المواطنين في العالم القروي، تمتلك القدرة على التنسيق مع السلطات المحلية والمصالح الخارجية والمجتمع المدني، لضمان نجاعة تنفيذ هذا الورش، بعيدا عن منطق التعقيدات الإدارية، وحرصا على إنصاف الفئات المتضررة وتفادي كل أشكال الريع أو الزبونية.

وحتى تكون إعادة تشكيل القطيع الوطني عملية فعالة ومستدامة، فإنها تقتضي في المقام الأول إرساء آلية دقيقة لإحصاء الأضرار وتحديد الفلاحين ومربي الماشية المتضررين، وذلك من خلال اعتماد معايير موضوعية وشفافة تأخذ بعين الاعتبار حجم الضرر، وطبيعة القطيع المفقود، والموقع الجغرافي، والحالة المناخية للمنطقة، مما يستدعي تعبئة اللجان الإقليمية والمحلية في كل العمالات والأقاليم للقيام بمهام المسح والتدقيق، مع توثيق المعلومات رقميا من أجل تتبع شفاف لسير العملية.

وبالتوازي مع ذلك، ينبغي تطوير برنامج دعم مباشر ومشروط، يتم توجيهه لمربي الماشية الحقيقيين، بحيث لا يقتصر الدعم على توفير رؤوس الماشية كتعويض، بل يشمل أيضا منح الأعلاف المدعمة، وتحسين الولوج إلى المياه، وتقديم خدمات بيطرية مجانية، وذلك في إطار مقاربة متكاملة تهدف ليس فقط إلى استعادة القطيع كما كان، بل إلى جعله أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات المناخية وأكثر إنتاجية وجودة.

كما أن نجاح هذا الورش يمر عبر إشراك التنظيمات المهنية والجمعيات الفلاحية ومجالس الجماعات الترابية، من أجل تعبئة الطاقات المحلية وتوجيه المستفيدين وضمان احترام معايير الاستفادة، مما يساهم في توسيع قاعدة الرقابة المجتمعية، ويخلق نوعا من التعبئة الجماعية حول الهدف المشترك، وهو إعادة التوازن للمنظومة الرعوية الوطنية، وبناء علاقة ثقة بين الدولة والمواطن في المجال القروي.

ومن جهة أخرى، تطرح عملية إعادة تشكيل القطيع تحدي التمويل، ما يقتضي مثلا توجيه جزء من موارد صندوق مكافحة آثار الكوارث الطبيعية، وكذا مساهمة صندوق التنمية الفلاحية، في تمويل هذا المشروع، مع إمكانية تعبئة شركاء دوليين من وكالات التعاون والتمويل الإنمائي، الذين سبق أن عبروا عن استعدادهم لدعم المغرب في مواجهة آثار التغير المناخي، وهو ما يمنح بعدا استراتيجيا لهذه العملية، ويؤكد أن تدبيرها لا يمكن أن يتم بمنطق ظرفي بل بمنطق استشرافي ومستدام.

كما يجب أن ترتبط هذه العملية بتحديث منظومة تربية الماشية، من خلال تحفيز التحول نحو سلالات أكثر مقاومة للحرارة والجفاف، وتشجيع تثمين المنتجات الحيوانية المحلية، وتعزيز الابتكار في الأعلاف البديلة، وتكوين الشباب القروي في تقنيات التربية الحديثة، مما يساهم في بناء جيل جديد من مربي الماشية، قادر على تدبير القطيع بكفاءة، وتحويل الفلاحة التقليدية إلى نشاط اقتصادي مربح ومستدام.

وتبقى المسألة الحيوية هي تأمين تتبع دقيق ومراقبة صارمة لهذه العملية، مع تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث يتعين أن يتم تقييم أداء المتدخلين ومردودية التدابير المتخذة، لضمان أن الأموال العمومية تصرف في وجهتها الصحيحة، وأن الدعم يصل فعلا إلى المستحقين، كما يجب العمل على إحداث مرصد وطني لتتبع حالة القطيع وتطوراته، يكون أداة لتوجيه السياسات العمومية وتحديث الاستراتيجية الوطنية للرعي وتربية الماشية.

إن التوجيه الملكي بشأن إعادة تشكيل القطيع الوطني يعكس إرادة ملكية ثابتة في جعل الفلاحة، بكل مكوناتها، قطاعا حيويا في معادلة التنمية والاستقرار، ويؤكد أن جلالة الملك، حفظه الله، لا يتعاطى مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية بمنطق قطاعي أو ظرفي، بل من خلال رؤية شمولية تدمج البعد الاجتماعي بالبعد الترابي والمؤسساتي، مما يفتح آفاقا جديدة لتجديد العلاقة بين الدولة والمجال القروي، وجعل الفلاح المغربي فاعلا مركزيا في تنزيل النموذج التنموي الجديد.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الثلاثاء 13 مايو 2025 - 21:46

إجراءات تنظيمية جديدة تقضي بتنظيم العلاقة بين مؤسسات التعليم الخصوصي والأسر

الثلاثاء 13 مايو 2025 - 21:33

توقيع مذكرة تفاهم بين الهيئة الوطنية للنزاهة ونظيرتها بجمهورية كوريا

الثلاثاء 13 مايو 2025 - 20:04

وهبي يتمسك بتقييد لجوء الجمعيات إلى القضاء ويرفض تعديلات المعارضة على المادة 3 من مشروع المسطرة الجنائية

الثلاثاء 13 مايو 2025 - 18:57

27 قتيلاً و2771 مصاباً في أسبوع..حوادث السير الحضرية تسجل أرقاماً مقلقة

error: